للأديب والكاتب "محمد رفاعي" صدرت مجموعة قصصية جديدة تحت مسمي "شخص.. كان هنا " التي تحمل ملامح شاعرية النص وجمال اللغة ودقة التفاصيل. تنطلق المجموعة من أربع قصص رئيسية وهي: ليلة أمس، "شخص.. كان هنا" التي سميت بها المجموعة، محكيتان عن الجدة، الفخاخ. كل قسم يحوي عدداً من القصص، ما عدا قصة ليلة أمس . بدأ الكاتب مجموعته بجزء شعري بديع للشاعر الكبير محمود درويش، وكان معبراً إلي حد ما عن أجواء وطبيعة المجموعة الشاعري المتدفق بروح المعذب الرقيق المشاعر والأحاسيس، وتتركز كل تلك المشاعر في سؤال مهم لماذا تبدو الأشياء هكذا ؟ والحل الوحيد هو الانتظار، انتظار أمل يتفتح في أرواحنا ويعيدنا إلي الحياة مرة آخري حتي لو كان الانتظار سيخرج لنا شبحا طالعا من شقوق المكان.. تلك الكلمات هي التعبير الفصيح عن ماهية قصص المجموعة حيث تشوب أغلبها حالة من الغياب والحضور في آن واحد، وبين الحنين إلي الماضي وإبراز مشاعر وتفاصيل صغيرة لا تخونها الذاكرة إطلاقا مهما مر الزمن وتغيرت الأماكن أو أصبحت أطلالا نبكي عليها. ففي قصة " ليلة أمس" يستهل الكاتب القصة بجزء من سفر أيوب «.. ونجوت أنا وحدي لكي أخبرك "، وهي عن شخص قلق يراوده حلم في ليال متتالية، وفي الليلة الحادية عشرة، فاجأه خمس مرات، إنه قلق مؤرق ومؤلم يدفعه إلي حد البلل في الفراش وليس أمامه غير التذكر والتأمل الصافي لشجن الغروب، ومريم التي تركض لتسبقه في لمّ البلح وهذا أيضا في الحلم، وأخيرا يستيقظ السارد ويشعر بالعذاب والوحدة والغربة الشديدة حتي يقرر أنه سيخرج من الكهف ويستكمل رحلته الطويلة وهو مليء بالحيرة والشك، حين يتساءل بدهشة التائه المحموم بالذكريات الجميلة أكانوا هنا ؟ لكن المخرج الوحيد لعذابه هو العيش غريبا يفتش في الذكريات عن أوهامه الضائعة ويحسم قرار الفراق والحسرة عندما ينتقي عودا من الغاب يقطعه وينفخ فيه نفسا، فيجيء نفس الصوت الأثير القديم، إنه أشبه بأيوب الذي أخبرنا عنه الكاتب في بدء القصة، ولكن بطلنا سيقاوم هلوسة الليل وهبات الريح وسيبني بجوار هذه الأطلال بيتا من الحجر والشجر. كان هنا الجزء الثاني تحت مسمي "شخص.. كان هنا" يحتوي علي إحدي عشرة قصة، هناك خيط دقيق يربط تلك القصص في شيء واحد يخص المضمون وإن اختلفت الكلمات والبناء السردي للقصص، وهو أن مضمون القصص تقريبا يعبر عن حس الاغتراب الهائل والصمت المهلك الذي يكبل أشخاص القصص في هاوية النسيان، والبحث عن بقايا الأشياء التي مازالت وذكريات أرواح أشخاص قد فنوا إلي الأبد، فلا يظل غير السؤال المرير، كما أشار الكاتب في قصة "الضحي" هو وحيد الآن.. أنهي سنوات الدهشة والتساؤل.. سكون الليل وصمت العالم البدائي أمامه.. بينه وبين العالم بوح لا ينقطع يعيش السادر بين اليقظة والحلم حتي يمتزجان وتصبح الأمور أمامه مختلطة حتي يمر في عقله السؤال القاسي.. هل كنت تحلم ؟ أم كنت تعيش الواقع في جب ؟ نلاحظ أن السارد (أي المسكوت عنه ) أو المؤلف الضمني علته تساؤلات كثيرة وكبيرة، المغزي عن الحياة والبشر والأماكن والذكريات، حالة تجعله كطائر يحلق في آفاق التأمل والتوحد مع عالم الطبيعة من نهار وليل وجبال وأشجار مليئة بروح الطبيعة الخفي الغامض قائلا " لم كل هذا الصمت ؟ هل عقد ميثاقا لا ينفرط عقده مع الليل الذي لا يبوح " قصة دفء الأمكنة. إن قصص المجموعة مقسمة إلي أربعة أجزاء لا أجد مبرراً منطقياً أو وظيفة فنية تخدم مسار الحكي القصصي، فتوالي القصص دون وضعها في أجزاء أربعة، كان سيعطي المجموعة شكلا أبسط وأفضل دون الحاجة إلي تقسيمها إلي أربعة أجزاء، خاصة أن قصص المجموعة تعبر عن وحدة متكاملة، حيث تصدر جميعها من روح واحدة، وأن أختلفت اسماء القصص وتفاوت المحتوي من قصة لأخري، لأن المشاعر والتفاصيل الغالبة علي جميع القصص يؤدي إلي مضمون واحد وهو الشجن والوحدة والاغتراب والحنين إلي أشباح لأرواح أو أطلال اندثرت بفعل قانون الزمن الهالك وهو الزوال الذي يحكم كل الأشياء والكائنات الحية، إن كانت قصة "الجد الآخر" تغاير هذه المعايير إلي حد ما بإضافة بطل أقوي وأعظم وهو المكان، حيث يموت ولده الوحيد من ركام الجبل أثناء العمل في مشروع السد العالي، وحيث يركض البطل /السارد عند مدخل البلدة ليعبر الكبري الخشبي الصغير فيواجهه الصمت التام مخيما علي المكان ، في تلك القصة بالذات نجد براعة الكاتب في إشارة بناء هرمي من الجد والأب والحفيد مما يعمق من بناء القصة ويسرد الأحداث والتاريخ والماضي برهافة وتدفق لغوي بديع، نموذج علي ذلك حين يقول في قصة «الجد الآخر» ص 39 "جئت لك لكي أجلس معك مثلما جلس جدي و أبي . جسده ممدود علي السرير. . لا حركة، لا صوت. هل كان مستغرقا في نوم عميق؟ لا رجفة قلب . هل فارقت روحه أرضنا وراحت تركض في الفضاء الواسع ؟" "ما الذي يمكن أن يشتريه في هذه الصحراء الخاوية" قصة عربة تجمع المتروكات نجد أن شعور الفقد والبحث عن الجد يتواجد في العديد من القصص، مثلا في قصة "عربة تجمع.. ..." يقول :"جلس العجوز الذي نما داخلي" وفي قصة "حلب" تبدأ القصة "هامسني جدي.. ...." ، وفي قصة "الجد الآخر" ( ورحت أركض خلف جدي مسرعا في شوارع البندر"، وحتي في قصة "الهجرس: يبلغكم السلام" يتحدث عن الغائب الذي ربما هرب من سياط السخرة، أثناء حفر القناة.. وظهر فجأة يقاتل بجوار عرابي الكتف بمحاذاة الكتف . إنه دائما يتحدث عمن رحلوا، وأخذوا الماضي والحاضر ولم يبق شيء للمستقبل غير الرثاء والبكاء علي الأطلال، وعن العمر الذي ضاع هدرا "وأيقن بعد كل هذا العمر والترحال أن حياته كلها عبث، بدا كأنه غريب عن المكان" قصة غريب علي دكة. أيضا كعادته اللازمة له في أغلب قصص المجموعة، لا ينسي ذكر الجد حتي لو كان تماما لحدث وليس كمحور أساسي، كما ذكرنا في القصص السابقة "أبي من بقي من هذه العائلة في البدء رحل جدي " قصة غريب علي دكة. نبوءة المستقبل حتي ينتقل بنا القاص إلي ودائع الجدة وشيخان ولا أحد ومحكيتان عن الجدة التي تشمل قصتان، نبوءة، والأشياء، التي هي رمز الماضي وروح الحاضرة، نبوءة المستقبل وهي تستحضر أشياءها بين الحين والآخر، نجد الجدة الحنون تخبرنا بالنبوءة العظيمة وهي تنتظر أمام الفرن وتحكي دون ملل عن نبوءتها مهما خانتها الذاكرة "وصارت تتوه في الزمن والبشر ودفء أماكنها" قصة نبوءة، وأيضا مهما تشاغلت بالحكي عن الغائب ابنها الذي عمل في حرس الحدود، وعاملا في السد، وكان سائقا في مصلحة الجمارك في أقصي الشمال، رغم هذا هي حارسة أمينة علي أشيائها التي في الصندوق وهي علي الدوام تخرجها وتشرع في تنظيفها وإحصائها، وقد شعرت بنشوة النصر، ونغلق الحجرة خلفها. أما الجزء الأخير من المجموعة وهو "الفخاخ "الذي يستهله القاص بجزء من قصيدة لأمل دنقل، ويتكون من تسع قصص ولا يخلو إطلاقا من نفس الحالة كامتداد شعوري قوي يحيطه الجد أو الجدة . ففي قصة "فأس "يذكرنا بتاريخ الأجداد، قال: أوصيكم بالفأس والساقية المركونة منذ عقود، تاريخ الأجداد يعود، لا تتعجلوا ولا تقلقوا". وفي قصة فخاخ " أمامه جلست جدتي وأمي " وخاتما القصة بمقولة أثيرة: "مايزال أبي يلقم النار وأمي وجدتي يتبادلان الحديث". وتبدأ قصة الاتجاه المعاكس للريح " خرجت جدتي من الحلقة.. ....." . حيث نلاحظ بقوة أن الجدة الأكثر اختراقًا للأحداث ويتعمق ذكرها حتي لو كانت ميتة حتي آخر القصة "قامت جدتي وسارت علي الجسر في الاتجاه المعاكس للريح....."، تستمر هكذا في قصص: ورق قديم، فارس علي جواد من طين وكائنات حتي يصل لذروة الحدث والمكان والزمان مع حكايات الجد والجدة، في قصة صوت هامس يقول القاص وقد تحول إلي كيان سرمدي:"يشعر أنه ملك الناس والعالم، وأنه صار حقيقة مطلقة لا يزحزحه همس، أو كلمة أو حركة".