إذا أردت أن تحيط بثورة 1919 فهناك ثلاثة أبواب كبري لها، باب »المؤرخ» الذي يقف حارساً عليه عبدالرحمن الرافعي وكتابه العظيم »ثورة 19»، الكتاب الذي يعده كثيرون سجلاً لها ولشهدائها، وباب »الشاهد» ويمسك بمفتاحه الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين، الذي ولد في بيت زعيم الأمة سعد زغلول، وبالتالي كان قريباً من كل رموز الثورة، واستطاع أن يجمع شهادات ووثائق لم يتمكن أحد غيره من جمعها، مصطفي أمين لم يكن صحفياً ينقل من أوراق وإنما شاهداً كبيراً علي كل الأحداث الكبيرة التي مرت بها مصر، ولذلك فعمله »الكتاب الممنوع» يعد واحداً من أهم المراجع للتأريخ حول تلك الفترة المهمة من تاريخنا، أما باب »العاشق» فيملكه الكاتب العظيم نجيب محفوظ، الذي أحب سعد زغلول، والثورة، ورأي في نفسه أحد البراعم التي تفتحت وسط لهيبها. هنا ثلاثة مقالات ترسم ملامح المؤرخ والشاهد والعاشق. ولد عبدالرحمن الرافعي في القاهرة في عام 1889، لأسرة ترجع أصولها إلي بلاد الشام. أي أن عُمره عند قيام ثورة 19 كان حوالي 30 سنة، وبذلك ينتمي الرافعي إلي الجيل الذي ولد ومصر تحت وطأة الاحتلال، وكان من الطبيعي أن يرفض هؤلاء الشباب ذلك الوضع المهين، وأن يكون هذا الجيل هم من يحركون الثورة علي أرض الواقع. تخرَّج الرافعي من مدرسة الحقوق وعمل بالمحاماة، كما عمل بالسياسة من خلال الحزب الوطني. وبعد ثورة 19 نجح في الدخول إلي البرلمان، كما تولي منصب الوزارة أيضًا. تبدأ قصة عبد الرحمن الرافعي مع كتابة التاريخ بشكلٍ جديّ ومنتظم مع كتابه »تاريخ الحركة القومية في مصر»، الذي صدر في عام 1929. وواضح تمامًا مدي تأثير ثورة 1919 ونمو الوعي القومي في دفع الرافعي إلي كتابة التاريخ والبحث عن جذور الحركة القومية. من هنا بدأ الرافعي تاريخه منذ نهاية الفترة العثمانية ووصول الحملة الفرنسية علي مصر، كبداية للحقبة الحديثة في تاريخ مصر، وإحساس المصريين بذاتهم، والحاجة إلي الاستقلال. وسرعان ما توالت الكتابات التاريخية للرافعي، ويُلاحظ أن الرافعي ومنذ عصر محمد عليّ، الذي رأي فيه البداية الحقيقية لمصر الحديثة، أخذ يؤرِّخ بتاريخ الحكام العظام. إذ أصدر كتابه »عصر محمد عليّّ» في عام 1930، ثم أصدر كتابه »عصر إسماعيل» في عام 1932. ثم يعود الرافعي ليغير أسلوبه في التحقيب والتأريخ، ويؤرِّخ باسم حقبة وليس حاكم، فيصدر كتابه »الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي»" في عام 1937. ويعنوِّن الرافعي كتابه التالي بعنوان »مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال» الذي يصدر سنة 1942. لكنه وقبل صدور كتابه الأخير تغلب عليه نزعته وانتماؤه للحزب الوطني، وعشقه لزعيمه، ويلجأ إلي أسلوب آخر في التحقيب والتأريخ بالأبطال وليس بالحكام. إذ يُصدر الرافعي كتابه »مصطفي كامل: باعث الحركة الوطنية»" في عام 1939، كما يُصدِّر كتابا آخر للزعيم الثاني للحزب الوطني »محمد فريد: رمز الإخلاص والتضحية» في عام 1941. هنا نلاحظ النزعة العاطفية والهوي في كتابة التاريخ من عناوين الكتب »باعث الحركة الوطنية» أو »رمز الإخلاص والتضحية». ولا يكتفي الرافعي بذلك بالنسبة لزعيميه، بل يعتبر ما كتبه عنهما هو »تاريخ مصر القومي». وهنا لا يؤرخ الرافعي بالحكام كما فعل مع محمد عليّ وإسماعيل، بل بالأبطال، أو في الحقيقة أبطاله هو؛ إذ يتجاهل الرافعي الخديو عباس حلمي الثاني، ولا يؤرخ باسمه علي الرغم من الدور الوطني الهام للخديو عباس حتي في مساعدة مصطفي كامل ومحمد فريد. ومع ثورة 19 يعود الرافعي مرة أخري إلي التحقيب والتأريخ بالأحداث الهامة إذ يُصدِّر كتابه »ثورة 1919» في عام 1946. وهنا نلاحظ أن الرافعي أرَّخ لزعيميه المفضلين مصطفي كامل ومحمد فريد، فاعتبر تاريخهم هو »تاريخ مصر القومي»، بينما لم يؤرِّخ باسم أحمد عرابي بل عنوَّن كتابه »الثورة العرابية والاحتلال البريطاني»، ونفس الشيء بالنسبة لسعد زغلول إذ جعل عنوان الكتاب »ثورة 1919»، كما أطلق الرافعي علي الفترة التالية »في أعقاب الثورة» يقصد بالطبع ثورة 19. ومن الملاحظات المهمة في تأريخ الرافعي بصفة عامة، وثورة 19 وثورة 23 يوليو بصفة خاصة ما كتبه الرافعي في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه »ثورة 1919» التي صدرت في عام 1955، أي بعد ثورة يوليو بثلاث سنوات. إذ يكتب الرافعي في المقدمة: »لقد أعقب ثورة 1919 قيام ثورة 23 يوليو 1952. ثورة الجيش المباركة التي تعيش البلاد في ظلها، والتي أحدثت من التغيرات والإصلاحات الجوهرية في حياة الشعب السياسية والاجتماعية والقومية ما يزيد علي نتائج ثورة سنة 1919... علي أن ثورة سنة 1952 لا تغض من مكانة الثورة التي شبت سنة 1919». هنا ربما نجد مبالغة شديدة من جانب الرافعي في مدح ثورة 23 يوليو مبكرًا، وربما لو كتب نفس العبارة بعد سنوات، سواء بعد 56، أو بعد قوانين يوليو الاشتراكية لتقبلنا منه ذلك. لكن ربما يمكن تفسير ذلك من خلال انتماء الرافعي للحزب الوطني، والموقف من حزب الوفد، وأيضًا من خلال تعاطف ثورة يوليو المبكر مع قيادات الحزب الوطني، كذلك رغبة الرافعي نفسه في تمرير إعادة طباعة كتابه عن ثورة 19 في عهد ثورة يوليو. وحتي أثناء تأريخ الرافعي لأحداث ثورة 19، لا ينسي الرافعي زعيمه المفضل محمد فريد، فينتهز الرافعي وفاة محمد فريد أثناء الثورة ليخصص للحديث عنه الصفحات من 359 إلي 376. وربما لم يخصص مثل هذه الصفحات لسعد زغلول نفسه »رمز» الثورة، أو حتي لأحد قادة أو أبطال هذه الثورة. وحتي عند ذكر اسم سعد زغلول في مقدمة كتابه عن ثورة 19 فإنه يذكره غير كامل »سعد» أو »سعد وزملائه». ومهما يكن من موقف عبد الرحمن الرافعي من »حزب» الوفد وزعيميه سعد زغلول ومصطفي النحاس، مقارنةً بزعيميه المفضلين مصطفي كامل ومحمد فريد، فإن ذلك لا ينقص من أهمية كتابه »ثورة 19» والتسجيل الوافي لأحداث الثورة وشهدائها. إنه سفر الثورة من حيث كم الوقائع والتفاصيل علي الرغم من انحيازات الرافعي السياسية والعاطفية.