ستلبث، صورة سقراط متجرعا السم، فداء للحقيقة.المرجعية المثلي لما ينبغي أن يكون عليه المثقف، أو العارف بسر النار.اعتبارا،لأفق عصره وكذا مصير المجموعة الانسانية التي ينتمي إليها. فنادرا، إن لم يكن منعدما، استساغة حديث "سلبي" عن مثقف وازن، فما بالك بمؤسس من بناة الحضارة،كما الشأن مع ابن خلدون،ومن علي منواله. في مقام كهذا،يختلط لدينا غالبا التهيب بالانذهال، إلي درجة التوثين والتقديس. هكذا ،لن تذهب الجرأة العقلية،بأي واحد منا،مهما بلغ دماغه فطنة و اتساعا لحمولة الاختلاف، كي يعثر لدي ديكارت مثلا،عن فضيحة بشكل من الأشكال، تخلخل صرحه الفلسفي. أو، يبرز عند ابن رشد تناقضا فجائعيا بين مادعا إليه فكره، ثم تصرفاته علي مستوي حياته اليومية. إلخ. بمعني، ذاك التطابق الهوياتي، في أقصي تجليه الميتافيزيقي،بين الانتاج المذهبي للمفكر، وممارسته التجريبية. اللهم، ما كان يدخل في إطار الجانب الشخصي، المحض لحيواتهم، ولا يمس من قريب أو بعيد منظومتهم المفهومية، أو يخل بقاعدة مماهاة المفكر لفكره، حينما يختبره الموقف و المسؤولية. لقد نمذج لنا التاريخ، حالات كثيرة عن علماء وفلاسفة و أدباء وروائيين، مارسوا الشذوذ واللواط ومختلف الانحرافات الجنسية، وعاشوا يومياتهم متسكعين وبوهيميين ومعربدين ... .ذلك شأنهم الخاص،واختياراتهم الفردية، ولايحق لأي محاكمتهم عليها. ما يهم أساسا، السلوكات الموضوعية المفصلية، التي بانتقالها إلي دائرة العام، تحول مجري التاريخ نحو هذا المنحي أو ذاك المنتهي.عندما، تطرح الأبعاد الأنطولوجية الكبري: الشجاعة، الوفاء ،الاختيار، المصير،الرهان، التحدي، المجابهة، إلخ. وهي المرتكزات، التي استفاض في تحليلها، الفلاسفة الوجوديون وجل منظري التجارب اليسارية، إلي حد أن سارتر سيتنكر مطلقا لجدوي الأدب، حينما يعجز هذا الأدب،عن القيام بشيء لصالح الإنسان في لحظاته المأساوية. بالنسبة، لبيوغرافيا مفكري أوروبا البارزين، تموضعت حالات رصدها المختصون ولاسيما المولعون بالخبايا السيرية، من بينها مثلا، تصنيف النسق الفلسفي الهيجيلي ضمن الاتجاهات الرجعية، وتمهيده الطريق أمام أنظمة حديدية كما الشأن مع بسمارك وهيتلر. أو أن ألتوسير ، استمر في فترة من الفترات منتجا إيديولوجيا للحزب الشيوعي الفرنسي،علي الرغم من الأخير أضحي كتلة عقائدية جامدة، يبرر كليا الممارسات السياسية لموسكو التي تحولت بدورها إلي وجه إمبريالي، مع أن ألتوسير مفكر لامع، ولايبدو أنه حقا منسجم بانفتاح تأويلاته الفلسفية الذكية، مع انتمائه التنظيمي البيروقراطي. أو،شيطنة الموقف السارتيري من الفلسطينيين والعرب إبان حرب1967 ، وتصنيفه ضمن الدعاية الصهيونية، بالرغم من شهرة سارتر الواسعة، كمدافع صلب بالقلم والقول والممارسة،عن كل الشعوب المناضلة من أجل حقوقها... . لكن أبرز حالة، في هذا الإطار تلك النقطة السوداء التي ظلت لصيقة بمسار مارتن هيدغر، لأنه رغم عقله الجبار ونظريته الغارقة في التجريد، رضي لنفسه الانسياق المستلب وراء المنظور النازي، الذي يتنكر لأبسط أوليات العقل، و إن كان هيدغر يعثر بسهولة لكبوته ، عن أسبابها ودواعيها المقنعة من خلال الفوهرر وذات القائد التي تبلور نداء القوة. لم أكن أعلم قطعا، أن ابن خلدون العالم الاجتماعي الجليل، سيخذل فكره وتراثه وقومه، موظفا بطريقة أكثر من ميكيافلية، رمزيته المعرفية وشهرته وحظوته لدي علّية القوم، وخاصة تطلعه السياسي، كي ينتهي في أواخر حياته منحنيا جاثما علي ركبتيه، يقبّل يد تيمورلنك زعيم التتار، الذي كانت جيوشه تحاصر أسوار دمشق. ابن خلدون، لم يكن يطلب خلاصا للمدينة وأهلها، بل يلتمس فقط لنفسه ملجأ آمنا. الفقيد الكبير،الروائي والباحث والمناضل عبد الرحمن منيف، استعاد حيثيات هذه الواقعة، عبر دراسته لمسرحية سعد الله ونوس" منمنمات تاريخية". نص، يطرح مضمرا إشكالية المثقف ودوره التاريخي وكذا حدود ارتباطه الأخلاقي بما يؤمن به:(( العلاقة بين المعرفة والسلوك،دور الثقافة والمعرفة، وهل يجب أن يكونا في خدمة القوة والسلطان، أو في زيادة وعي الناس وصقل أرواحهم، العلاقة بين الطموح المشروع للمثقف وإغراءات السلطة والمال، ثم ماذا يعني المثقف...هل هو مجرد تقني أم صاحب وجهة نظر وضمير؟)).(عبد الرحمن منيف: لوعة الغياب. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.والمركز الثقافي للنشر والتوزيع.الطبعة الثالثة 2003. ص 30). التقط، سعد الله ونوس، فترة زمانية قصيرة لا تتعدي الشهرين، لكنها مفصلية في حياة ابن خلدون. وتشير أساسا إلي حقبة إقامته بدمشق أثناء حصار تيمورلنك لها، ومايقتضيه الوضع من ترقب لنوعية التصرف الممكن صدوره عن رجل من عينة ابن خلدون. هو ذاته الإشكال، الذي يتربص بجميع المثقفين في علاقة أولا بذواتهم وضمائرهم، إلي أن تبلغ أحيانا تصوفية الربط بين النظر والعمل، ثم تلك الاختيارات واللحظات الحدية،التي تكشف حقا وبوضوح عن معدن كل مثقف كما يقال. ابن خلدون، صاحب نظرية في التاريخ والعمران، ومن علماء الإنسانية الأفذاذ، يريد أن ينأي بنفسه عن ابتذالية دوامة كهذه ، لكنها الحقيقة الساطعة التي لاغبار عليها. منيف بدوره، لم يستسلم من الوهلة الأولي للادعاء، مما أجبره علي قراءة ثانية لعدد من المصادر التي تناولت الحدث:((لأني كنت،مثل كثيرين، أميل إلي تركيز نظري علي الجانب الايجابي في هذه الشخصية ، ووضعها في سياق من اليقين أقرب إلي الثبات، رغم المرارة الدائمة التي كنت أحس بها نتيجة سقطة ابن خلدون تجاه تيمورلنك)).(نفسه. ص31). طبعا، سيمكن ترميم جزئيات المعطي التاريخي، من بلورة موضوعية، تقوّم شخصية ابن خلدون في أبعادها، بعدم إغفال جوانب وقائعية في حياته، مادام يجب أن نضع دائما في الاعتبار.هذا التمييز: ((بين ابن خلدون العالم،صاحب النظرية، وابن خلدون السياسي.الذي وظف معارفه وكفاءاته من أجل الوصول إلي السلطة. ومعظم الذين كتبوا عن ابن خلدون كان يعنيهم، بالدرجة الأولي، الجانب النظري. لذلك أهملوا، أو تغاضوا عن الجانب الآخر))(نفسه ص32).وهذا ربما، ما يقود إلي انقسام في الآراء، وتعدد الأحكام، حسب ما ينبغي استثماره من ذاكرة ابن خلدون. هل ينبغي التقاط زبدة فكره الرائع دون التفات إلي حياته الشخصية التي يكتنفها الغموض والالتباس؟.أم يلزمنا فعلا، تشرب منطق الثقافة ذاته، والتحلي بالنزاهة بغية قياس العالِم بمكيال من ذهب، حيث عقله جنس غرائزه، و الأخيرة توأم لروحه. فيغدو، المثقف كل هذا: معتقد وسلوك وواجب وموقف. مع كل ذلك، لايمكن حسب الروايات الواردة في هذا المقام، فصل خذلان ابن خلدون لشعبه و انبطاحه غير المتوقع أمام تيمورلنك، عن مسارات هذه الشخصية السياسية الطموحة بكل الصيغ، و تواجده الدائم في المواقع الأمامية لجهاز الدولة، وعلاقاته الواسعة بالحكام والأمراء والولاة، ودأبه علي حياة البلاط، فازدادت تطلعاته وكبرت:(( الاعتماد أو الاقتصار علي أحد المرتكزين اللذين شكلا حياته : الممارسة العلمية او الكتابات النظرية، لابد أن يقود إلي فهم ناقص أو خاطئ لهذه الاشكالية الشديدة الغني والتعقيد والتنوع والتناقض في آن واحد))(نفسه.ص39). وبالرغم من مغامراته السياسية، وتقلده لمناصب عديدة، وامتلاكه للأموال، وماينعم به من حياة الترف، فقد حرص ابن خلدون دائما، علي الارتباط بمهنة التدريس : ((كوسيلة لايصال أفكاره وبث آرائه، ولكسب الأنصار والمؤيدين، وأيضا لمعرفة كيف يفكر الآخرون، وماهي المشاكل والهموم التي تشغلهم أكثر من غيرها))(نفسه.ص.39) إذن، حين بدأ تداول الأخبار، عن فضائح الغزو التتري وما ارتكبوه في حلب، انطلق السلطان "الناصر فرج" علي رأس جيشه من مصر للتصدي لهذا الغزو، فاصطحب معه هيئة ، تضم كبار موظفي الدولة، ومن بينهم ابن خلدون : ((الذي يحاول السير في الحملة، لكن حاجب السلطان "بلين القول وجزيل العطاء")) (نفسه .ص43.) سيرغمه علي تغيير رأيه. إشارة أساسية أوردها منيف، تكشف عن الطبيعة الزئبقية لشخصيته. تواجه الجيشان، وكانت الكفة مائلة إلي جانب معسكر السلطان، نظرا لشدة الدافع النفسي وشدة العزم، من أجل الدفاع عن دمشق ضد الغزو التتري. لكن، فجأة وقع تفكك في صفوف جيش الناصر، لما انسحب عدد من الأمراء وقرروا العودة إلي مصر. لذا، اضطر السلطان إلي ترك المعركة، وأخذ الطريق ثانية وجهة مصر، كي يلاحق المتمردين. طبعا، في خضم أجواء كهذه تراجع زخم المقاومة، وأصبحت دمشق مستباحة أمام تيمورلنك. بقي ابن خلدون مع المجموعة، التي لم تغادر. بعد أن حدس بعقليته السياسية الذرائعية، موازين القوي فقرر تجنب الهلاك قبل فوات الأوان، بالارتماء في أحضان التتار،لأنهم منتصرون لامحالة. يقول ابن خلدون : ( وبتنا تلك الليلة علي أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع، وأنكر البعض ماوقع من الاستنامة إلي القول، وبلغني الخبر فخشيت البادرة علي نفسي، وبكرت سحرا إلي جماعة القضاة عند الباب وطلبت الخروج أو التدلي من السور، لما حدث عندي من توهمات الخبر))(نفسه.ص45). ثم،التقي ابن خلدون بتيمورلنك : ((فلما دخلت عليه فاتحته بالسلام،وأوميت إيماءة الخضوع، فرفع رأسه، ومد يده إلي فقبّلتها، وأشار بالجلوس حيث انتهيت، ثم استدعي من بطانته الفقيه عبد الجبار بن النعمان من فقهاء الحنفية بخوارزم، فأقعده يترجم بيننا))(نفسه.ص45). لم يفصح فقط ابن خلدون، عن موافقته غير المشروطة لتسليم دمشق، بل، أقر طلبا لتيمورلنك، يحيل مضمونه علي ماننعته بلغتنا المعاصرة، إنجاز تقرير استخباراتي عن أحوال المغرب، حين كلفه بكتابة وصف لبلاد المغرب، وكل مايتعلق بجغرافيتها و أماكنها. عاد ابن خلدون إلي جماعته، وشرع في لعب دور جوهري كي يقنع الوجهاء والقادة، بضرورة تسليم مفاتيح المدينة إلي تيمورلنك، الذي سيدلي أمامه ابن خلدون، بشهادة تنم عن أقصي دلالات التملق والمداهنة السياسية ((إنك سلطان العالم،وملك الدنيا،وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك))(نفسه.ص.46). لم يقف ابن خلدون عند هذا الحد، بل دفعه موقفه الغريب، ملتمسا : ((أن يكون في بطانة تيمورلنك، وفي خدمته،كما فعل مع أمراء وسلاطين عديدين سابقا،وربما طمع بلعب دور سياسي جديد،لكن تيمورلنك لم يستجب لمثل هذه الرغبة.ومع ذلك لم ينقطع ابن خلدون عن الزيارة وتقديم الهدايا)).(نفسه.ص.47). إضافة، إلي هذا الحدث التاريخي، الملغي من طرف الباحثين،ربما حفاظا علي نقاء صورة ابن خلدون، أدرج عبدالرحمن منيف ، علي ضوء مسرحية ونوس، حوارا في غاية الإثارة بين العالِم الجليل وتلميذه شرف الدين، بحيث يبدو ابن خلدون متهافتا كل التهافت. تتزاحم أسئلة شتي، داخل رأس التلميذ التابع حد الحرقة، نتيجة المواقف غير المفهومة لأستاذه، الذي يحاول الدفاع عن قناعاته، محتميا بقيم العلم وصرامته الموضوعية، مما يدعو إلي التخلي عن كل نزوعات الهوي و الانفعالات والميول القومية والوطنية. لذلك، وباسم قانون-موجها الكلام لشرف الدين-((حين تريد أن تسجل الوقائع، ينبغي أن تسيطر علي الانفعالات والعواطف أو تلغيها))(نفسه.ص50) ، يرفض ابن خلدون تماما، تعبئة الناس وتحريضهم وشحذ هممهم، كي يجاهدوا دفاعا عن مدينتهم: (( لايتحدث عن الجهاد هذه الأيام، إلا رجل يضرب في الوهم، أو يريد أن يلبس علي الناس))(نفسه.ص50). إذن، سينأي بنفسه عن دائرة المؤد لِج كي يظل عالما. قد يبدو كلامه صحيحا، لو اتصف ابن خلدون بنزاهة العلماء وحيادهم منذ البداية، ولم يتدل من سور المدينة، مسرعا نحو النجاة بجلده. كما أنه مارس التضليل، فأوهم الناس،ومارس في حقهم خديعة لا تغتفر، لما ساهم إلي جانب آخرين طبعا، علي إقناعهم بضرورة تسليم دمشق سلما كي يتجنبوا الوحشية التتارية. لكن العكس ماسيحدث، فرغم ميثاق الأمان، غدت دمشق أنقاضا خربة. إذن، حتي ولو أخل تيمورلنك بوعده، و أطلق العنان لهمجيته اتجاه المدينة و أهلها، فابن خلدون علي إيمان مطلق: ((أنك، إذا لم تسيطر علي قدرة عواطفك فلن تحوز ملكة العالِم وشروطه))(نفسه.ص 51). بل، ويستهجن سلوك عالم آخر، من نفس طبقته، وهو هياج التاذلي الذي قتل في المعركة، فقد وصفه ابن خلدون، بأنه تغلبت لديه ( انفعالية الدهماء ،علي حكمة العلماء))(نفسه.ص.51). كما، أن هذا التاذلي: ((لم يكن إلا موسوسا، وأنا أنفر من الموسوسين))(نفسه.ص51). يستنكر ابن خلدون، وصفه بالحياد إزاء محنة أهله، كما جاء علي لسان تلميذه، بل يفسر تصرفه كونه رجل واقعي يلم إلماما واسعا، بقوانين الأحداث ومجريات الوقائع، لذلك فلا علاقة للعالِم بمهمة، أن يتلمس الناس بواسطته طريق الحقيقة. بل، دوره يقف عن مستوي(( أن يحلل الواقع كما هو، وأن يكشف كيفيات الأحداث و أسبابها العميقة))(نفسه.ص.52). يلح ، ابن خلدون في التشبث بقيمة المعرفة المجردة ، مفندا رأي تابعه المؤمن بالمضمون النهضوي والتحفيزي لكل معرفة ، و إلا فما جدواها. فالمعرفة في منظورها الخلدوني ،تجعلنا نفهم سبب تآكل حكم السلطان ، مقابل تألق تيمورلنك ، الذي سيمثل له في نهاية المطاف ،فرصة كي:((يلتقي الملك علي الطبيعة))(نفسه.ص53). فرغم ماضيه الحافل ، بمعاشرة الحكام والآخذين بزمام الشأن العام ، إلا أن ابن خلدون يقر لتلميذه عدم اقتناعه الصميمي بتجاربه السابقة ، واليوم يلاقي في طريقه تيمورلنك الذي يجسد نموذجه المبحوث عنه:( طول حياتي وأنا أعاشر وأخدم أمراء وسلاطين ناقصين ،لاتتوفر لهم من شروط الإمارة إلا أقلها... ،لقد سرت في ركاب أمراء وسلاطين لا يستحقون أن يكونوا جزمة لتيمور )(نفسه.ص.53/54). أخيرا ، قرر التلميذ الباحث بصدق وشغف عن علم يستجيب للحق ويحارب كل أشكال الظلم والطغيان ، تبني طريق المقاومة ،لأن دعوة الواجب يحتم عليه الأمر ،والانفصال عن ابن خلدون الذي يريد إفراغ العلم من نبله الإنساني. لكن قبل رحيل شرف الدين ، استجمع أنفاسه وفجر أمام أستاذه تلك القنبلة الخانقة: ماذا سيقول التاريخ في ابن خلدون ،حينما يستحضر موقف الإذعان؟ سيعتقد القارئ ، أن الرجل تلقي ضربة قاضية بالتالي لن ينطق بعدها ببنت شفة ، لكن ابن خلدون أجاب بهدوء الواثق جدا من صنيعه: (( لن يذكر التاريخ إلا العلم الذي أبدعته ، والكتاب الذي دفعته. أما الأحداث والمواقف العابرة ، فلن يذكرها أو يهتم بها إلا موسوس مثلك))(نفسه.ص55). سقطة ابن خلدون ، صاغها سعد الله ونوس ثانية ، قصدا وعمدا في قطعة مسرحية ، كي يثير الانتباه مرة أخري ،إلي قضية تأسيسية لازلنا نعاني سلبياتها ، في مجتمع عربي لم يحسم بعد معادلاته الصائبة حول منظومته الجوهرية. أقصد هنا ، موقع المثقف داخل السياق المجتمعي وطبيعة الدور الموكول إليه قياسا إلي شعبه. ثم ،الموقف النقدي والمسافة التأملية التي ينبغي عليه الاحتفاظ بها ، حيال السلطة والمال والإغراءات التي تستهدف تدجينه كليا ،وإفراغ مشروعه من أية قيمة مضافة. استخلص منيف ،أفكارا أهمها: الثقافة موقف ،لذا لايمكنها أبدا أن تكون محايدة ، كما أن مسؤولية المثقف تكبر وتصبح أكثر حساسية ، بالتناسب مع الموقع الذي يحتله المثقف في سلم الارتقاء المعرفي ، بحيث تبرز حاجة الآخرين إلي معرفته ، فيمتلك حيزا واسعا من التوجيه و والتأثير التأطير. يفرض الوضع الطبيعي للمثقف ، الارتباط بقضايا عصره ، يستوعب حمولتها ، مجتهدا في سبيل إيصالها إلي الآخرين ، لكن مستويات إشعاعه متوقفة علي:((الجدية والنزاهة والجرأة))(نفسه.ص60). عليه أن يميز ، عصره بطابعه كمثقف ، انطلاقا من مواقفه المبدئية التي تروم استشراف بدائل أكثر إنسانية ، فالثقافة سند لصاحبها ، لكنها خاصة فعل وفيصل. هذا المثقف الرمز ، يقابله نوع ثان ، يتوخي فقط المصلحة الشخصية ويبحث من أجل صقل مهارة الثقافة بمختلف الأساليب المشروعة وغير المشروعة ، فينحدر بالثقافة إلي مجرد سلعة وكأي سلعة: (( دون أن تلزم صاحبها ، أو لا تعني له إلا بمقدار ماتدره من ربح. فعندئد تصبح الكلمات الأفكار لعنة ، ويصبح الأكثر إتقانا لهذه "الصنعة"هو الأكثر خطرا))(نفسه.ص61). فيتحول ،إلي مجرد خادم للسلطة و أصحاب المال. يغير الحقائق ويزيف الأشياء ويضلل عن مدارج الحقيقة والحرية. إنه المثقف المرتزق المماثل ، تماما ل:(( الجندي المرتزق الذي يحمل السلاح ليس من أجل قضية يؤمن بها ويدافع عنها ،و إنما من أجل المال ،ولمن يدفع هذا المال) (نفسه.ص62). وتتضاعف مسؤولية المثقف ،وتشتد محاسبته ، خلال الظروف التاريخية الاستثنائية. فتعبيره عن الضمير الجمعي ،يمكنه من شفرة سرية في غاية الدقة ،يديرها حسب معاييره الخاصة ، إن إيجابا أو سلبا.