عندما نتحدث عن الثورة، ومن خلالها، فإن هناك مؤسسات وهيئات وأفكارا تقفز للذهن تلقائيا، باعتبارها تتماس أو تتقاطع مع فعل الثورة نفسه، ومن هذه المؤسسات جهاز الرقابة، الذي يفترض تلقائيا أن تؤثر الثورة فيه، إيجابا أو سلبا، دعما أو مواجهة. فالكل يتجه نحوها، يطالب بتخفيفها أو تشديدها أو ربما إلغائها بالكامل. ومع صعود التيار الإسلامي، واحتلاله هذا الكم غير المسبوق من المقاعد يصبح الحديث مع رئيس جهاز الرقابة أمرا لا مفر منه، حيث لابد من التعرف علي ما يدور في عقل رجل الرقابة الأول في مصر، وتصوراته ومعلوماته حول ما ينتظر تلك المؤسسة ذات الشأن الحساس. من هنا جاء هذا الحوار مع سيد خطاب رئيس جهاز الرقابة علي المصنفات الفنية. عقب قيام الثورة اعتبرها البعض إيذانا بإلغاء الرقابة، فيما اعتبرها البعض الآخر إيذانا بتشديدها، أين أنت من هؤلاء وهؤلاء؟ الأمور ليست بتلك البساطة. من ناحية لا يمكن إلغاء الرقابة، فلا توجد دولة في العالم تخلو من مؤسسة تجيز ما يصلح للعرض العام. ليس بمعني المنع، ولكن بمعني التصنيف، فكل عمل فني له جمهور يناسبه، ومن ناحية أخري لا يمكن الحديث عن "تشديد" الرقابة بسهولة، فنحن في النهاية محكومون بالقانون ومنفذون له. هل يُفهم من هذا أن الثورة لن تؤثر في مستقبل الرقابة علي الإبداع؟ بالطبع ستؤثر، ونحن لدينا مشروع لتطوير الرقابة، طرح هذا المشروع سابق للثورة بعام، وليس بغرض تشديد الرقابة أو تخفيفها، وإنما بغرض تغيير طبيعة المؤسسة. وشخصيا أؤمن بأن العالم يسير نحو إلغاء المنع بكافة سبله، اليوم لم تعد عملية الإذاعة في يد المبدع، فالتكنولوجيا أتاحت للمواطن العادي، بصرف النظر عن الإبداع، أن يقوم بالعملية الفنية كلها، من تصوير ومونتاج وحتي العرض أو الإذاعة نفسها. وأن البديل هو التقسيم العمري للمعروض كما هو متبع في عديد من الدول، كما أن هناك سببين لحجب العرض عن مراحل عمرية معينة، وهما ازدراء الأديان، والحض علي الكراهية، وهما معياران دوليان. ما ملامح مشروع التطوير الذي تقدمتم به؟ نسعي إلي أن تكون الرقابة مؤسسة مستقلة، حقوقية، شأنها شأن كافة منظمات المجتمع المدني، بمعني أنها لن تعود حكومية، كما أنها ليست مخصصة لمنع الأعمال الأدبية، وإنما لحماية الملكية الفكرية، واستعادة أموال الإبداع من الداخل والخارج وإعادة ضخها في البلاد عن طريق إعادتها لأصحابها من المبدعين. كما أنني، بالإضافة لموقعي كرقيب، فأنا عضو في مجلس نقابة المهن التمثيلية، وأعرف كم المعاناة الذي تبذله الرقابة في تحصيل الرسم النسبي، وهي مهمة من مهمات الرقابة، في التصور الجديد للرقابة. يضاف إلي ذلك أن تكون مؤسسة الرقابة الجديدة أكبر مكتبة للسيناريوهات والأعمال الفنية حتي يمكن العودة إليها كلما أراد أحد ذلك، فمن غير المعقول أن يتعرض تراثنا للضياع والإهمال. ذكرتم أنكم منفذون للقانون، فما قانون الرقابة وهل هو عرضة لتغيير مع البرلمان الجديد؟ الرقابة محكومة بقانون الرقابة الذي صدر عام 1955، وتغييره وارد، لكن لم يتحدث أي برنامج لأي حزب عن تغيير القانون. عموما، عملية تغيير القانون ليست سهلة، حيث يجب أن يشهد مجلس الشعب مناقشة لمشروع قانون جديد، ثم يحدث التصويت. تغيير القانون لا يحدث عادة بقرار، وإنما باحتياج مجتمعي، ولذلك إذا أردنا أن نعرف طبيعة قانون الرقابة الجديد. علينا أن نتعرف علي حالة المجتمع، واحتياجاته التي تفرض التغيير. يقودنا الحديث عن احتياجات المجتمع إلي الحديث عن الصعود الإسلامي، ألا تري أنه مؤثر علي مصير الرقابة؟ المشروع الذي تقدمنا به لتطوير الرقابة يضمن عدم تأثير أيدلوجيا فصيل ما في حال تسيده الموقف السياسي، فسيادة القانون هي التي تحمي الحريات، وكما قلت لك، فإننا، كهيئة للرقابة، مجرد منفذين للقانون. هل يعني هذا أن حرية الإبداع ليست في خطر؟ لا أفضّل النظر للأمور هكذا، وما سنواجهه ليس مجرد تغيير في طبيعة وشكل المؤسسة، لأن هذا كان يحدث منذ سنوات طويلة، وكان يظهر فيما يسمي الرقابة المجتمعية من خلال رفع أحد المواطنين أو الشيوخ دعاوي قضائية لمنع بعض الأفلام، أو ضد وزارة الثقافة، وأعتقد أن هذا الوضع سيؤثر علي الرقباء، لأنه من خلال ما يحدث في البرلمان سنري توثيق لخريطة مصر الاجتماعية المقبلة، لكن إذا سارت الدولة في الشكل الديمقراطي، فبالتأكيد سينعكس ذلك علي البناء التشريعي، وهي معركة طويلة في صياغة شكل الدولة، ونتمني أن يكون المجتمع متحركًا وحذرًا في المرحلة المقبلة، ونحن نمتلك قانونًا للرقابة عاش منذ 57 عاما، وشهد الكثير من الإبداع والمرونة والتغير مع المجتمع، وهذا القانون يصلح للبقاء سنوات طويلة. وإذا تغير القانون، أي جهة هي المعنية بهذا؟ بمعني من سيتقدم للبرلمان بمشروع القانون الجديد؟ المبدعون بلا شك هم المنوطون بذلك، هم الذين يحددون ملامح قانونهم، كما أن العاملين والمهتمين بأي مجال هم الأولي بصياغة مستقبله، وعليه فإنه لا يجوز فرض شكل للرقابة من خارج المبدعين، نحن نتعامل في ملف حساس، ويجب أن يترك لمن هم أقدر علي تناوله، وهم المبدعون أنفسهم. وفي حال كتبت عليكم المواجهة، فهل أنتم مستعدون لها؟ المواجهة قديمة، وبالفعل واجهت الرقابة عدة مواقف، وكانت أعنف. وتخطتها. عن نفسي، سأظل أمارس عملي، لأن ما يفرض عليّ وأنا رقيب، سيفرض عليّ كفنان مبدع، فلا مجال للهروب، وسأقف وأدافع عن حقي بكل قوة وإيمان، طالما كان ذلك لا يخل بحقوق الآخرين. وسأظل في هذه المعركة، لأنه لم يأت نظام في يوم من الأيام يرضي الحكاية أن كاتبا يفقد ثقته بالكلمة إلي حد اعتبارها قد تعهرت، فيتمني لو أنه يرسم، بل ويحاول الرسم فعلا، وفنان مغترب لم يعد يكتفي بلغة الخط واللون والكتلة، ويريد "البوح" بالكلمات. تبادل الثنائي عشرات الخطابات التي أفرزت في النهاية واحدا من أمتع كتب الرسائل وأكثرها عمقا. الكاتب هو عبد الرحمن منيف، والرسام هو مروان قصاب والكتاب صاحب العنوان الموفق جدا هو "أدب الصداقة" والصادر مؤخرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ودار التنوير. الرسائل لم تكتب بغرض النشر كما يوضح د.فواز طرابسي في تقديمه للكتاب، لكن تقرر نشرها بعد وفاة منيف بمبادرة من سعاد قوادري منيف ومروان "ولاشك عندي بأن عبد الرحمن كان سيوافق لو سئل". بدأت المراسلات حين استعصت الكلمات علي منيف، أو فل نقل بعد أن اكتشف كذبها وعبثها، اكتشف أن اللون وحده لايزال قادرا علي أن يقول الأشياء بشكل جديد ومختلف، في حين أصبحت كل الوسائل الأخري من فرط ما استعملت- غير قادرة علي أن تقول شيئا "لاتزيد علي كونها ممارسه للعادة السرية" وهذا ربما سر عبثها وقسوتها معا، وهذا ما يجعلها عصيه في أحيان كثيرة علي إعادة التكوين والتجدد "كلمات..كلمات..كلمات ولاشيء في النهاية". الرسم أمنيه منيف التي لم تتحق، أو فل نقل أنها لم تتحقق كما أراد، فالكاتب الذي ذادت اعماله علي العشر روايات كان يتمني أن يصير رساما! هو نفسه يعترف بذلك "لو لم أكتب لرسمت" لكن وحدها الموهبة جعلته يتردد ويتراجع، في الوقت نفسه تقتله الكلمات بعهرها وكذبها "الغليان الذي يملؤني، والذي يفيض باستمرار لا يمكن أن تستوعبه الكلمة المعهرة والتي أصبحت شائعة إلي درجة أنها لا تقول شيئا البتة، أو تقول الأشياء كلها دفعه واحدة، وبالتالي لا معني لها. هذه خاصية الكلمة، إنها طريقة استعماليه إلي درجة آلية، مما يفقدها سحرها، بكارتها، لحظة انفجارها، وربما كان التشكيل وحده يمتلك خاصية تجعله مختلفا". التقت مسيرتا منيف ومروان في منتصف الخمسينات في اطار مجموعة من المثقفين الشباب التي كانت تنشط من أجل التغيير الاجتماعي والسياسي في دمشق. عندما غادر مروان إلي برلين ومنيف إلي بلجراد، انتقطع الاتصال بينهما حتي عام 1992 حين دعي منيف الي القاء محاضره في برلين وزار مروان في مشغله، كانت تلك الزيارة بمثابة توطيد لصداقة حميمه ومديدة، وبقيا بعدها علي اتصال عبر الرسائل يتبادلان فيها الاراء حول الادب والفن والعالم والكون، حافظ منيف في رسائله الحارة التي كانت تحمل معاني الصداقة الحقيقة علي قواعد المراسلة بينما اتخذت رسائل مروان شكل يوميات تضمنت تدفقا للمشاعر والوعي مع رسوم ولوحات صغيرة، طريقة في الكتابه وصفها منيف بأنها كلقاء المسافرون في المحطات، يتبادلون الأخبار السريعة لكن لا يمهلهم الوقت أبدا "أصبحت حالنا كذلك، إذ لا يكاد الواحد يبدأ حديثا حتي يحين وقت السفر، ولابد أن يلتحق بالقافلة" وهكذا دائما تبقي الأحاديث مبتورة، سريعة، وبحاجة الي وقفات أطول لكي تستكمل، وكان واضحا من خلال المراسلة بينهما أنهما سيحققان مشاريع مشتركة، وقد حدث. بدأ منيف في مراسلة صديقه يحدثه عن الفن، والرسم والكلمات، حتي انه نفسه لم يكن يعرف لماذا يكتب عن هذه الأشياء بالتحديد ولا إلي أين تقوده الرسائل، إلي أن يقرر تأليف كتاب عن صديقه الفنان، ويوافق الفنان علي أن يبوح بما لديه عن حياته وفنه، وهكذا يدور القسم الأول من المراسلات، التي ظهرت بعد ذلك في مشروع الكتاب الذي صدر بعنوان "مروان قصاب باشي:رحلة الحياة والفن" عام 1966 لكن أسئلة منيف التي كانت النواة لهذا الكتاب لم تكن اسئله عادية يسأل مثلا: هل كان أحد في العائلة يهتم بالفن، بالمعني العام والواسع:الغناء، الزخرفه، العزف علي آله موسيقيه؟ ثم في الرسالة نفسها- إذا طلب منك أن تختار لونا الرسم؟ حتي تصل الاسئلة إلي ما هو الله؟ وماذا يعني لك الزمن؟. عشرات الاسئلة تتوالد تلقائيا في راسه اعتبرها دفعه أولي والفنان الساكن برلين منذ عقود، يجيب في رجع ذاتي إلي طفوله في جنه مفقودة اسمها دمشق. حيث ترك مروان مسقط رأسه دمشق عام 1957 لدراسة الفن في كلية الفنون ببرلين وعين فيما بعد أستاذا في ذات الجامعة ودخل عالم الفن هناك من أوسع أبوابه، وكسب شهرة عالمية، ويعتبر مروان من أكثر الفنانين الذين كتب عنهم منيف، وفي المقابل ومنذ منتصف التسعينيات ساهم مروان بتصميم وإخراج كتب منيف بشكل كامل، وباتت رسوماته تظهر علي أغلفه هذه الكتب وأحيانا في صفحاتها الداخلية، ومعظم هذه الرسوم كانت مرسومة خصيصا لكتب منيف. منيف أحد رواد الرواية الأكثر التزاما والأوفر انتاجا بعد نجيب محفوظ، ويحظي بمتابعة شريحة واسعه من القراء العرب، كما أنه حصل علي جائزة سلطان العويس، لكنه ربما كان قليل الظهور والكلام، أصدقائه المقربين ونقاد أدبه يؤكدون أنه عرف دائما بمشاعر إنسانيه عميقه وطاقه واستقلاليه قلما تجد لها مثيلا، وبكونه روائيا مخلصا للحقيقة، الكتاب يكشف جانبا ربما كان غامضا في شخصيه منيف، كيف كان يكتب؟ وكيف كان يتعامل مع ما يكتبه؟ في إحدي رسائله يتحدث عن رواية "أرض السواد" درة أعماله فيقول إنه ظل سنوات يبحث عن "مفتاح" الرواية، وانه بعد أن وجد هذا المفتاح تولدت لديه غبطه هائلة، حاله انقشاع كامل للضباب والغيوم والحيرة والضيق، اللافت أنه يذكر انه كان قد كتب بالفعل فصولا في هذه الرواية لكنه بعد أن وجد المفتاح حاول أن يقنع نفسه بأن كل مافعله كان مجرد "تسخين..مثل لاعبي كرة القدم حين يهرولون دون وعي ودون هدف، فقط من أجل أن يستعدوا للدخول إلي الملعب". المفتاح بالنسبة لكن كان مجرد ضوء يؤكد له انه يسير علي الطريق الصحيح "أقول بصراحة أنني أري ضوءا، لكن لا اعرف إلي ما يقود، والي اي ساحل، سأدع تلك الحاسة الغامضة تقودني، ولابد أن أصل". الواضح أيضا أنه لم يكن ممن يرضون عن أعمالهم، فرغم ما حققته "أرض السواد" من نجاح إلا أنه وبعد أن انتهي منها أراد أن يتوقف وقفه طويله، لكي يجرب ويتأمل احتمالات أخري "صحيح أن ماكتبته مجرد مقدمه، لأن ما سيلي أهم بكثير، لكن لا أجد في نفسي الاستعداد أو المزاج الكافي لذلك، وعليه لابد من وقفه، وإعادة النظر". عن مبدع أو يرضي عنه المبدع، فالاختلاف والتمرد جزء أساسي من مقومات الإبداع.