نشأ ابن خلدون وترعرع في شرق تغرب شمسه، وغرب ينبلج صبحه وهو بطبيعة الحال أشد التصاقاً بالشرق وأفول نجمه منه بالغرب وإقبال عهده. في هذا العصر المضطرب المشحون بالأحداث عاش ابن خلدون ، وفي عواصفه تجلد واستبسل ، وكان لذلك كله أثر في إنتاجه العظيم وفي خلوة تبعث علي إصاخة السمع وإرهاف البصر أتيحت لابن خلدون في قلعة بني سلامة إطلالة علي التاريخ الإسلامي كله بل التاريخ العام أيضاً، فراح يتأمله ويجيل النظر فيه فلم يدع ظاهرة من ظواهره إلا درسها وحللها وبين أغراضها، ثم عللها واتي علي أسبابها، كل ذلك بنظرة علمية شاملة وعلي أساس منهاج وضعي دقيق فانساب عليه ما يشبه الإلهام الفياض وأبدع تلك المقدمة التي كانت فريدة في أصالتها وحيدة في جديتها وطرافتها، طبيعية رائدة في أبحاثها وموضوعاتها. ترجمة ابن خلدون: هو ولي الدين أبوزيد عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن عثمان بن هانيء بن الخطاب بن كريب بن معد يكرب بن الحارث بن وائل بن حجر فهو سليل اسرة من أعرق الأصول العربية اليمانية في حضر موت نزح بعض أفرادها الي الحجاز في العصور السابقة علي الاسلام، واشتهر منهم في صدر الاسلام وائل بن حجر أحد صحابة النبي ، وخالد بن عثمان ( المعروف بخلدون ) الذي دخل الاندلس مع الفتح الاسلامي سنة 711 م فاستقر هو واسرته في قرمونه ثم في أشبيلية وحدث بعد ذلك ان انتقلت الاسرة الي تونس وفيها أقامت ، الي مولد جهبذنا العلامة ابن خلدون. دراسة ابن خلدون: قرأ القرآن ودرس الفقه وتعلم صناعة العربية والعلوم العقلية والمنطق وسائر الفنون الحكيمة والتعليمية0 وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره حدث له حادثان خطيران عاقاه عن متابعة دراسته أحدهما حادث الطاعون الجارف الذي كان نكبه كبيرة وصفهما ابن خلدون بأنها (طوت البساط بما فيه) و(ذهب الأعيان والصدور وجميع المشيخة وهلك أبواي رحمهما الله) كما قال وأما الحادث الآخر فهو هجرة معظم العلماء والأدباء الذين أفلتوا من هذا الوباء الجارف وانتقالهم من تونس إلي المغرب الأقصي. آثاره: لابن خلدون مؤلفات كثيرة أوردها صديقه الوزير لسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في اخبار غرناطة) في الفقه والاصول والفلسفة والمنطق والرياضة0 ولم يصل إلينا شيء من هذه الكتب، كما ان ابن خلدون لم يشر اليها في (التعريف) الذي كتبه ترجمة لحياته، وهذا من غرائب أحواله0 وإنما أشار فقط الي كتاب كتبه لتيمورلنك عندما اجتمع به خارج دمشق في وصف بلاد المغرب، فأمر تيمورلنك بترجمته إلي اللسان المغولي0 ونحن لا نشك في صدق ابن الخطيب، لأن ابن خلدون له ثقافة عميقة راسخة في هذه الميادين جميعاً و (المقدمة) أكبر شاهد علي ذلك، فلم يغادر فيها علماً إلا كتب فيه وأفاض في الكلام عليه ، هذا فضلاً عما في (المقدمة) من مبتكرات واكتشافات رائدة في علم التاريخ وعلم العمران وعلم الاخلاق. يعتبر المفكر المغاربي ابن خلدون أحد الرجالات القلائل الذين حظوا بمصير ساعدهم علي نسج مراحل مهمة من التاريخ الإنساني. لقد حققت حياة مدهشة بنشاطه السياسي المستمر، الذي امتد طيلة نصف قرن، فأثر في مجريات تاريخ شمال افريقيا في القرن الرابع عشر، كما شكلت حياته ثورة، أو علي الأصح، مجموعة ثورات في مختلف ميادين المعرفة: لقد اهتم بكل شيء لكي يغير كل شيء. كان ابن خلدون لم يترك شيئاً من معارف عصره دون أن يتطرق له. فجاءت المقدمة موسوعة تتجلي أصالة ابن خلدون وعبقريته، في حين نجده في الميادين العلمية الأخري، جامعاً أميناً أكثرمنه مفكراً كبيراً أو مختصاً. لقد كرس جهوده التأملية واطلاعه الواسع، بالخصوص علي التأريخ، والمبادلات الاقتصادية والحياة المجتمعية عموماً. فمع ابن خلدون أصبح التأريخ فناً وصناعة ذات هدف خاص. ومناهج متميزة وقوانين علمية، مما خوّل التأريخ أن يدعي، عن جدارة، ولأول مرة، أنه (علم). فكر ابن خلدون: إن الشيء الخارق في فكر ابن خلدون، هو انه بالفعل طرح بوضوح الي حد ما، عددا من المسائل التي يطرحها المؤرخون الحاليون، وانه بحث عن أجوبة لهذه المسائل الأساسية في تحليل البني الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. ولكن بسبب القدم وفقدان حدود المقارنة، ولإنه عاش في القرن الرابع عشر، وليس في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، فإن ابن خلدون، برغم عبقريته، لم يستطع أن يضع حكماً إشكالياً دقيقاً وكاملاً، كما انه لم يستطع أن يكوّن مفاهيم دقيقة. لقد أثار براهين دون أن يتمكن من إكمالها أو دون أن يفصل ما بينها بدقة، وهو ما نقوم به اليوم دونما اعتزاز كبير لقد حدس بالأحداث الأساسية ، ولكن، كان مستحيلا في زمنه، الذهاب أبعد من ذلك. أن فكره ليبدو أحياناً متناقضاً غير أن بعض تناقضاته ليست سوي ظاهرية، ويكفي تحليل فطن من أجل حلها. ولكن ثمة فيها ما هو أكثر عمقاً، ولهذا ينبغي ألا ينتجها.