تعرف علي أبرز الأماكن والقرارات في جولة وزير التموين ومحافظ الدقهلية لتفقد عدد من المشروعات    البورصة المصرية تغلق على صعود جماعي ومؤشر EGX30 يرتفع بنسبة طفيفة    الرئيس السيسى يحذر من أزمة ديون عالمية جديدة تعصف باقتصادات الدول النامية    أبو الغيط يستقبل وفدًا برلمانيًا هنديًا رفيع المستوى متعدد الأحزاب    استعدادا لقيادة الهلال.. إنتر ميلان يعلن رحيل إنزاجي رسميًا    "قدم جهدًا وساهم في تطوير القطاع".. الأهلي يوجه الشكر لبدر رجب    "ولاء.. إصابات.. عودة تاريخية".. رامي ربيعة يطوي صفحة المجد مع الأهلي    الجباس: الحديث عن تواجدي في بيراميدز بسبب علاقتي مع ممدوح عيد "عبث"    رسميا.. إنتر يعلن رحيل إنزاجي قبل كأس العالم للأندية    وزارة الحج والعمرة تستعرض حلولها التقنية في خدمة ضيوف الرحمن خلال ملتقى إعلام الحج    تكريم الامهات المثاليات الفائزات بمسابقتي التنمية المحلية والتضامن والعربي ببني سويف    الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية تنعي الفنانة القديرة سميحة أيوب    تشييع جنازة الفنانة القديرة سميحة أيوب بحضور نجوم الفن    جامعة سوهاج تطلق قافلة طبية توعوية مجانية بقرية الشواولة بالتعاون مع "حياة كريمة"    تجهيز 550 ساحة لأداء صلاة عيد الأضحى في الدقهلية    سعر الذهب مساء اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025    حملات تفتيشية لمتابعة انضباط سيارات السرفيس والتاكسي بنطاق مدينة الفيوم.. صور    ارتفاع حاد في مخزونات النفط العالمية مع تسارع إمدادات "أوبك+"    أمانة التنظيم المركزي ب"الجبهة الوطنية": نسعى لتأهيل الكوادر والحشد السياسي والعمل المؤسسي    "الحاج الخفي".. تجربة واقعية لرصد جودة الخدمات في موسم الحج    الأعلى للإعلام يجري تعديلات على مواعيد بث البرامج الرياضية.. اعرف التفاصيل    الرسالة الأخيرة لمنفذ الهجوم على مسيرة مؤيدة للاحتلال بمدينة كولورادو بأمريكا    منظمة التحرير الفلسطينية: غزة تتعرض لإبادة برعاية أمريكية وصمت دولي شريك    الطريق إلى عرفات| أحب البقاع إلى الله.. فضل المسجد الحرام والصلاة فيه    حكم أخذ المُضَحِّي من شَعْره وظُفُره من أول ذي الحجة    ما حكم الأكل بعد فجر أول أيام عيد الأضحى حتى الصلاة؟ عالم أزهرى يجيب    استشاري: الاتحاد الأوروبي بدأ التلويح للمعاملة بالمثل بعدما ضاعف ترامب الرسوم الجمركية    وكيل صحة شمال سيناء يتفقد جاهزية مستشفى نخل المركزي لاستقبال عيد الأضحى    بيطري القليوبية: ضبط 25.5 طن لحوم ودواجن غير صالحة للاستهلاك خلال شهر    إدجار مويو رئيسًا للدورة 112 لمؤتمر العمل الدولي بجنيف    بعد اتصال السيسي وماكرون.. إشادة برلمانية بجهود مصر لإنهاء حرب غزة    المشدد 10 سنوات لعاطل لاتجاره في المخدرات بشبرا الخيمة    منظمة التحرير الفلسطينية: غزة تتعرض لإبادة برعاية أمريكية وصمت دولى    تشيلسي يفشل في الإبقاء على سانشو    فيفي عبده تنعي الفنانة سميحة أيوب    استعدادات مبكرة بجامعة القاهرة لاستقبال مكتب تنسيق القبول بالجامعات والمعاهد    وزير المالية: 50% من مستحقات الشركات في برنامج دعم الصادرات سيتم تسويتها من الضرائب أو الكهرباء    Alpha وAirbus يدمجان الذكاء المسير في قلب العمليات الجوية العسكرية    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو قيام شخص بالتعدى على ابنته بالجيزة    تطهير وتعقيم ونظافة الأماكن المعدة لصلاة عيد الأضحي المبارك بالقاهرة    الخارجية: يجب الالتزام بالقوانين المنظمة للسفر والهجرة والإقامة بكل دول العالم    الاتحاد السكندري: عبدالعاطي استقال على «الفيسبوك».. والمغادرة غير مقبولة    السبكي: الشراكة المصرية الألمانية في الصحة نموذج للتحول الرقمي والتميّز الطبي    رسالة دكتوراه تناقش تقييم جدوى تقنية الحقن الأسمنتي كعلاج فعال لكسور هشاشة العظام    أخبار سارة على صعيد العمل.. توقعات برج الجدي في يونيو 2025    قبل نهائي الكأس.. أرقام الحكم محمود بسيوني مع الزمالك وبيراميدز هذا الموسم؟    ضبط أصحاب شركة المقاولات المتورطة في التنقيب عن الآثار أسفل قصر ثقافة الطفل بالأقصر    "المطاعم السياحية": بحث ضرائب الملاهي الليلة وإطلاق شعار موحد للمنشأت    المركز القومي للمسرح ناعيا سميحة أيوب: أفنت عمرها في تشكيل ملامح تاريخ الفن    مهرجان إيزيس الدولي ينعى سيدة المسرح العربي سميحة أيوب    موعد ومكان جنازة الفنانة سميحة أيوب    رئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية يهنئ رئيس الجمهورية وشيخ الأزهر بحلول عيد الأضحى    من الصفائح التكتونية إلى الكوارث.. كيف تحدث الزلازل ؟    هيئة الأرصاد: أجواء ربيعية ممتعة اليوم والعظمى بالقاهرة الكبرى 31 درجة    مستشار الرئيس للشئون الصحية: مصر تشهد معدلات مرتفعة في استهلاك الأدوية    الحج 2025 .. ماذا يقال عند نية الإحرام ؟    قرار عاجل من التعليم بشأن المدارس الرسمية الدولية lPS (مستند)    «هاجي في يوم وهقتله».. يورتشيتش يمازح مصطفى فتحي بسبب عصبية الشيبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذاقُ الحريةِ المرير

في إطار انفتاح سلسلة الجوائز، التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وترأس تحريرها المترجمة دينا مندور، علي كافة اللغات والثقافات، أوشكت السلسلة علي طرح ترجمتها للعربية للرواية » مذاق الحرية المرير»‬ للأديب جان ديفاسا نياما، ترجمة أسماء مصطفي كمال، وهي الرواية الفائزة بالجائزة الأدبية الكبري لمالي »‬ جائزة أحمد بابا » 2016، وننشر في هذه الصفحات مقطعًا منها .
وتري المترجمة أسماء مصطفي أن هذه الرواية »‬ ليست مجرد فرصة للتعرف علي جوانب خفية من أفريقيا الغنية بتراثها وعجائبها، ولكنها أيضا درس شيق في التاريخ، اختار محاولات التحرر الوطني موضوعا له، وأمسك بتلابيب الحقبة الزمنية التي تقع عند بدايات القرن العشرين، وانتقل بسلاسة بينها وبين اللحظة الراهنة » .
والمؤلف جان ديفاسا نياما هو كاتب من الجابون، ولد في 1 يونيو 1962، ويعتبر واحدا من الكتاب الأكثر شعبية في وطنه، ويبدو واضحا من خلال كتاباته، أنه مطلع بشكل كبير ودارس للعادات والتقاليد الوطنية في بلاده، ويعمل علي إنقاذها من المجتمع الحديث ومن النسيان.
الثورة (غزو جنوب الجابون 1904 - 1908)
بتأثر شديد ألمس جرح الاستعمار، بوضع إصبعي علي هذه الندبة الكبيرة والعميقة التي أغلقت جرحًا غائرًا، فُتح منذ قرن. في كل مرة تمر من فوقها »‬ليانا» (2) شائكة، أخشي أن تنخدش القشرة التي تغطيها، وأن ينزف الدم من جديد، أتخذ جميع الاحتياطات كي لا تتقيَّح.
في هذه الحالة المزاجية، اكتشفت ضمن أرشيفات عام 1906 برقية سرية ومشفَّرة من رئيس منطقة »‬مايومبا»، موجهة إلي المفوض العام للكونغو الفرنسية وتوابعها. قلت لنفسي إن شيئًا خطيرًا يختبئ خلف هذه الكلمات؛ فلا يمكن أن تُذكر منطقة بالاسم، دون أي مبرر مقنع، وقادتها مستبعدون، بسبب موقفهم غير المتعاون. تساءلت عن الأسباب، سواء كانت مباشرة أو دفينة، كالدور الذي لعبه أبطال هذا العصيان. هذا ما أرسله المسئول الاستعماري »‬لاجريفول» في 2 يونيو 1906، من »‬مايومبا» ، إلي »‬إميل جونتي»:
»‬بعد ثلاثة أيام وليال من الزحف في دروب الغابة الوعرة، حتي لمواطن أصلي علي الأقدام، وأمطار شبه مستمرة، وصلت مساء الأحد إلي »‬تشيبانجا» // في كل مكان وخاصة في »‬تشيبانجا» جمعت القادة والسكان، طمأنتهم وأقنعتهم بأننا نهتم بهم، وبأننا سنحميهم من الجميع / بعض العطايا للنساء والأطفال دعمت أقوالي //بخصوص »‬موكاب» فإن العديد من القادة متمردون بحق ووفقًا للاستعلامات فقد أحرقوا بالفعل 3 أو 4 منازل لمتعاونين صغار، وتأكدت أن الخسائر طفيفة // أرسلت علي وجه السرعة إلي »‬مايومبا» مبعوثين، وجدتهم بصعوبة، لأن قادة »‬باياكا» قلقون من زملائهم في »‬موكاب» بسبب ترويجهم لوصولي، وعزمي علي عقد اجتماع للقبيلة في »‬لوكاندو» حيث دعوتهم للمثول مساء الخميس، واعدًا بحياة آمنة للقادة المستجيبين، وعقاب شديد لمن سيرفضون اللقاء // سننطلق إذًا مساء الغد إلي »‬لوكاندو»، ولا أعرف ماذا سيكون الموقف الفعلي للمتمردين، لكنني حُذِّرت أن 3 أو 4 قادة كبار قرروا المقاومة بضراوة في »‬موكاب»، ونجحوا في جعل السكان متعصبين ضدنا // وجدت في »‬تشيبانجا» 29 من رجال الميليشيات، و7 قدموا معي من »‬مايومبا»، وأنتظر 8 عديمي الجدوي، محالينمن »‬نيانجا»، وعليهم حسب أوامري الالتحاق بي في »‬تشيبانجا» صباح الغد كحدٍّ أقصي // عدد قليل نظرًا لعدم انضباط الميليشيات غير المدربة // سيتم إطلاعكم علي التطورات، وبتقرير مفصل فور عودتي// هذه البرقية »‬موجهة أيضا إلي ليبرفيل».
حماسي شديد، فكل وثيقة أكتشفها، تدفعني إلي القيام بمزيد من الأبحاث. أنا متلهف للذهاب إلي عين المكان، لمقابلة أحفاد المشاركين في تلك الحرب، لأنها كانت فعليًّا أول قتال حقيقي عرفه الجابون، حرب »‬موكاب».

أنا أخيرًا في »‬موابي» منذ يومين. أخذت وقتًا لزيارة جميع الآباء الذين لم أرهم منذ فترة طويلة. »‬تشونو» هنا مبتهجة لرؤيتي مجددًا، لكنني أستشعر بعض القلق في عينيها. أوضحت لها أنه حتي لو كنت كلي لها، فإن إقامتي الطويلة في أوروبا اقتلعتني من قومي، وعليها منحي بعض الوقت للقاء عائلتي. أخشي أن تظن أنني تركت امرأة في أوروبا، وأنني لم أعد أرغب فيها. حاولت طمأنتها:
»‬- لا أخطط للزواج من امرأة بيضاء. إذا كانت هناك واحدة سأضعها في بيتي، فهي أنت. تجيدين إعداد الطعام مثل جدتي، والدتك علمتك صنع ضفيرة الخبز. وتحنين عليَّ كما تفعل أم مع طفلها.
- لقد تغيرت، ولم تعد نفس الشخص.
- الجميع يعتقدون أنه بإقامتي في فرنسا لم أعد ابنًا للقرية. يراقبون طعامي، وشرابي، ومضجعي، وتحركاتي. لكنني لا أزال ذلك الشخص الذي عرفته قبل أن أغادر».
توجُّس أقاربي يزعجني. ولتفادي إيذاء مشاعرهم، أظل لطيفًا معهم، فبالنسبة ل»‬رؤيتي الغربية» المزعومة، لا ألوح بها كلافتة. أظل مصغيًا إليهم مع الاحترام المفترض من طرف شاب، وأيضًا لأنني أدرك أنهم سيكونون ذوي أهمية كبيرة لأبحاثي: لقد خالطوا القدامي في ال»‬مباندجا»(3)، وأيضًا في الأدغال، بجوار النار، وفي ضوء النجوم الخافت. حكاية »‬مافورولو»، ذلك الذي تجرأ علي تحدي قوات الحكم الاستعماري، وهم بدون شك قد استمعوا إليه. أوليس بعضهم من نسله؟
»‬تشونو» جاءت للقائي بينما كان أنفي لا يزال محشورًا داخل سجلات الأرشيف الوطني الفرنسي لما وراء البحار، بحثًا عن أدني وميض، يؤكد ما أسمعه هنا وهناك منذ وصولي.
»‬- متي ستنتهي من أوراقك؟
- لا أعرف بعد، ربما خلال ساعة.
- أتري كم هي الساعة؟ إنه وقت الطعام».
قدمت أطباقًا ساخنة، وجلبت لي الماء في دلو، لأغسل يدي: أمامها، آكل بيدي لإقناعها بأنني لا أزال الشخص الذي عرفته. ابتسمت عندما طلبت منها »‬كالاباش» المياه. الوجبة دسمة، ومذاقها شهي...
بمرور الأيام، أتخلص شيئًا فشيئًا من هذا الرداء الغربي الذي يتلبَّسني، مهما ادعيت، لألتحف ثيابي الأفريقية العتيقة. ليس من السهل استعادة العادات القديمة، فهناك جهد ينبغي بذله، وقد فهمتُ بسرعة أن أفضل طريقة لأندمج مجددًا في مجتمعي هي أن أكون متواضعًا قدر المستطاع.
رغم ذلك فالأمر الذي أعجز عن فعله، هو التخلي عن قراءتي الصباحية، رغم بعوض »‬الفورو»(4) الذي يستغل سكوني، ويترك جسدي مغطي ببقع صغيرة خمرية. أدرك أنه يُنظر إلي الأمر علي نحو سيئ في مجتمعي. الأشخاص الذين يشاهدونني أقرأ أو أكتب في الصباح الباكر، يلمحون إلي وجود مشكلة بيني وبين »‬تشونو». ويفسرون سلوكي كرجل غاضب من شريكة لم تكن لطيفة في الليل. هم بعيدون عن إدراك أنني أسابق الوقت لإنهاء أطروحتي، وأيضًا إشباع شغفي بالحقيقة.
أي انتقادات يمكن أن أوجهها ل»‬تشونو»؟ أتذكر الليلة الأولي عندما عدت إليها. كانت الشمس قد غابت للتو، والهواء المنعش يلفنا في هذه الفترة من موسم الجفاف. بعد الاستماع إلي بعض الحكايات حول النار، ذهبت إلي السرير، ولحقت بي »‬تشونو». انزلقت عارية تحت الغطاء. اكتشفت أن سرتها كانت أصغر من طرف خنصري، أخبرتني أنه عند ولادتها، كانت سرتها كبيرة مثل »‬كالاباش» صغير. قامت جدتها بإحراق »‬دوجنجيسي»(5)، ثم فركت رمادها علي سرتها، لجعلها أصغر والتعجيل بالتئامها. يدي النازلة نحو خصرها شعرت بشيء مثل عقد. رفعت الغطاء، فرأيت أنه مصنوع من حبات بيضاء وحمراء وزرقاء. أردت عدها...
»‬- من أعطاكِ هذا العقد؟
- إنه عقد يعود لوالدتي، ورثته عن جدتها.
- لماذا تضعينه؟
- ماذا تريد أن تعرف؟ نعم! أعرف أنه إذا حدثتك عنه، فستضع ذلك في كتبك. أهذا ما تريد؟ أهم البيض من طلبوا منك ذلك؟
- لم يطلبوا مني شيئًا! لكن أنت تعرفينني، أحتاج إلي المعرفة».
موجة من الضحك... ربتت بحنو علي كتفي عندما وضعت يدي اليمني علي صدرها. لم تقل شيئًا بينما كنت، بيدي اليسري، أستمر في تفصيص حبات عقدها. داعبت شعري وطرحت عليّ السؤال الذي يخنق قلبها:
»‬- كم امرأة بيضاء عرفت؟ أريد أن أعرف...
- لم أعرف أية واحدة! في كل مرة أنظر إلي الصفحة الرئيسية لجهاز الكمبيوتر الخاص بي، فإن صورتك هي ما أري، لذلك، ولذلك فأنت تسودين غرفتي كطالب. كيف يمكنني أن أفكر في خيانتك؟ كل رغبة يمكن أن أشعر بها تجاه امرأة، تتلاشي إلي لا شيء بمجرد التفكير فيكِ. أرجوك، اشرحي لي معني هذا العقد حول خصرك...
- قالت لي والدتي إن المرأة هي بيت يحتاج إلي الزينة. ولكي تشبه المرأة البيت الذي تتمناه من أعماق قلبها، عليها أيضًا أن تمتلك شامة. وهذا ليس كل شيء، عليها أن تولي اهتمامًا كبيرًا للعطر الذي يفوح منها، ويجب أن تكون مثل زهرة تفتحت للتو مع أول خيوط الشمس عند خروجها من منزلها. قالت لي: هذا ما سيدفع الرجال للوقوف من أجل النظر إليك وامتداحك».
لمست العقد من جديد قبل أن أفقد توازني علي هذا الجبل، لأغوص في عمق الوادي. وبينما كنت أتساءل أين أنا، رأيت يد »‬تشونو» تشدني لأتسلق الجبل من جديد كي لا أنسي لعبة العقد. شعرت أنها اختبرت لذة قوية عندما لعبت بهذا الحلي الذي مر حول خصور عدة أجيال من النساء. ما جعلها أثمن في عيني.
»‬تشونو» تمثل بالنسبة لي الجوهر الحقيقي للحب. إنها تجسد ما هو أكثر نبلاً لدي امرأة »‬الباياكا».
هذا الصباح، أتي قريب لزيارتي.
»‬- لقد استيقظت اليوم جيدًا »‬أولاب»! يبدو أن »‬تشونو» كانت حنونة جدًّا هذه الليلة..».
انفجرت في الضحك، وبدت »‬تشونو» سعيدة، فهي تستمتع عندما يقول الناس إنها تهتم بي جيدًا في الليل. بينما أشعر بالحرج، لأنني لا أريد أن يعلم الجميع أنني فصصت عقدها.
»‬- فعلت كل شيء كي لا يلمس كتبه هذا الصباح. لقد جاء إلي هنا ليكون معي، وليس ليظل ملتصقًا بتلك الأوراق التي جلبها من فرنسا. في غضون أسبوع، سينسي تلك الفرنسية. لقد تغير كثيرًا منذ عاد لتناول طعامي».
موجة من الضحك...
»‬- هذه الكتب هي مستقبلنا. لا يجب أن تعتقدي أن رؤيتي مع كتاب، تعني أنك لست في أعماق قلبي».
وصلت رسالتي إلي والدتي. أخبرتني بأنها نقلت اهتماماتي للجد »‬بيرامبي» الذي يقدر الاهتمام الذي أوليه لماضينا، لكنه اندهش من أن البيض قد احتفظوا بذاكرة عدة عصور في أرشيفاتهم. وقد أجابت »‬تشونو» بالفعل علي أحد أسئلتي حول »‬الباياكا» ووالدتي أكدت لي أن النساء وضعن عقودًا حول خصورهن. وأخبرتني أنهن كن ينحتن أسنانهن الأمامية. هذه الموضة الشعبية للغاية كانت تسمي »‬نيانج». وكانت لديهن أيضًا خدوشٌ علي البطن. أدركتُ أن نسل »‬الباياكا»، »‬البونو»، قد فقدوا معظم عادات أجدادهم. فقط بعض النساء ورجال قليلون ظلوا متمسكين بالتقاليد، مثل ذلك العقد حول خصر »‬تشونو». تساءلت حول إرث الروح النضالية. هل هذا بسبب الجرح الذي استغرق وقتًا طويلاً ليلتئم؟ أخشي أنهم لا يتذكرون لماذا ولا كيف جرحوا. أعوِّل علي الجد »‬بيرامبي» لينقل لي ما كابدوه من معاناة.
»‬- هل هو بصحة جيدة؟ سألت والدتي.
- أوه! كما تعرف، يا »‬أولاب»، عندما نتحدث عن شخص بصحة جيدة هنا، فكأنك تري ثمار البابايا، أقل ريح تقتنصها. جدك »‬بيرامبي» وجدتك »‬بيفيجو» عجوزان بالفعل، ويقاومان رغمًا عنهما قسوة المناخ. ستراهما: إنهما مثل وعاء قديم و»‬كالاباش» المياه، يمنحان الحياة لبعضهما بشكل متبادل. وينتظران يومهما الأخير، يوم نداء الإله».
لم تكن »‬تشونو» سعيدة حينما أخبرتها بأنني سأذهب إلي »‬موكاب» بدونها. أكدتُ لها أنني لن أقضي هناك سوي يوم واحد، وسأعود في المساء. وافقت علي مضض، لأنها تعرف أن هذا من أجل مواصلة أبحاثي.
كان الوقت ما زال ظلامًا، عندما اتخذت وجهة »‬موكاب» علي طريق »‬تشيبانجا»، وحقيبتي علي ظهري. شعرت بخطواتي خفيفة: هذه القرية علي بعد عشرة كيلومترات مشيًا من »‬موابي» . أنا سعيد بفكرة لقاء الجد »‬بيرامبي» مجددًا. سيطلعني أخيرًا علي ذاكرة سلالتنا. سرت في الطريق وأنا أصفر، والقري تتوالي، كحبات عقد: »‬سوانجي»، »‬موتونجو»، »‬موساموكوجو» و»‬بينيينسي» قبل بلوغ »‬موكاب». علي الطريق لاحظت أن كثيرًا من البيوت، لم تعد مبنية بمواد تقليدية. لم تعد تشبه تلك التي مر بها القائد »‬سيكر»، القائد العسكري للجابون الذي قاد بنفسه الحرب ضد »‬الباياكا». الكثير من الأكواخ لها أسقف من الصفيح وجدران من الخشب.
في إحدي الساحات، جلس عجوز بالقرب من النار، وبجانبه أطفال يقرفصون ويلوحون بالأغصان لتأجيجها. وبعيدًا، كان آخرون يشوون الفئران التي قتلوها في الصيد. وكلب يدور حول نفسه، محاولاً طرد الذباب، فعض ذيله. وصادفت أناسًا ذاهبين نحو الأدغال. عند طرف كل قرية، مكان للراحة الأبدية مزين بقنينات وضعت عليها شموع. واعتلت قبعة جندي أحد الأضرحة، وعلي آخر حقيبة مدرسية. أحدها لفت انتباهي بشكل خاص: تمثالان تذكاريان ل»‬بويتيست»(6) يزينانه. يذكراني بتلك التوابيت في متحف القاهرة التي رسمت عليها الأغراض النفعية للميت. فهل يواصل الموتي في العالم الآخر أداء المهام نفسها كما علي الأرض؟ محتمل. والدتي روت لي أن امرأة عجوزًا متوفاة في قرية مجاورة، طلبت من ابنتها في الحلم غليونًا. أخبرتها بأنها تعاني طوال الوقت من الغثيان، وكانت في حاجة إلي غليونها لتجفف اللعاب الذي يسيل من فمها. وهكذا، في اليوم التالي، قامت ابنتها بوضع غليون علي قبرها.
بدأت الشمس تشرق، وأنا أغني لأبدد الوحدة. لم أعد بعيدًا عن »‬موكاب». من فوق قمة تلة صغيرة، ألمح القرية التي تمتد علي جانبي الطريق لمسافة كيلومتر. عندما أفكر أنني بمواجهة ما تبقي من عاصمة بلاد »‬الباياكا»... أمام الأكواخ علقت سباطات موز، وثمار نخيل الزيت، وأسماك مدخنة، وقصب السكر علي عصي في انتظار الزبائن المحتملين. الدخان يصعد فوق أسطح الأكواخ. هنا كما في أماكن أخري، الحداثة واضحة: ألواح الطاقة الشمسية لتزويد القرية بالكهرباء وضعت فوق بعض الأسطح، والأطباق الهوائية، تغرق المنازل بصور من جميع أنحاء العالم.
في منتصف القرية، تقبع الكنيسة والمدرسة. توجهت نحو باحة جدي. نبح كلبٌ بودٍّ عند رؤيتي أصل بحقيبة الظهر. هذا النباح المضطرب نبه الجدة »‬بيفيجو» التي خرجت من مطبخها. أطلقت صيحة فرح، ورسمت خطوات راقصة لترحب بي. ثم بعد عناق طويل، سألتني:
»‬- أولاب! متي وصلت؟
- منذ أسبوع وأنا في »‬موابي». اليوم، امتلكت الوقت لزيارتكم.
- الجد في ال»‬مباندجا». وأنا أقبع هنا طوال الوقت، ولم أعد أذهب للأدغال، انتظارًا لعودتك.
هذا الكلب لا ينبح كيفما كان. يجيد الترحيب بغريب علي طريقته. واضح أنك عائد من بلاد البيض. حتي أنك صرت بنيًّا».
تلمَّستني جدتي، لتشعر بنعومة بشرتي. انفجرتُ في الضحك، وقبَّلتُها مرة أخري قبل أن ألتحق بالجد في مركز الحراسة. لم يكن بمفرده، كان مع العم »‬كوندي». تصايحَا عندما رأياني. ابتهجت لوجودي بين أهلي. خبر مجيئي انتشر في القرية، والناس أتوا من كل مكان لتحيتي. حتي الأطفال بحثوا في ذاكرتهم القصيرة عما إذا كانوا قد رأوني من قبل. حملت رضيعًا حاول جذب نظارتي، وبما أنني لم أكن علي استعداد لإعطائها له، بدأ في البكاء. وبمجرد أن وضعته علي الأرض، أطلق مثانته من الغضب. هبت رياح منعشة من بين الجدران الخشبية التي تلف ال»‬مباندجا». وقعت عيني علي تمثالين لرجل وامرأة، ثم علي جلد ذهبي لقط يزين »‬ديكوتوديموروال»(7). حييتُ باحترام الشاهدين الأخيرين لحقبة بعيدة، ولكن عظيمة. أليست المصاعب التي تحمَّلاها، هي بالتحديد التي منحت هذا العمر المديد المدهش لجدي الأكبر وعمي الكبير؟
»‬- جدي.. أمي أبلغتني بأنك ستتنحَّي، كزعيم للقرية؟
- ها، نعم، سأنسحب. أجاب بابتسامةٍ ماكرة.
- ولكنك »‬ديكوتوديموروال» »‬موكاب»! من غيرك لديه القدرة علي حفظ السلام في القرية؟
- صحيح أن قراري لن يلقي التأييد. ولكن سأخبرك: أنا لم أعد العمود الذي يقاوِم العواصف. أنا في الواقع أشبه بهذه »‬المباكا» القديمة الذي تفقد قشرتها. وبين جذورها التي نخرتها القنافذ، يجد حيوان المدرع مأواه، وتحمل فروعها فجوات، حيث تأتي الببغاوات لوضع بيضها. النحل يأتي أيضًا لصنع خليته، والحطاب يقول لنفسه إنه سرعان ما سيجني الكثير من المال، إذا قام بقطعها».
كعادته، مرر »‬كا بيرامبي» يده علي شاربه، ورفع عينيه نحو السماء لمناشدة الأسلاف، قبل أن يأخذ نفسًا من غليونه.
»‬- لا أريد أن أكون موضوعًا للمساومة، بين أولئك الذين يتمنون سعادتي، وأولئك الذين بين أمسية وأخري في »‬نجانجا»(8) يرتبون لموتي، لأخذ كرسيي. سأتنازل عن هذه المكانة لشخص أصغر مني. ولكن، اطمئن، سأرسم له المسار الواجب اتباعه، ما دمت علي قيد الحياة».
طلب مني العم »‬كوندي» أن أصف له حياتي في بلاد البيض. بدأت بالطقس، وصفتُ له بشكل خاص فصل الشتاء الذي استغرقت وقتًا للتكيف معه. قارنت البرَد بحصي صغيرة محملة بالماء، تسقط علي رأسي. لم يسبق له أن رأي الثلج، ولا عرف الجليد، ولتوضيح الفكرة، حدثته عن سجاد من القطن الأبيض، يأتي من السماء. تساءل العم »‬كوندي» كيف أمكنني الصمود أمام هذه القسوة. قال إنه حتي لو قدم له أحد ما تذكرة كهدية، فلن يقبل الذهاب للعيش في بلد، حيث البرد القارس في فصل الشتاء، مثل الحرارة الحارقة في الصيف، لا يرحم أحدًا. كان الجد »‬بيرامبي» والعم »‬كوندي» سعيدين لرؤيتي ببعض من الوزن الزائد.
»‬- هذا دليل علي أن هؤلاء الناس الذين قاتلهم أسلافنا، ليس لديهم قلب مليء بالكراهية. أصدر الجد حكمه.
- إنهم مليئون بالطيبة. أضاف العم.
- آه! يا جدي، لقد قلت للتو شيئًا أثَّر فيَّ. كنت محقًّا. أفترض أنهم نقلوا إليك خبر أن أستاذي موافق علي أن تكون أطروحتي لماجستير التاريخ، تتناول »‬الغزو الاستعماري للجابون في بداية القرن العشرين». وبشكل خاص: الفترة ما بين 1905 و1913 التي تثيرني.
- والدتك نقلت لي الخبر. أنا سعيد لأنك تهتم ب»‬مافورولو». لم يكن شخصًا عاديًّا! لقد ولد بالقرب من هنا، في »‬بوجولو» لوالده »‬نزينجي»، والدته »‬باكيتا».
أومأ الجد برأسه، وضيَّق جفنيه، وزم فمه. بملامحه القاسية، وتجاعيده العميقة، كان أشبه بقناع محارب.
»‬- هو الوحيد الذي وقف بوجه البيض، لا أعرف ما إذا كان قد فعل الصواب. ليس لي أن أحكم عليه. لم يكن أحد يعرف في ذلك الوقت أنه سيكون لدينا طرق، وطائرات، ومدارس. بكلمة واحدة: الحداثة، فهل تكفي لنُشيد بعمل المستوطنين؟».
أخذ نفسًا من غليونه قبل أن يكمل:
»‬- خرج الناس إلي الصيد، وعندما لم يعثروا علي أي شيء، ذهبوا أبعد من أي وقت مضي. وبعد عدة أيام، وجدوا فيلاً ميتًا علي الساحل. كانوا يحدقون في الفيل الميت عندما سمعوا اندفاع الأمواج. وهكذا ألقوا نظرة علي البحر الذي لميسبق لهم رؤيته من قبل. كانوا فقط مندهشين من ذلك الإبداع الإلهي. لكن »‬تات كانيي» الذي كان مغامرًا. نسي الفيل، كي لا يفكر سوي في البحر. أتفهم ما أود قوله؟ فكرت في ذلك كثيرًا، وتوصلت إلي الاستنتاج بأنه هو من كان علي حق. خطؤه الوحيد، أنه كان علي حق قبل الأوان. بالنسبة للآخرين، لم يهتموا سوي بالفيل. لم يدركوا ما يمكن لذلك البحر المفتوح علي مصراعيه أن يجلبه لنا. وكما تري اليوم، نحن نعمل مع البيض. حتي لو كان صحيحًا أننا سنشم دائمًا رائحة ذلك الحيوان المتعفِّن. أنت بالفعل حفيد »‬تات كانيي»، أنت أيضًا، تري قبل الآخرين».
شعرت بالتأثر والإطراء لهذه المقارنة، ولكن توقي للمعرفة، كان أقوي من كل شيء. خاصةً أنني أدركتُ جيدًا أنه إذا كان »‬كا بيرامبي» بكامل عقله، فإن جسده المريض، كان مثل شجرة تساقطت أوراقها. كان لدي تخوف، يدفعني لاستعجال بحث الأطروحة، وهو أن آخر من رأي بعينيه »‬مافورولو» حيًّا، ينطفئ، ويمكن أن يرحل في أية لحظة مع كل معلوماته.
»‬- اعذرني علي سؤالك، يا جدي، ولكنني أسعي لمعرفة »‬مافورولو» بشكل أفضل. قلت إنه ولد في »‬بوجولو». في أي سنة كان ذلك؟ وهل عاش هناك؟
- متي ولد؟ وهل أعرف أنا نفسي تاريخ مولدي؟! في ذلك الوقت، كنا نتزوج فتية. كان يكبرني بحوالي اثني عشر عامًا. لم أكن سوي طفل صغير آنذاك، لكنني أتذكره جيدًا. »‬مافورولو» كان وسيمًا، ولكن بوسامة تُدهش. كان قويًّا أيضًا، وتنبع منه طاقة لا نجدها عند أي شخص آخر. وهذا ما أدهشني، وهو ما جعل صورته حاضرة في ذاكرتي حتي الآن. هل تتخيل التأثير الذي كان له علي نساء »‬بوجولو»! صبي صغير، وسيم، قوي وشجاع، الكثيرات من بينهن كنَّ مهتمات بذلك الذي بدا كالديكِ الوحيد في القن. ولم يكن يفاجئني، أن الأزواج المخدوعين، يعانون للحصول علي نوم هادئ! كان علي والديه كل يوم، أن يستمعا إلي الشكاوي الشائنة، لأولئك وهؤلاء. وفي إحدي الأمسيات، قام العجوز »‬نزينجي»، فور عودته من مجلس الحكماء باستدعاء ابنه إلي مركز الحراسة. في ذلك الاجتماع السري أخبر ابنه بالحكم الذي صدر بحقه. انتُقِد سلوكه تجاه النساء المتزوجات علنًا، وقرر المجلس إرساله بعيدًا عن »‬بوجولو» إلي حيث أخواله في موكاب. تلقي الشاب الخبر بفتور، ولم يعترض. كان يعرف أنه ما دام والداه موافقين، فإن قرار المجلس لا رجعة فيه. قرار صعب، لأنه كان علي القرية أن تستغني عن صبي طيب وشجاع. ورغم أنه كان صغيرًا جدًّا، لكنه كان يجيد صنع نبيذ النخيل، والقنص، وصيد الأسماك، والعمل في الحقول! كان حطابًا عظيمًا، إذ لم يكن يقطع الأشجار علي الأرض. بل يتسلق بواسطة حزام يزيد طوله علي عشرة أمتار، وهناك كان يقطع الشجرة بفأسه. في الأدغال، كان يقتلع »‬الكوت»(9). ويمضغ دائمًا جذرًا من هذه الشجيرة، لاستخراج العصارة، وهي عصارة منشطة تجعل الرجل أكثر فحولة. والرجل يجب أن يبقي فحلاً دائمًا. وكان أيضًا مصارعًا ممتازًا، لا يخشي تلقِّي اللكمات، ولا توجيهها.
- هل كان عنيفًا مع النساء، يا جدي؟
- »‬مافورولو» كان يعشق النساء، لكنه لم يكن عنيفًا. علي كل حال لم يكن معظم المحاربين يضربون زوجاتهم، كان ذلك ممنوعًا. أولئك الذين شكلوا القوة العسكرية ل»‬موكاب» كان لهم علي العكس دور الحماية. صائد الفيلة، في أرضنا، لا يضرب زوجته، ولا أطفاله. الأمر نفسه بالنسبة للمحاربين. كانت لديهم قوة إلي حد أنك إذا تلقيت صفعة منهم، كان يمكن أن تقودك إلي القبر.
- علي أي حال لقد كان طرده من قريته مذلَّة. ناهيك عن أنه ربما ترك أصدقاء من عمره. كيف واجه ذلك؟
- البعض لا يندمجون في قراهم، لأنهم لا يتوافقون مع المجتمع، أليس كذلك؟ أنا واثق بأنه فكر في الأمر. كان ذكيًّا، ويدرك أنه لا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل. من يدري، ألا يمكن أن يكون هذا الزجرقد أنقذه؟ الله وحده يعرف قدرنا. وثق »‬مافورولو» بالعناية الإلهية. والأزواج المجروحون، لم يجدوا أي سبب للانتقام: الديك الذي يفضل النوم علي الأشجار هو فريسة الثعلب، ورجل لا يحب النصائح،سلته مليئة بالحلزون. بمغادرة »‬بوجولو»، أفلت من عقوبة ال»‬مونينتس»(10). علاوة علي ذلك، لم يذهب إلي أرض مجهولة، بل إلي »‬موكاب». كان »‬مافورولو» يعرف أنه سيجد حماية أهله. ورغم كل شيء، كان رحيله صعبًا. أراد والداه أن يتم الأمر بشكل سري. كانت »‬بوجولو» لا تزال غارقة في الظلام عندما أيقظت الأم »‬باكيتا» ابنها. كانت الحصيرة باردة. في موسم الجفاف، تدخل الرياح من خلال شقوق الجدران الطينية - أنت تعرف منازلنا، لديها هذه الخصوصية، فهي باردة في الداخل نهارًا كما في الليل. سمع »‬مافورولو» ضجيج الجديان التي تحك قرونها خلف البيت، لكن عينيه كانتا مليئتين بالنوم. تردد في وضع قدمه علي الأرض.
بعد طرق أمه المتكرر علي باب قشرة الخشب، سمع »‬مافورولو» صوتها الحزين. نهض أخيرًا. بوجه عابس، لامها علي إيقاظه في ذلك الوقت المبكر. فرك »‬مافورولو» يده اليمني علي عينيه لإزالة الغشاوة، عندما دوت التغريدة الأولي للحجل في البرية. أدرك أخيرًا أن اليوم قد بدأ. توجه »‬مافورولو» إلي مطبخ والدته، أخذ كالاباش مياه، اغتسل بسرعة تحت الشرفة، فلم يكن لديه وقت للاستحمام: حان الوقت لمغادرة »‬بوجولو». كانت صرته جاهزة منذ الليلة الماضية، وتنتظره في زاوية من المطبخ. أضافت الأم »‬باكيتا» لفافة من سمك القرموط، وموزًا، ليتناولها في منتصف الطريق. ذهب »‬مافورولو» لتحية والده، واستمع إلي نصائحه الأخيرة. وكانت الأم »‬باكيتا» تذرف الدموع. غادر »‬مافورولو» دون أن يلتفت، أليست المعاناة جزءًا من الحياة؟ كان يعرف »‬موكاب» من قبل، لأنه زارها مع والدته منذ سن العاشرة. كان خاله هو من علَّمه صيد السمك والقنص هناك. وعندما أوقع لأول مرة بغزال، انتشر الخبر في جميع أنحاء القرية. وتلقي التهاني في كل مكان، حتي أنه قد صار لديه بعض الأصدقاء خلال رحلته الأخيرة. بخطوات واثقة وخفيفة، وسكينه في يده، سار في الدرب الذي أخذه بعيدًا عن »‬بوجولو».
كانت الخفافيش تطير هنا وهناك. والعشب الغض يضرب قدميه الحافيتين. كان الضباب ينتقل من شجيرة إلي أخري كلما تقدم. توقف عندما رأي عصفورًا علي جذع ميت، مفتونًا بألوان ريشه. كان يقترب من »‬كوانجو»، وهي قرية تبعد عن »‬بوجولو» بنحو عشرين كيلومترًا. رأي تمساحًا في ساحة من هذه القرية، جعله يتوقف لبرهة. بعد بضع دقائق، تحول الزاحف إلي كهل يدفئ نفسه بالقرب من نار.
لم يصدق عينيه. روَّض خوفه، وألقي نظرة جديدة. التمساح كان هناك من جديد. ذيله الطويل علي الأرض وحراشفه تسطع بانعكاسات فضية. قطرات من الماء تسقي الأرض، كما لو أنه خرج للتو من نهر. اختفي الزاحف مرة ثانية، وأفسح المجال للكهل. تسلح »‬مافورولو» بالشجاعة وتقدم.
عندما صار وجهًا لوجه مع الرجل التمساح، استجوبه هذا الأخير:
- من أنت وإلي أين تذهب في وقت مبكر علي دروب السافانا الخضراء؟
- أنا ابن »‬نزينجي»، وذاهب إلي »‬موكاب» عند خالي. وأنت، ماذا تفعل في هذه الساحة، في الصباح الباكر؟
- أحرس القرية. أنت محظوظ لكونك ابن ابن أخي. لا أحد يعبر قريتي دون عقاب في مثل هذه الساعة. اذهب، يمكنك مواصلة طريقك.
بخطوات متعجلة اجتاز »‬مافورولو» سهل »‬موريندي» . هنا العشب كثيف وأخضر، وهناك كان أصفر وخفيفًا. ثم بنفس الجدية دخل غابة كثيفة، كانت تغطي سفح هضبة مرتفعة. وكلما تقدم، استنشق الروائح المختلفة للغابة، ووخزت رائحة الفاكهة الفاسدة خياشيمه، تبعتها رائحة زهور الأوركيد الحساسة. العفن كان يشير إلي وجود جدول. وطنين الحشرات صاحب الأنشودة التي يدندن بها لتبديد وحدته. صعد الدرب بميل أكثر حدة، كان يتصبَّب عرقًا عندما وصل إلي القمة. منح نفسه استراحة قصيرة، لالتقاط أنفاسه. اغتنم الفرصة لخلع ثيابه، والتخلص من النمل الأحمر، الذي سقط من الأشجار عند مروره، وتوغل حتي ملابسه الداخلية. منحدر طويل، كان في انتظاره، طار فوقه بقدر ما أسعفته خطواته. في الأسفل، توقف من جديد عند مخاضة »‬الدوفوفو»، وهو نهر صغير يحفه الخيزران. فتح لفافة سمك القرموط، وقطع الموز. أكل وهو يستمع إلي صياح الشمبانزي. »‬لقد أمضوا الليل في هذا المكان» قال لنفسه، وهو يلاحظ قصبًا مطويًّا علي شكل مضجع، وبقايا فاكهة متناثرة علي الأرض. أنهي وجبته، وطوي أوراق القصب علي شكل قُمع لإرواء عطشه.
عندما صادف أول الصيادين، أدرك أنه علي وشك الوصول إلي موكاب. وأمامه كان الدويني يجري بعظمة. مياهه الصافية، صنعت بركًا علي الصخور. بدأ فعليًّا التفكير في رحلة صيده القادمة. لا أحد كان يتوقع قدومه، لذلك لم يكن هناك زورق علي المرفأ. سلكجسر »‬الليانا» الذي يقع نوعًا ما في الأسفل، ووصل إلي موكاب ساعة مغيب الشمس. كانت الفتيات يذهبن ويجئن، وتوقف بعضهن عند رؤيته...
فوجئ »‬مافورولو» عندما لاحظ أن القرية صارت أكبر بكثير منذ زيارته الأخيرة. وبخلاف ذلك لم يتغير شيء: كانت الأغنام والمعز تتجول في سلام، والأولاد مشغولون بصنع ألعاب من الخيزران، بينما كانت الفتيات الصغيرات، يقلِّدن أمهاتهن في الأعمال المنزلية. ويملأن من الأرض صحونًا ورقية، يقدمنها لأشقائهم الأصغر سنًّا كغذاء. وإذا بكي أحدهم، كن يغنين له هدهدة. توجه »‬مافورولو» نحو كوخ خاله. وجده يصقل هونًا كان قد صنعه للتو من أجل زوجته. لم يكن الرجل يتوقع أن يراه. هنأه علي سفره بمفرده تلك المسافة الطويلة جدًّا، في يوم واحد. لم يكذب عليه »‬مافورولو» بخصوص أسباب مجيئه، ثم قدَّم له أخبارًا جديدة عن »‬بوجولو». قدر خاله صراحته.
نبتت في الحال برأسه، فكرة العثور علي زوجة ل»‬مافورولو»، وإلا فحتمًا، ستحدث نفس المشكلات في موكاب. في الأيام التالية، تشاور مع بقية حكماء القرية، ولا سيما العجوز »‬وينجي». شرح له الصعوبات التي واجهها ابن أخته في »‬بوجولو»، وتطور الحديث، فطلب منه يد الجميلة »‬إيبولو» التي كانت بالتأكيد أكثر بناته فتنة. لم يمنحه العجوز »‬وينجي» جوابًا في تلك الليلة. انتظر حتي اليوم التالي: »‬الليل لا يلد للعالم طفلاً جميلاً»، كما كان يحب أن يكرر. أراد بصفة خاصة استشارة زوجته. الزواج ليس أبدًا بتلك السهولة كما نعتقد.
- ابنتي ستكون زوجة رجل معروف بقوة شخصيته، وشجاعته وقدرته علي صون عائلة. هل يجمع »‬مافورولو» كل هذه الصفات؟
- هذا الولد هو ابن صديقي. منذ عشنا هنا، عائلتانا لم تواجها أي مشكلة أبدًا. »‬مافورولو» قوي، وشجاع، وقبل كل شيء محترم جدًّا. ولهذه الأسباب أنا موافق علي هذا الزواج.
لكونه يجمع هذا القدر من الفضائل، فإن والدة »‬إيبولو» لم يمكنها إلا أن تقبل ب»‬مافورولو» صهرًا. غير أن هذا الارتباط في »‬موكاب» كان بعيدًا عن نيل الإجماع. كانت »‬إيبولو» جميلة جدًّا إلي حد أن شباب »‬موكاب» العزاب كانوا يحاولون انتزاعها. والآن جاء غريب، ليأخذها تحت أنظارهم! وسواء أرادوا ذلك أم لا، بدأت الطبول تدق، وجابت الرقصات التقليدية القرية في جميع الاتجاهات.
بعد بضعة أيام، رافق والدا »‬إيبولو» ابنتهما إلي بيتها الجديد.
بسرعة جدًّا، أصبحت »‬إيبولو - إي - وينجي» أكثر من مجرد زوجة، كانت الذراع اليمني ل»‬مافورولو». فإذا كانت تجيد التواري أمام مجلس الحكماء، فقد كانت دائمًا حاضرة في قرارات »‬مافورولو» الذي لم يكن يقوم بعمل، دون الرجوع إلي تلك التي منحته أسرة كبيرة. إذا لم يكن لديك امرأة، فلن تأكل فاكهةً، ولا بندقًا، ولا شوكولاته. اختتم الجد »‬بيرامبي» تحت نظرات الإعجاب من أولئك الذين تابعوا باهتمام وتأثر هذه القصة العظيمة.
»‬- عفوا، يا جدي، لا بد أنك متعب، ولكن لا يزال لديّ سؤال: لماذا كانت »‬موكاب» قرية أكثر أهمية من الأخريات، لدرجة منح اسمها للمنطقة بأكملها؟
- لأرض »‬موكاب» موقع تُحسد عليه. فهي جبلية وكثيفة الأشجار، وتتغذي في جميع الفصول من نهر »‬الدويني» ذي المياه الصافية المليئة بالأسماك. المستوطنون قدَّروا هذه المنطقة الغنية بالمطاط، والعاج، وكذلك ثمار نخيل الزيت. بالإضافة إلي أن القرية تقع علي بعد بضعة كيلومترات من طريق »‬كوموجاري»، التي تعبر من خلالها البضائع القادمة من »‬لاهوت نجونيي» نحو »‬تشيبانجا». ملح »‬فيرنان فاز» الذي لا غني عنه في »‬تسوجو»، كان يمر أيضًا من هناك. ومن الناحية العسكرية، كان موقعًا استراتيجيًّا لتأمين المنطقة. هل تري هذه الغابة أمامنا؟».
خرج الجد من »‬المباندجا» وأشار إلي غابة »‬مانزومبي»:
»‬- في هذا المكان اجتمع زعماء الأراضي، للتصدي لنزعات الحرب التي كانت تتأجج هنا وهناك، كالنار في الهشيم. عمك »‬كوندي» لا يمكنه تكذيبي، رغم أنني كنت لا أزال طفلاً في ذلك الوقت. فقد رأيت بأم عيني، القائد »‬سيكر»، الذي كان يقود جميع قوات »‬الجابون»: الجنود، والقناصين، ورجال الميليشيات. رأيته يتحدث مع الزعيم العجوز »‬مافيوجا موجينجي»، عم »‬بنياما»، نفسه زعيم أرض »‬موكاب».
- هل تعرف ماذا قالوا لبعضهم بعضًا؟
- لا. لم تتسرب أبدًا أي معلومة من حديثهما. علي أي حال، لم يكن يسمح للأطفال بالبقاء، حيث يقوم الكبار باتخاذ القرارات التي تتعلق بمستقبل المنطقة. ولكن لدي رؤيتي: في نظري، القائد »‬سيكر» أراد من الزعيم العجوز أن يثني ابن أخيه عن الانضمام إلي »‬مافورولو» في التمرد. رأيته يخرج من كوخ الزعيم بعد ساعتين بوجه متجهِّم. كان الرجل ضخمًا مع مشية عسكرية، ما جعله مهيبًا. هيئته القلقة كانت علامة علي أنه كان يخشي أن يُظهر العصيان ضعف القوة الاستعمارية. وإذا تنفست »‬موكاب» هواء الحرية، فسيقوم الآخرون بتقليدها. كان يتوقف من وقت لآخر، يرفع خوذته البيضاء ليمسح العرق الذي كان يتصبب علي وجهه. ثم غادرت حراسته المكونة من قناصين سنغاليين باتجاه »‬موابي».
- هل نجح العم في إقناع ابن أخيه؟
- كان ل »‬مافيوجا موجينجي» تأثير علي ابن أخيه. وصحيح أن القائد الأبيض، قد كلفه أن يضغط بكل ثقله، من أجل التوصل إلي حل سلمي ودائم. لكن »‬بنياما» كان رجلاً متحفظًا، وجدًّا غامضًا. كان يمكن أن يقول نعم للفرنسي، وفي السر، يستمر في مقابلة »‬مافورولو». وعلاوة علي ذلك، كان لهذا الأخير شخصية قوية، لدرجة أنه لا أحد، سواء عن قناعة أو عن خوف، يمكنه أن يدير له ظهره. لا، لم يتوصل »‬مافيوجا موجينجي» إلي تحقيق غاياته».
لا يزال لديّ آلاف الأسئلة لطرحها علي هذا الشاهد الأخير، لكن لا يمكنني أن أرهقه أكثر. سيكون عليَّ أن ألتقي به عدة مرات. وافق بكل سرور أن أعود الأسبوع المقبل، وهو الوقت الذي يكفيني لمساعدة والدتي علي الانتهاء من عملها في الحقل. أعدت الجدة »‬بيفيجو» »‬اليام»(11).تناولت الطعام في عجالة، واتخذت طريق »‬موابي» حيث كانت تنتظرني »‬تشونو»... وأوراقي.
لم أكن وحيدًا في طريق العودة. بدت لي المسافة أقصر، لأن كل واحد حكي قصته. ومع ذلك كان الظلام قد حل عندما تخطيت عتبة البيت. كانت »‬تشونو» تنتظرني، بقلق. خشيت أن أقضي الليلة عند جدي. هذه المرة، صارت هادئة، ولم تطرح أي سؤال بشأن أبحاثي. سألتني فقط عن أخبار الجدة »‬بيفيجو». أمي أيضًا كانت سعيدة لعودتي.
»‬- أمي، لقد فكرت فيما قلتِه لي صباح أمس.
- لقد نسيت... أيمكنك تذكيري؟
- أمي! قلتِ لي إنك في العام الماضي، بدأت الأعمال الحقلية متأخرة، لأن أبي كان مريضًا. ولهذا أخذ المشتل الذي أقمته في مخيم »‬إساري» الوقت قبل أن يتم تنقيته. وفي سبتمبر حين كانت النساء الأخريات ينقلن غرسات المشاتل القديمة إلي الجديدة، في هذا الوقت، كنتِ بالكاد تجهزين مشتلك...
- أنت محق، لكن ليس لهذا ستوقف أبحاثك. خلال يومين ستنتهي أعمال المشتل،وتعود لرؤية جدك والعم »‬كوندي»، إذا كان لديك أسئلة أخري، تطرحها عليهما».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.