«التنظيم والإدارة» يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف حتى نهاية العام    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    رئيس تجارية القليوبية: التمويل التنموي يحفز الاستثمارات ويعزز تنافسية القطاع الخاص    الأردن: انتهاك مجالنا الجوي محاولة لجرنا إلى صراع إسرائيل وإيران    السعودية: وصول طلائع الحجاج الإيرانيين إلى مطار "عرعر" تمهيدًا لمغادرتهم    أوليس أفضل لاعب بمباراة بايرن ميونخ ضد أوكلاند سيتى فى كأس العالم للأندية    قافلة الصمود تتراجع إلى نقطة آمنة بسرت في ليبيا "حتى إطلاق سراح الموقوفين"    بايرن ميونخ يكتب التاريخ في مونديال الأندية| رقمان جديدان    تحفظ جديد من إدارة الزمالك بشأن صفقات فريق الكرة    مصر لا تنسى تضحيات أبنائها المخلصين| إطلاق مبادرة للأبناء القصّر لشهداء القوات المسلحة والشرطة والمدنيين    تأجيل مؤتمر مهرجان جرش للثقافة والفنون    نجوى كرم تطرح أحدث أغانيها «حالة طوارئ» | فيديو    وجدي زين الدين: إسرائيل تخوض حربًا دينية والهدف الحقيقي من التصعيد هو مصر    طرح البوستر الرسمي ل «مملكة الحرير» بطولة كريم محمود عبد العزيز    كيف تنظم المرأة وقتها بين العبادة والأمور الدنيوية؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوجيهات رئاسية جديدة تتصدر نشاط السيسي اليوم    صراع مع آلة لا تعرف الرحمة.. «نيويورك تايمز»: الذكاء الاصطناعي يدفع البشر للجنون    ضبط المتهمين بقتل سائق توك توك وإلقاء جثته بمقابر أسوان    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    توتر في الأهلي.. لماذا انفجر بن شرقي بسبب صدام إنتر ميامي؟    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    رامي جمال يوجه رسالة لجمهور جدة بعد حفله الأخير    «جزار الوراق» ينكر التعدي على تلميذة: «ردت علىَّ بقلة ذوق فضربتها بس» (خاص)    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    10 سلوكيات خاطئة ابتعدى عنهم مع أطفالك حفاظا على صحتهم    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    احذر عند التعامل معهم.. أكثر 3 أبراج غضبًا    المتحف المصري الكبير يستقبل الزائرين.. وإلغاء قرار الغلق بداية من اليوم    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد صدمة وفاة شقيقها نور الدين    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    رئيس وزراء العراق: نرفض اختراق أجوائنا ونبذل أقصى درجات ضبط النفس    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    طريقة عمل فطيرة السكر باللبن في خطوات بسيطة    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    تعليم الأقصر: غرفة العمليات لم تتلقَ أي شكاوى بشأن امتحاني مادتي التربية الوطنية والدين للثانوية العامة    توتنهام يضم الفرنسي ماتيل تيل بشكل نهائي من بايرن ميونخ    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    استمرار استقبال محصول القمح المحلي للمواقع التخزينية بالشرقية    "طوارئ" بشركات الكهرباء تزامنًا مع امتحانات الثانوية العامة    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    ماراثون الثانوية العامة بدأ.. طلاب الأقصر يتوافدون على اللجان لأداء أول يوم امتحانات    الأهلي أوقفه.. ميسي يتعطل لأول مرة في كأس العالم للأندية    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    تعليق ساخر من مجدي عبد الغني على مدرب الأهلي قبل مواجهة إنتر ميامي    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عم عزيز والقصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 17 - 11 - 2017

كانت المصادفة وحدها هى التى تقودنى بين الحين والآخر لأمر على هذا القصر القديم الواقف بوقار وصمت فى أحد أحياء القاهرة. حى شعبى تتجاور فيه البيوت القديمة والدكاكين المتواضعة وتحيط بهذا القصر الذى يقف فى وسطها مغلقاً مهجوراً يثير الفضول بصمته وبطرازه المعمارى ونوافذه الضخمة وشرفاته المغلقة وحوائطه العالية التى عبثت بألوانها الأيام.
وحين ساقتنى المصادفة من جديد لأمر به برفقة صديق من أهالى الحى قررت أن أتوقف وأدور حوله دورة أرضى بها فضولى وإذا بى أجد على بعد خطوات رجلاً متقدماً فى السن بملابسه الكاملة كأنه راجع من سفر طويل يجلس على كرسى مقابل القصر. بدلة كاملة بألوان باهتة وخطوط قديمة وقميص أبيض مغبر بعض الشىء وكرافتة سوداء مربوطة بعناية فائقة وعلى رأسه قبعة تحميه من الشمس ويظهر من تحتها شعره الفضى.
وقفت أتأمله من بعيد. رجل فارع الطول يظهر ذلك من ساقيه الممدودتين أمامه. ملامحه فيها أصل أجنبى وعيناه زرقاوان وكان مبتسماً وهو يتابع المارة الذين يحيونه ويرد لهم التحية باللغة الفرنسية! بونجور مدام! بونجور مسيو! ونظرت لمرافقى الذى كان يتبعنى دون أن يفهم لماذا غيرت طريقى حتى رآنى أتوقف أمام الرجل الجالس على الكرسى فتقدم ليقول لى: آه عم عزيز ! سألته بعد أن انتحيت به جانباً ! من يكون عم عزيز؟
قال لا أعرف إلا اسمه ، وأنه يجلس فى هذا المكان منذ عدة سنوات لا يكلم أحداً لكنه يرد التحية بالفرنساوى وأهل الحى يحبونه ويعطفون عليه ويقدمون له الطعام بالتناوب وأهالى الأحياء الشعبية كرماء كما تعرفين وهم يعتبرون عم عزيز بركة الحى!
هل يمكن أن أتكلم معه؟
رد عليّ قائلاً! لم أره يتكلم مع أحد ومع ذلك حاولى.
تقدمت نحوه وأنا لا أدرى ماذا أقول فما كان منه إلا أن بادرنى بالتحية:
بونجور مدام !
بونجور مسيو! هل أستطيع أن أتحدث معك قليلاً؟ قلتها بالفرنسية ليشعر معى بالألفة فنظر لى باندهاش وبشيء من الترحيب.
لكنى واصلت بعد ذلك بالعربية: انت تتكلم الفرنسية بطلاقة، وملامحك تدل على أنك من أصول أجنبية لكنى أعتقد أنك تتكلم العربية أيضاً والدليل وجودك هنا فى هذا الحى الشعبى صحيح؟
نظر لى مبتسماً دون أن يرد على سؤالى ثم قال تشرفت بمعرفتك مع السلامة.
وقد فهمت من هذا أنه لا يريد أن يتحدث مع أحد عن نفسه خاصة مع سيدة لا يعرفها وأن لقائى معه انتهى.
قلت له مع السلامة يا عم عزيز وانصرفت مع مرافقى عائدة إلى بيتى!
فى البيت قررت أن أنتهز أول فرصة لأزور هذا الرجل الغريب! عم عزيز مرة أخرى وأعرف من يكون وما علاقته بهذا الحى وبهذا المكان الذى يجلس فيه ببدلته الكاملة ، ومع أن حديثى القصير معه ضاعف فضولى للتعرف عليه فقد ترددت فى أن أعود لزيارته لأنى لا أعرف كيف سيستقبلنى.
ومرت عدة أيام ، وفجأة قررت أن أذهب إلى عم عزيز. من هو هذا الرجل العجوز؟ ولماذا يجلس فى هذا المكان ببدلته الكاملة؟ ولماذا يحيى الناس باللغة الفرنسية؟ وهل يمكن أن تكون هناك علاقة بينه وبين القصر القديم الذى يجلس فى مقابله؟
لكن ترددت فى آخر لحظة من جديد وقررت أن أتخلص من هذا الفضول وأنسى هذه الحكاية. وفجأة اتصل بى صديقى الذى رافقنى فى الزيارة الأخيرة ليقول لى: تصورى. عم عزيز سأل عنك.
فى اليوم التالى كنت فى الحى أمام عم عزيز الذى ابتسم فى وجهى ابتسامة عريضة وهو يقول:
بونجور مدام !
بونجور عم عزيز فى البداية أحب أن أعرفك بنفسى . اسمى سهير متزوجة وعندى أربعة أطفال ، وأعمل فى مؤسسة تهتم بالطفولة وأنا يا عم عزيز لست صحفية ولا فضولية ولا يوجد أى سبب لأفرض عليك نفسى لكنى أشعر أنك وحيد فى هذا العالم ولا يوجد شيء يربطك به ، ربما كانت هناك علاقة بينك وبين المكان الذى تجلس فيه.
كان ينظر لى وأنا أتكلم بشيء من الدهشة لكن بحنان واطمئنان، ومرت لحظات قبل أن يقول لي!
طيب يا مدام سهير!
قلت له: سهير بس!
ابتسم وقال لي: طيب يا سهير بس ، أنا اسمى عزيز وهذا القصر اللى أمامك هو قصر جدى فيليب باشا... انت مصدقانى؟
طبعاً مصدقاك . الحقيقة كان يبدو عليه الصدق.
لكنها قصة طويلة. تاريخ أحكيه لك فى زيارة أخرى، كان عم عزيز منفعلاً ، وكان يقاوم انفعاله فاستأذنت وانصرفت.
ومرت عدة أيام وذهبت لأجد عم عزيز وبجانبه كرسى أشار إليه
توقعت مجيئك فأحضرت لك هذا الكرسى!
شكراً يا عم عزيز! وجلست إلى جانبه ليبدأ هو بحديثه.
لا أعرف ما الذى سمعتيه عنى من أهل الحى. لكنى هنا منذ عدة سنوات أجلس طول النهار. لا أتكلم مع أحد حتى منتصف الليل ثم أختفى. من حق أهل الحى أن يتساءلوا أو يظن بعضهم أنى شخص غريب، مجنون أو مخاوى عفاريت. والواقع أنى أعيش مع أرواح أجدادى . أدخل هذا القصر من باب سرى لا يعرفه أحد سواى تحوطه الأشجار من كل جانب وتخفيه عن العيون، هذا الباب السرى يؤدى إلى غرفة صغيرة كنت ألعب فيها وأنا طفل أعيش مع عائلتى فى هذا القصر كنت أهرب فيها حين يمتلئ القصر بالمدعوين الذين كانوا يأتون بالعشرات ليحضروا الحفلات والسهرات التى كانت تقام فى القصر، فى هذه اللحظة عرفت سبب ارتدائه البدلة الكاملة إنه يعيش بها فى ماضيه.
ويحضر بها الحفلات التى كان يقيمها جده فيليب باشا سرحت قليلاً وانتبهت لعم عزيز وهو يقول: وأنا الآن أنام فى هذه الغرفة الصغيرة حتى الخامسة صباحاً ثم أنهض وأرتدى قميصاً وبنطلوناً وأمارس هوايتى المفضلة وهى الجرى حول القصر لمدة ساعة.
قلت له وأنا أمازحه : تجرى حتى الآن يا عم عزيز؟
قال: طبعاً يا مدام سهير أجرى حتى الآن. صحيح عندى سبعين سنة ولم أعد أجرى بسرعة ، لكنى أمارس هذه الهواية بانتظام ، بعد ذلك أعود لحجرتى السرية وأرتدى ملابسى كاملة وأضع قبعتى على رأسى وأحمل الكرسى وأجلس فى مكانى المعتاد مقابل القصر، كل الذى أحكيه لكى سيدتى من أحداث هو نهاية القصة أما بدايتها فسوف أحكيها لكِ غداً أو بعد غد أو لا أحكيها على الإطلاق.
ليه بس يا عم عزيز أرجوك أنا متشوقة جداً لأعرف بقية الأحداث مش احنا بقينا أصدقاء؟ نظر إلى قائلاً: ست سهير إننى إنسان صادق ، خلاص سأحكى لك بقية القصة تعالى غداً إلى هذا المكان مع السلامة.
فى صباح اليوم التالى ذهبت إلى مكان عم عزيز المعتاد وجدت الرجل على كرسيه يبتسم ابتسامة جميلة وبجانبه الكرسى الذى أصبح مخصصاً لى فجلست بجانب عم عزيز قال لى «ازيك» بالفرنسية، أجبته بالفرنسية أيضاً كويسة جداً قال لى «إنتى عاوزة تعرفى القصة من بدايتها، قلت لك من قبل أن القصر الذى أمامك هو قصر جدى فيليب باشا الذى جاء إلى القاهرة فى أواخر أيام الخديو إسماعيل من بلاد الشام كان فى السادسة عشرة من عمره فقيرا لا يملك سوى ملابسه هارباً من التعصب الدينى والفتن الطائفية التى كانت تطحن بلاده آنذاك وفتحت مصر ذراعيها له وللنازحين الشوام.
أقام جدى فترة من الزمن عند أحد أقاربه السوريين فى القاهرة ثم رحل إلى الإسماعيلية ليعمل فى قناة السويس بعد عدة سنوات ترك وظيفته فى قناة السويس ورحل إلى بورسعيد ليعمل بالمعمار فى هذه المدينة الجديدة وحقق نجاحاً كبيراً فى هذا المجال.
بعد خمس سنوات انتقل إلى القاهرة واستمر يعمل بالمعمار وخلال ذلك تعرف على معماريين إيطاليين كانوا يعملون فى بعض المنشآت الخديوية وأصبح شريكاً لهم وفى تلك الفترة حصل على الباشوية، نظر لى عم عزيز مبتسماً وقال: باشا بجد مش زى الباشاوات المزيفين بتوع الأيام دى، أصبح جدى معمارياً مشهوراً وقام برحلات كثيرة إلى أوروبا وفى إحدى رحلاته لإيطاليا شاهد قصراً ضخماً فتن به وقرر أن يبنى لنفسه قصراً على طرازه ، فى هذه الفترة منح الخديوى جدى قطعة أرض على أطراف القاهرة فى الصحراء آنذاك فشرع جدى فى بناء القصر الذى كان يحلم به على طراز الروكوكو، وتم بناء القصر فى عامين على مساحة تبلغ حوالى 007 متر مربع.
عاش جدى لأبى فى هذا القصر هو وزوجته التى يقال إنها كانت من أجمل نساء عصرها وكانت من أصل فرنسى، كان جدى فيليب مولعاً بالفن والموسيقى يحب الحياة ويتمتع بكل ما فيها يقيم الحفلات الساهرة فى قصره ويستمع إلى أجمل الأصوات التى تأتى من أوروبا خصيصاً لتغنى فى القصر بالإضافة إلى أجمل الأصوات العربية.
كان ضيوفه من الأمراء والبشوات والأعيان وكانت هذه الحفلات يضرب بها المثل فى أناقتها ورقيها وبذخها. فجأة توقف عم عزيز ونظر لى قائلاً أنا تعبت بكرة نكمل.
فى اليوم التالى ذهبت لأسمع بقية القصة من عم عزيز.
قال عم عزيز رحل جدى وهو فى مثل عمرى كان فى السبعين ولم يكن له إلا ولد واحد أنجب هو الآخر طفلاً واحداً هو أنا، وكان أبى محامياً شهيراً يمتلك مكتباً كبيراً وكان معروفاً بنزاهته وتمكنه وقد سرت فى الطريق الذى سار فيه فعندما حصلت على شهادة البكالوريا أرسلنى أبى إلى باريس لأدرس القانون فى السربون وقد أنهيت دراستى بنجاح وعدت حزيناً لأنى لم أنجح فى إقناع زميلتى الفرنسية التى ارتبطت بها فى أن تعيش معى فى مصر.
كانت فتاة جميلة أحببتها وبادلتنى الحب وعرضت عليها الزواج وافقت بشرط أن نعيش معاً فى باريس، لتكون بجانب أمها المسنة، ورجعت إلى مصر لأرتمى على صدر أمى التى كانت تحتضر قال لى أبى أن أمى قاومت الموت حتى ترانى للمرة الأخيرة وبعد أيام رحلت، فقدتها بعد أن فقدت حبيبتى لم أستسلم للحزن وانهمكت فى العمل مع أبى فى مكتب المحاماة الذى يملكه كان المكتب يضم عشرات المحامين وأصبح لى إسم كمحام متمكن وفجأة رحل أبى بعد أن قررت الحكومة الاستيلاء على القصر بمقابل مادى تافه، وكانت الصدمة قاسية على أبى مات على أثرها.
بعد موت أبى وبعد أن استولت الحكومة على القصر استأجرت شقة فى الزمالك وعشت فيها وحيداً لأنى ظللت عازفاً عن الزواج حتى بلغت الخمسين ترهبت فى محراب العدالة كنت أجد متعة فى دفاعى عن المظلومين والفقراء وهكذا مرت السنين وأنا لا أفكر إلا فى عملى ولا أنتظر إلا مقابلاً واحداً هو الفرحة التى كانت ترتسم على وجوه الذين لجأوا إليّ وقمت بالدفاع عنهم وكسبت لهم قضاياهم.
لم يكن لى أصدقاء كثيرون، كنا ثلاثة نتقابل مرة فى الأسبوع فى منزل واحد منا نتبادل آخر الأخبار وندردش فى كل شيء كنت الوحيد الأعزب وكان السؤال الذى يلقيه عليّ أصدقائى إمتى حتتجوز؟ وكنت أهز رأسى وأقول لما الاقى بنت الحلال اللى توافق إنها تتجوزنى
-طيب يا عزيز وإذا وجدت لك بنت الحلال تقول إيه؟
أقول أهلاً وسهلاً. ورد صديقى لا بجد أنا أعرف بنت جميلة من عائلة طيبة وهى كمان قريبتى وهلل بقية الاصدقاء ولم تعد لى حجة والحقيقة أنى كنت قد سئمت الوحدة وحياة العزوبية وهكذا اتفقنا على القيام بزيارة للعروس وأسرتها وذهبنا فى الميعاد ورحبت بنا الأسرة وظهرت عروس المستقبل فتاة فى غاية الجمال هزنى جمالها وعدم تكلفها ياربى ما كل هذا الجمال! ونظر لى صديقى وغمز لى بعينه وكأنه يقول إيه رأيك ؟ لم أتكلم لم أقل شيئاً لكن إعجابى الشديد بالفتاة كان واضحاً تماماً، قال صديقى لوالد الفتاة مبروك رد والد العروس «مش ناخد رأيها؟ إيه رأيك؟» سكتت العروس والسكوت علامة الرضا كما يقولون، تزوجنا واستأجرنا شقة جديدة عشنا فيها أياماً وسنوات من الحب والوفاق والنجاح فى العمل لم نرزق بأطفال كانت زوجتى الحبيبة متألمة وحزينة لأننا لم نرزق بأطفال. وفجأة رحلت عنى وتركتنى وحيداً لا أطفال ولا أخوة ولا أقارب أعطيت المحاماة كل وقتى وحاولت أن أنسى فيها كل آلامى.
فى صباح يوم من الأيام جاء مكتبى رجل يطلب منى أن أتولى الدفاع عن ابنه المتهم فى قضية رشوة لفقت له وحكم عليه فيها بالسجن.
قلت للأب المسكين أنا سأقبل القضية وأدافع عن ابنك بشرط أن توافينى بالمعلومات والوثائق التى سأطلبها منك وبعد ثلاثة أيام عاد الرجل ومعه المعلومات والوثائق التى طلبتها والتى تؤكد أن القضية ملفقة. وقد قمت بكل ما أستطيع لأثبت براءة موكلى لكن للأسف الشديد خسرت القضية وحكم على الشاب بالسجن ونظرت إلى والده العجوز وزوجته الشابة وأبنائه والألم يعتصرهم فلم أتحمل هذا الذى حدث لقد فشلت فى الدفاع عن شاب هو بالفعل مظلوم وأصبت بإحباط شديد ووجدت نفسى أخلع ثوب المحاماة وأنزل إلى الشارع وأسير على غير هدى من شارع إلى آخر حتى دقت الساعة الثانية عشرة ونظرت حولى وجدت نفسى أمام قصر جدى واستعرضت حياتى الماضية فى هذا القصر وأنا طفل صغير وبجانبى أبى وساعتها اشتقت إلى حضن أمى الدافئ الحنون كنت أريد أن أبكى على صدرها بحرقة وأقول لها لماذا كل هذا الشر يا أمى.
وأمام قصر جدى تذكرت أننى عندما كنت صغيراً اكتشفت باباً يؤدى إلى غرفة صغيرة لا يعلم أحد عنها شيئا دخلتها ومن يومها وهى ملجأى الوحيد فى هذا العالم صومعتى أخلو لنفسى ليلاً فيها وفى الصباح أجلس على كرسى وأتأمل وجوه سكان الحى وأنا أعرفهم جميعاً مع أننى لا أتكلم معهم كثيراً
مدام سهير تحبى تشوفى القصر من الداخل قلت له طبعاً أحب جداً بس أنا خايفة من العفاريت اللى فى القصر وضحكت وضحك هو أيضاً لكن الوقت اتأخر يا عم عزيز ممكن أجيلك هنا بعد بكرة؟ رد عليّ قائلاً مافيش مشكلة إلى اللقاء بعد غد إن شاء الله.
وذهبت فى الميعاد المحدد وجدت الكرسى ولم أجد عم عزيز
سألت رجلاً من أهل الحى فين عم عزيز رد عليَ الرجل قائلاً تعيشى انتى لقد رحل عم عزيز عن دنيانا أمس وذهبنا كلنا نودعه مسلمين ومسيحيين حتى مثواه الأخير فى مقابر الروم الكاثوليك وانتابنى شعور عميق بالألم والحزن، لقد نشأت بينى وبين عم عزيز صداقة روحية لا أستطيع أن أصفها ونظرت للقصر أمامى وجدت صفحات من تاريخ مصر ووجدت أيضاً جزءاً من حاضر مصر الأحياء الشعبية الفقيرة وبيوتها المتهالكة وحياة سكانها الفقراء الطيبين الكرماء الذين رحبوا بعم عزيز وظلوا إلى جانبه حتى مثواه الأخير فى مدافن الروم الكاثوليك وقررت أن أذهب إلى هذه المدافن التى تقع على بعد عشرات الأمتار من دير مار جرجس بمصر القديمة.
وصلت إلى هناك وأنا أتصور أن هذه المدافن مثل غيرها من المدافن لكننى فوجئت من أول خطوة بأن المدافن متحف يضم قطعاً فنية نادرة وتماثيل من الرخام مجسدة لسيدات يبكين على قبور أزواجهن وتماثيل للسيد المسيح والسيدة مريم العذراء وحوائط ضخمة من الفسيفساء.
مقابر الروم الكاثوليك تضم العديد من الشوام المعروفين فى مصر سواء كانوا كتابا أو فنانين أو رجال أعمال ومن بينهم جد عم عزيز وفجأة وأنا أتجول فى هذا المتحف أقصد المدافن وجدت نفسى وجهاً لوجه أمام مدافن عائلة عم عزيز وجدت المقبرة التى دفن فيها منحوتاً عليها اسم جده ووالده وأمه واسم عم عزيز كنت أحمل معى باقة من الزهور، زهور البنفسج بالذات التى كان حولها ورد أبيض كنت متأثرة جداً وحزينة لفقدى إنسانا مثله، وفجأة سمعت صدى صوت يقول: بونجور مدام!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.