أسواق بني سويف تُمسك أنفاسها..أسعار الدواجن والبيض اليوم الثلاثاء 28-10-2025    القنوات الناقلة لمباراة النصر ضد الاتحاد في كأس خادم الحرمين الشريفين.. والموعد    جيش الاحتلال الإسرائيلى ينسف منازل فى المنطقة الشرقية بغزة    جاهزون.. متحدث مجلس الوزراء: أنهينا جميع الاستعدادت لافتتاح المتحف الكبير    بعد تسجيله أكبر قوة.. إعصار «ميليسا» يتحول إلى «كارثة محتملة» تهدد جامايكا (تفاصيل)    تحرك طارئ من وزير الشباب والرياضة بعد تصريحات حلمي طولان (تفاصيل)    ترامب يتوقع زيارة الصين العام المقبل ويرجح استقبال «شي» في أمريكا    مسلسل ورود وذنوب الحلقة 4.. موعد العرض والقنوات الناقلة وأبطال العمل    محمد رمضان يروج لأغنيته الجديدة ولا ليلة مع imanbek قبل طرحها الأربعاء    هزة في "أسطول الظل"، ثاني أكبر شركة للنفط الروسي تعلن بيع أصولها بعد العقوبات الأمريكية    جامعة المنيا تستعرض إنجازات تطوير الطاقة الفندقية لدعم السياحة وجذب الطلاب الوافدين    استقبال رسمي مهيب، لحظة وصول شيخ الأزهر إلى قصر الرئاسة الإيطالي في روما (فيديو)    بسبب تجاهل اسمه.. الملحن محمد يحيى ينتقد عمرو أديب بعد حلقة الحاجة نبيلة: أنا صاحب الفكرة    قرار مُهم بشأن المتهم بدهس طفل بسيارته على طريق مصر أسيوط الزراعي    موسكو تفند اتهام واشنطن لها بنيتها البدء بسباق تسلح نووي    أردوغان يدعو إلى "سلام عادل" لإنهاء الحرب في أوكرانيا    المتحف المصري الكبير يحصد 8 شهادات ISO دولية تأكيدًا لالتزامه بمعايير الجودة والاستدامة العالمية    «لاماسيا مغربية» تُبهر العالم.. وإشراقة تضيء إفريقيا والعرب    رئيس محكمة النقض يزور الأكاديمية الوطنية للتدريب    والد ضحايا جريمة الهرم يفجر مفاجأة: بنتي مازالت عذراء    زلزال بقوة 6.1 درجة يهز منطقة سندقلي في ولاية بالق أسير التركية    في طريقه إلى «الطب الشرعي».. وصول جثة أسير جديد ل إسرائيل (تفاصيل)    #عبدالله_محمد_مرسي يتفاعل بذكرى مولده .. وحسابات تستحضر غموض وفاته ..فتش عن السيسي    الزناتي يشارك في احتفالية اليوبيل الماسي للهيئة القبطية الإنجيلية    «زي النهارده».. وفاة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين 28 أكتوبر 1973    لتعزيز الانتماء.. وكيل نقابة المرشدين السياحيين يطالب الحكومة بزيادة إجازة احتفال المتحف الكبير ل 3 أيام    تصل إلى الحرائق.. 6 أخطاء شائعة في استخدام الميكرويف تؤدي إلى كوارث    دراسة| تأخير الساعة يرفع معدلات الاكتئاب بنسبة 11%    إصابة واحدة من كل خمس، دراسة تكشف علاقة التهاب المسالك البولية بنظافة المطبخ    عضو المجلس الأعلى للشباب والرياضة الفلسطيني يطمئن على الدباغ وكايد    «الداخلية» توضح حقيقة زعم أحد المرشحين بالأقصر تعنت مركز شرطة القرنة في الإفراج عن نجله    رياضة ½ الليل| الخطيب يعترف بالعجز.. موقف انسحاب الزمالك.. ثقة تخوف بيبو.. وصدمة قوية للملكي    الأرصاد تحذر من شبورة كثيفة وتقلبات مفاجئة.. تفاصيل طقس الثلاثاء 28 أكتوبر في جميع المحافظات    درس في المرونة وتقبل التغيرات.. حظ برج الدلو اليوم 28 أكتوبر    الداخلية تكشف حقيقة ادعاء محاولة اختطاف فتاة في أكتوبر    شبانة عن أزمة دونجا: كل يوم مشكلة جديدة في الكرة المصرية    مفاجأة.. الزمالك يفكر في إقالة فيريرا قبل السوبر وتعيين هذا المدرب    تأييد المشدد 7 سنوات لمتهم بتزوير عقد سيارة وبيعها    عودة الحركة المرورية على طريق بنها شبرا الحر بعد حادث التصادم    أمن القليوبية يكثف جهوده لضبط المتهم بسرقة مشغولات ذهبية من عيادة طبيب أسنان    «Gates»: انضمام «عز العرب» إلى عملائنا بمقر رئيسى في «Space Commercial Complex»    سعر الدولار الآن مقابل الجنيه والعملات الأخرى ببداية تعاملات الثلاثاء 28 أكتوبر 2025    محافظ قنا يشهد تخريج مدارس المزارعين الحقلية ضمن مشروع تحديث الري    وزير الاتصالات يختتم زيارته لفيتنام بلقاءات استراتيجية| تفاصيل    أبوريدة يحسم الملفات الحائرة بالجبلاية.. المفاضلة بين ميكالي وغريب لقيادة المنتخب الأولمبي    32.7 مليار جنيه إجمالى قيمة التداول بالبورصة خلال جلسة اليوم الإثنين    «العمل» تُحرر 338 محضرًا ضد منشآت لم تلتزم بتطبيق الحد الأدنى للأجور    زاهي حواس: كنت أقرب صديق ل عمر الشريف وأصيب بألزهايمر فى أخر أيامه ولم يعرفنى    ذاكرة الكتب| تدمير «إيلات».. يوم أغرق المصريون الكبرياء الإسرائيلى فى مياه بورسعيد    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025    من حقك تعرف.. ما هى إجراءات حصول المُطلقة على «نفقة أولادها»؟    بعد مأساة الطفل عمر.. كيف تكشف لدغة ذبابة الرمل السوداء التي تُخفي موتًا بطيئًا تحت الجلد؟    انتبه إذا أصبحت «عصبيًا» أو «هادئًا».. 10 أسئلة إذا أجبت عنها ستعرف احتمالية إصابتك ب الزهايمر    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 27-10-2025 في الشرقية    هل يضاعف حساب الذنوب حال ارتكاب معاصي بعد العمرة أو الحج؟.. فيديو    حكم طلاق المكره والسكران في الإسلام.. الشيخ خالد الجندي يحسم الجدل ويوضح رأي الفقهاء    اعرف وقت الأذان.. مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 27 أكتوبر 2025 فى المنيا    مفتي الجمهورية: الجماعات المتطرفة توظف العاطفة الدينية للشباب لأغراضها الخاصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى بيتنا .. مصطفى النحاس باشا!
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 01 - 2016

أيقظتني أمي من سابع نومة في الصباح الباكر وهي تزغدني في جنبي كعادتها وهي تقول لي: قوم يا فالح أصحي.. أنت موش فالح إلا في النوم!
قلت لها وأنا أقوم من رقدتي نصف قومة: هو فيه إيه يا نينة.. هو النهاردة العيد واللا مولد النبي واللا طلوع المحمل؟
علي فكرة.. لقد كنا ننادي أمهاتنا في هذا الزمان الجميل بهذا الاسم.. وأسألوا عمنا الممثل الكبير عماد حمدي في أفلامه الأبيض والأسود..
قالت: والنبي ما أنت فالح إلا في النوم.. والدنيا عندنا مقلوبة النهاردة.. وأبوك واخوك صلاح وبقيت العيلة السعدنية.. عمالين يعلقوا عناقيد الكهارب والأعلام في الشارع كله.. وحوالين البيت داير ما يدور!
قمت من سريري مفزوعا وقلت لها: هو فيه ايه.. صلاح اخويا حيتجوز واللا إيه.. يعني ماحدش قاللي!
قالت ضاحكة: أكثر وأكثر.. النهاردة حيزورنا الباشا الكبير!
قلت لها: مافيش في عيلتنا باشاوات!
قالت: الباشا مصطفي النحاس بجلالة قدره جاي يزورنا النهاردة.. قوم بقي خللي يومك يعدي!
انتفضت واقفا مثل عود القصب الممشوق وأنا أردد: ياه مصطفي النحاس باشا حتة واحدة!
قالت: أصل السكرتير بتاعه محمد كامل البنا كلم أبوك النهاردة الصبح بدري في تليفون البيت وارسل مندوبا من عنده كمان.. عشان يقولنا إنه جاي النهاردة الساعة واحدة الظهر.. قوم اتحرك البس لك حاجة عليها القيمة وأغسل وشك وسرح شعرك اللي عامل ذي فروة الخروف كدة!
أقاطعها: فروة خروف ايه.. دا أنا غاسله بالليل ومغرقه بصابون زيت الزيتون.. وأهو قدامك أهوه سايح ونايح!
لبست اللي علي الحبل كله وهو تعبير مصري قديم ربما من أيام أجدادنا الأولين العظام وانضممت لفريق الإعداد لاستقبال زعيم الأمة أيامها..
نسيت أن أقول أن هذا اليوم المشهود في تاريخ عائلة السعدني.. كما تقول نتيجة الحائط أمامي هو يوم 15 نوفمبر من عام 1951.. وكان عمري أيامها أربعة عشر عاما في ثانية ثانوي نظام القديم
بمجرد أن لمحني أبي الواقف في الشارع أمام دوار بيتنا الكبير في القناطر الخيرية.. قال لي: خد بالك بلاش لماضة.. لما الباشا يسألك علي حاجة ماتجاوبش انت بسؤال تاني زي عوايدك.. بطل لماضة وجاوب علي طول.. وماتخافش من طاقم السكرتارية اللي معاه.. واللا الحرس اللي وراه؟
..........
..........
أخي صلاح وهو في مدرسة أخري ملاصقة لمدرستي الأميرية في شبين الكوم اسمها مدرسة المساعي المشكورة وكان يسبقني بسنة واحدة في المراحل الدراسية سأل الوالد: هو ايه يابا اللي حصل؟
قال الأب وهو وفدي قديم: أصل أنا بعت تلغراف للباشا اهنيه بالوزارة الجديدة.. قام بعت لي أني اخد باللي من مرشح حزب الوفد في دائرة القناطر.. والمرشح اسمه دحروج.. والمنافس له اسمه عزوز وهو من حزب الأحرار الدستوريين!
أسأله: والباشا رد عليك؟
قال: أيوة بعت سكرتيره تلغراف شكر باسم مصطفي النحاس.. وكلمني في تليفون البيت 54 القناطر يرسل لي تشكرات الباشا!
أسأل الوالد: طيب وهو جاي بنفسه ليه النهاردة؟
قال: عشان يابني يسلم علينا ويطمئني علي مرشحه الوفدي في دائرة القناطر الخيرية..
يقطع حوارنا أصوات موتوسيكلات يقودها كونستبلات من بتوع زمان الذين يسبقون مواكب الكبار جدا
صاح أبي: الباشا وصل..
..........
..........
فجأة اخترقت الشارع سيارة باكار سوداء.. ترجل منها زعيم الأمة أيامها مصطفي النحاس باشا وهو يرتدي علي ما اذكر بدلة رمادية اللون وبكامل شياكته المعهودة.. الكرافات المنديل الأبيض في جيب الجاكت.. هو نفسه النحاس باشا الذي كنت أراه أيامها في الجريدة الناطقة في سينما نادية في شبين الكوم وسينما العلم في القناطر الخيرية.. وهو يفتتح المشروعات الكبري.. أو يلقي خطاب العرش أمام جلالة الملك فاروق الأول المعظم ملك مصر والسودان كما كان اسمه أيامها وكان يكرر في خطبه عبارة: ستعمل حكومتي أكثر من مرة.. فلم يكن التليفزيون قد ظهر بعد.. ولم نكن نشاهد الملوك والوزراء والكبراء .. وكل ما يجري في العالم من أحداث.. إلا في حاجة كده اسمها: الجريدة الناطقة.. ونحن جلوس في دار السينما قبل الفيلم العربي.. أو من الراديو أو من الصحف.. فلم يكن التليفزيون كان قد دخل بيوتنا.. ولا حتي النت الشبكة العنكبوتية التي لم تكن قد نزلت إلي بني الإنسان في كل بقاع الأرض.. موش زي الأيام دي كل شيء مكشوف وكل شيء معروف.. وربما قبل أن يحدث.. يا سبحان الله!
نسيت أن أقول أن أخبار مصر والدنيا كلها كنا نعرفها من الراديو الذي كان يأخد مكانه متربعا فوق رف عال في حجرة الجلوس.. وكانت تسمي عندنا في هذا الزمان.. «المندرة» أو «حجرة الضيوف» أو «حجرة المسافرين».. كما ظهرت في فيلم «في بيتنا راجل» للعزيز الغالي عمر الشريف «الجان بريميير» السينما المصرية.. ورشدي أباظة »الجراند بريميير« السينما المصرية..
وكان بيتنا لا يخلو من جرائد الأهرام والمصري التي كانت لسان حزب الوفد أيامها ورئيسا تحريرها: أحمد ومحمود أبوالفتح.. وكان أبي يشتري مجلة واحدة هي مجلة المصور ليقرأ مقالات فكري أباظة باشا!
أما أنا فقد كنت حريصا علي شراء مجلة «البلبل» وهي مجلة للصغار وفيها مغامرات ورسوم كاريكاتورية جميلة وكانت تباع بتعريفة.. يعني نصف قرش وكنت اراسلها وأكتب فيها أخبار المدرسة + طرائف قرأتها في مجلتي: الهلال والمختار الشهيرتين..
ولما أغلقت مجلة البلبل أبوابها لضيق ذات اليد عند أصحابها.. ظهرت مجلة أخري اسمها علي بابا التي أصبحت مراسلا لها أيامها في مدرسة القناطر الخيرية التي انتقلت إليها بعد ذلك.. وآسف للكلام الزيادة عن نفسي!
..........
ها هو زعيم الأمة أيامها مصطفي النحاس باشا أمامي بشحمه ولحمه وهيبته التي تسبق خطواته.. انحنيت أنا وأخي صلاح علي يديه نقبلهما اعتزازا وترحيبا غير مصدقين أعيننا.. بينما سحب الزعيم زعيم الأمة أيامها يديه من قبلاتنا.. ومد يده ليسلم علي أبي الذي احتضنه.. واجهش في البكاء.. وهو يردد: والله يا باشا أنا موش مصدق عيني.. معقولة فخامتك تيجي لحد عندي في بيتي هو أنا عملت إيه عشان أنول الشرف ده كله!
يرد الباشا وهو يسحب يديه إلي الوراء: لا أنا ماجتش كدة.. أنت يا عم إبراهيم في كل مرة ينتخبوني في مجلس النواب واللا أمسك الحكم تبعت علي طول برقية تهنئة.. وفي كل مرة ابقي فيها رئيس وزراء مصر.. برضه ماتنساش أبدا تهنيني ببرقية.. ده كثير يا عم إبراهيم.. بس محمد البنا سكرتيري الخاص .. قال لي أنك وفدي قديم.. أبا عن جد كمان.. كان لازم اجي بنفسي واشكرك وأشرب معاك فنجان قهوة في بيتك.. بس وموش عاوز لا هيصة ولازيطة يا عم إبراهيم ولا حد يعرف اني أنا هنا!
قال أبي بصوت مبحوح: دي البلد كلها دلوقتي عرفت أن زعيم الأمة شرف الدار
..........
..........
فجأة ودون سابق انذار قامت قيامة الشارع والمكان والحي كله.. انفجرت قنبلة الجماهير.. وتعالت هتافات تدعو للنحاس باشا بطول العمر ودوام العز وعالي المجد.. ليصدر أبي فرمانا بدخول الباشا بسرعة إلي بيتنا وهو دوار من أيام المماليك.. رحب واسع الشبه بنزل وكالة الغوري في قاهرة المعز.. وقد ورثه أبي عن جده علي السعدني الكبير الذي كان عمدة البلد عندما كان اسمها في هذا الزمان «فم البحر».. قبل أن يشيد باني نهضة مصر الأول محمد علي باشا القناطر الخيرية علي نيلها ليتحول اسمها من فم البحر إلي القناطر الخيرية الذي مازالت تحمله إلي الآن..
فجأة دوي جرس عربة الشرطة ماركة فورد بتاعة زمان.. والتي كانت أيامها لا يملك نفيرا ولا صوت عربات الإسعاف والحريق التي نعرفها الآن.. ونزل من العربة ضابط برتبة يوزباشي يعني نقيب الآن وضرب تعظيم سلام للباشا وقال له: معقولة سعادتك هنا واحنا ماعندناش خبر!
رد عليه النحاس باشا ضاحكا: ولا أنا حتي كان عندي خبر!
نزل الباشا مترجلا وخلفه سكرتيره الخاص الذي لا يفارق خطواته الاسكتانة يفسح له الطريق ليدخلان من باب دوار بيتنا الكبير في القناطر الخيرية.. بينما يسبق الجميع أخي صلاح.. أما أنا فقد امسك بيدي الباشا وهو يقول لي في عبارات ودودة: تعالي معايا.. أنا ليا كلام معاك.. عشان أنا أحب الشباب الصغير اللي زي البربنت اللي زيك!
...................
جاء أهل الدار للسلام والتحية وارتفعت الزغاريد.. كأننا في يوم عيد..
ووقف أخي الأكبر صلاح يقرأ قصيدة الترحيب بالضيف الكبير.. أذكر أن صلاح قال يوما:
الدنيا منورة بنورك..
والسعد عليك غالب..
ونورك غطي علي الكهارب..
يا وش سعد الأمة..
مافيش من بعدك غمة..
ولا يكثر عليك القول
يا خليفة سعد باشا زغلول
قام مصطفي النحاس باشا من مقعده واحتضن أخبي وقبله وقال له:
دا أنت شاعر وإحنا موش واخدين بالنا!
جاء بصينية الشربات.. ولكن الباشا رفض الشراب منها لعله يشكو من علة لم يفصح عنها.. الذي أفصح عنها سكرتيره الذي لا يفارقه..
قال لنا: شربات لا.. حلو لا.. بس كباية مية وفنجان قهوة.. وأنا حأعمله بإيدي..
الزغاريد مازالت تملأ سقف المكان وهيصة وزمبليطة في الشارع أمام دوارنا.. الكل يريد أن يشاهد مصطفي النحاس باشا رؤية العين المجردة..
أما ما جري في الداخل.. فتلك حكاية أخري
يا ليل الصبح متي غده؟
نتيجة الحائط المعلقة في حجرة الجلوس الرحبة الواسعة التي تشرح القلب في بيت العائلة في القناطر الخيرية في الزمن الجميل تقول لنا بالأرقام والحروف إن اليوم هو: الخامس عشر من نوفمبر من عام 1951.. وهو يوم الزيارة التاريخية التي لم تتكرر.. ولن تتكرر..
نحن مازلنا «مخضوضين».. غير مصدقين أعيننا.. وزعيم الأمة رقم اثنين بعد سعد زغلول باشا.. والذي اسمه مصطفي النحاس باشا في بيتنا.. دخل من الباب واستقر علي كنبة طرية بلون خضرة سغف النخيل.. وإلي جواره جلس والدي بعد إلحاح من الزعيم الكبير أيامها.. والدي الذي لم يتمالك نفسه بعد.. ولم يصدق من مصطفي النحاس بشحمه ولحمه جالس إلي جواره في داره في القناطر الخيرية يتجاذب معه أطراف الحديث أن ما يحدث حقيقة.. وليس حلما يداعب خيال النائم..
لم يكن جهاز التليفزيون قد ظهر في حياتنا بعد.. باق علي ظهوره عشر سنوات كاملة.. لكن علي الرف العالي في الصالون كان الراديو «بتاع زمان ذو القامة والهامة» يذيع علينا خبرا يقول: تحرك موكب زعيم الأمة مصطفي النحاس باشا في طريقه إلي محافظة القليوبية في جولة انتخابية علي دوائر الوفد..
طلب زعيم الأمة باشارة من يده أن نغلق هذا الجهاز المزعج الحشري علي حد تعبيره يومها.. ثم التفت إلي أبي ؟ وأنا واقف خلفهما لا أكاد أصدق ما يحدث أمام عيني وبين يدي كراسة انشاء أردت أن يقرأ الزعيم كلمات فيها كتبتها..
سعد زغلول مباشرة يرسل كلماته إلي أذن أبي في شبه همس حتي لا يسمع الحاضرون.. وهم أصبحوا الآن كُثّْرّ.. برفع الكاف وسكون الثاء وضم وتشديد الراء!
أنا يا عم ابراهيم وصلني تلغرافك وثناؤك علي ما أقوم به من أجل الأمة المصرية.. ولقد أيدتني في كل ما قلت وكل ما أعلنه علي الناس..
الوالد يتكلم: لقد أحسنت صنعا يا باشا عندما قلت في آخر احتفال للأمة بعد الجهاد: من أجل مصر وقعت معاهدة 1936.. ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها..
الحاضرون وهم نفر قليل يصفقون.. كما صفق الشعب كله الذي تجمع في مظاهرة حب كبري ومصطفي النحاس يخطب فيهم بالأمس فقط..
{{أقصد الأمس الذي هو 14 نوفمبر 1951 وهو يوم عيد الجهاد الوطني.. يعني بحساب الأيام والسنين.. منذ 64 عاما بالتمام والكمال.. يا خبر!
.............
لانني كنت من يومي «ولد لمض» بكسر اللام والميم وسكون الضاد فقد تجرأت كثيرا وهمست في أذن والدي قائلا: احنا بنعمل في الدولة مجلة اسمها أضواء القناطر الخيرية.. ياريت تستأذن الباشا عشان أعمل معاه حوار بمناسبة زيارته للقناطر وتشريفه لمنزلنا؟
انتبه الباشا للهمس وقال لأبي: الواد اللمض ده عاوز منك ايه يا عم إبراهيم؟
قال أبي: موش عارف أقولك ايه يا باشا.. هو عاوز يعمل مع سعادتك قال ايه.. حديث ينشره في مجلة المدرسة.. وأنا قلت له: موش وقته.. هو انت يعني محمود أبو الفتح بتاع جرنان المصري؟
لكن الباشا ابتسم وأمسك بيدي وأجلسني إلي جواره علي الكرسي الملاصق للكنبة العريضة.
وقال لي بود ومحبة: هات ما عندك يا فتي الفتيان تكلم وقل وأسأل ما عندك ولا تخف؟
وبدأت أول مقابلة صحفية لي في حياتي.. ومع من؟.. مع أكبر راس في البلد كلها أيامها..
وكان عمري وقتها لم يتجاوز بعد الرابعة عشر.
كنت مترددا في البداية لكن بشاشة وجه رئيس وزراء مصر وابتسامته وقتها وسماحته دفعت بدماء الحماسة إلي عروقي طاردة خفافيش الخوف من رأسي: ودفعتني إلي أن أسأله في البداية: دخلت مرة حجرة المدرسين في مدرستي فوجدتهم يتحدثون عن تفكير سعادتك يوما في الهرب إلي السودان.. عندما ترددت أنباء عن وصول الجنرال روميل إلي العلمين وقرب وصوله إلي الاسكندرية لغزو مصر.. ففكر الملك وأنت معه وكل وزرائك ورجالات مصر الكبار في الهرب وترك الجمل بما حمل؟
انتفض الباشا من مكانه واحمر وجهه وقال لي والغضب يلف كيانه كله: من أدخل في عقلك هذا الكلام الفارغ.. وهل يترك الربان السفينة وهي تغرق.. دعني أحكي لك ما حدث بالضبط:
لقد كانت تلك أخطر أزمة أواجهها منذ توليت مهمة الوزارة.. جاءني السفير البريطاني في مصر وقال إنه يريدني في أمر جد خطير.. جلست في حجرة مكتبي في مقر مجلس الوزراء.. وإذا به يعرض عليَّ الهرب من القاهرة بعد أن وصلت جيوش الألمان إلي مشارق الاسكندرية.. أنا ومعي أعضاء وزارتي كلهم وعائلتي أيضا..
وقال لي إنه قد قابل الملك فاروق واتفق معه علي أن يحزم هو وأسرته الملكية حقائبهم ويهربوا أيضا إلي السودان..
أسأله: وماذا قلت له دولتكم؟
قال: قلت له:كيف نترك الحكومة والبلاد وهي تحت رحمة الغزاة في أي وقت.. إن مهمة الحكومة في هذا الوقت العصيب.. أن تكون في وسط الجماهير في هذه المحنة الكبري. ونحاول أن نحميهم وندافع عنهم.. لا أن نتركهم تحت رحمة الغزاة.. ما يجري علي الشعب المصري يجري علينا يا سيدي!
قال السفير البريطاني: هل تريد أن تبقي في موقعك لتسلم مصر للغزاة الألمان.. تسليم مفتاح؟
أسأله أنا: وماذا قلت له يا فخامة الرئيس؟
قال: قلت له: ما يجري علي الناس يجري علينا.. وأنتم محتلون.. وإذا دخل الألمان مصر فهم محتلون مثلكم تماما! عاوزينا نسلم مصر للألمان تسليم مفتاح.. موش هيحصل!
يتدخل والدي في الحوار بقوله: لقد سمعت بأذني وشاهدت بعيني مظاهرات في القاهرة تنادي: إلي الأمام يا روميل!
دولة الباشا يرد: دول بس عشان يغيظوا ويكيدوا الأنجليز المحتلين!
=..............
يتدخل في الحوار أخي صلاح الذي كان يكتب كل كلمة في الحوار الساخن جدا في كراسة بالقلم الأبانوس بتاع زمان الذي كنا نملأه بالحبر في كل مرة بقوله: أنا ابن خالي كان طالب في كلية الحقوق جامعة القاهرة وكان ضمن من ماتوا في حادث كوبري عباس الشهير عندما أطلق البوليس النار علي مواكبهم وهي في طريقها إلي قصر عابدين.. فوق كوبري عباس.. ولحد النهاردة يا سعادة الباشا موش عارفين مين اللي كان السبب وراء هذه المأساة التي أدمت قلوب المصريين وأنا كتبت قصيدة عن هذه المأساة.. فقاطعه دولة رئيس الوزراء بقوله: والنبي يا عم صلاح موش ده اسمك برضه.. أنا حاقولك علي كل حاجة عن حادث كوبري عباس المشئوم ده!
جاءت فناجين القهوة التي أشرف علي إعدادها سكرتير الباشا النحاس..
ومع أول رشفة تكلم الباشا. قال: كان الجو السياسي في مصر مشحونا بالغيوم بعد أن أعلنت وزارة أحمد ماهر باشا دخول الحرب إلي جانب الحلفاء.. وهاجمت في خطاب شهير أحمد ماهر ووزارته بعنف لادخال مصر في حرب لا ناقة لها ولا بعير.. إلا من وعد زائف بالجلاء بعد كسب الحرب.. وبينما كنت ألقي خطابي في 24 فبراير عام 1945.. إذا بنبأ ينزل علينا كالصاعقة.. قالوا أن رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا اغتيل برصاصات مجنونة من مسدس محام اسمه محمود العيسوي.. وعندما سألوه: لماذا أطلقت الرصاص علي رئيس الوزراء؟
قال: لأنه أدخل مصر الحرب العالمية إلي جانب بريطانيا والحلفاء! وعارضت أنا والوفد ومصر كلها دخول مصر حربا لا ناقة لها فيها ولا جمل.. وانتهت الحرب وتوقفت صفارات الانذار في كل مصر وفي كل عواصم العالم في 9 يونيو من عام 1945.. وانتحر هتلر مع معشوقته ايفابراون!
وجاءت وزارة محمود فهمي النقراشي خلفا لحكومة أحمد ماهر.. واجتمع اتحاد الجامعات وطلابها في السادس من فبراير عام 1946 وقرروا عدم التفاوض مع الأنجليز إلا بعد الجلاء من البلاد.. وعلي الفور خرج الطلبة في مظاهرة عارمة قوامها أكثر من عشرة آلاف طالب يهتفون لا مفاوضات إلا بعد الجلاء..
وكانت تقصد قصر عابدين لتقدم إلي الملك فاروق الأول مطالبها التي تقول إنه لا مفاوضات إلا بعد الجلاء!
وعندما وصل المتظاهرون إلي كوبري عباس رأي المتظاهرون أن الحكومة تقف لهم بقوات بوليسية هائلة عند مدخل الكوبري.. ثم مع تدفق المتظاهرين.. صدرت الأوامر بفتح الكوبري وفوقه المتظاهرون.. فسقط المئات في النيل.. ومن لم يمت غرقا مات برصاص البوليس!
وكانت الحصيلة نحو 60 طالبا بين غريق وقتيل بالرصاص!
يسكت الباشا لحظات ودموع ساخنة تبلل خديه وهو يتذكر هذه الجريمة البشعة وقال: واضطر الملك إلي إقالة وزارة النقراشي وكلف إسماعيل صدقي باشا بتشكيل الوزارة الجديدة وهو الذي ألغي دستور الأمة وأخرج دستورا من عنده.. وعاشت البلاد في فوضي ما بعدها فوضي..
.............
..............
فتح عفريت صغير من عفاريت عائلة السعدني. وما أكثرهم أزرار الراديو بتاع زمان فإذا بصوت أسمهان ينساب كالنسيم العليل في أسماعنا وصدورنا بأغنية امتي هتعرف امتي.. ليلتقط أخي العفريت صلاح الخيط ويتجرأ ليسأل الباشا: احنا يا دولة الباشا حتي الآن لا نعرف من قتل المطربة أسمهان؟
قال مصطفي النحاس بهدوء يحسد عليه:
وجاي النهاردة يا عفريت العلبة انت تسألني من وراء مصرع أسمهان بعد عشر سنوات من مصرعها؟
قال أخي وهو يلملم حاله ويحاول أن يداري خجله: أنا آسف بس السؤال جه مع الأغنية يا دولة الباشا!
لم يجب دولة الباشا يومها علي سؤال أخي صلاح حول الغموض الذي لف مصرع أسمهان.. ولكن الذي أجاب هو محمد كامل البنا سكرتير النحاس لدولة الباشا في مذكراته التي أملاها عليه ونشرت في فبراير من عام 1995 يعني قبل 21 عاما بالتمام والكمال.. يقول النحاس باشا بقلم سكرتيره الخاص:
{{12 مارس 1941:
في الصيف الماضي ذكرت الصحف نبأ غرق المغنية المسماه أسمهان وقد أطنبت في وصف صوتها وفنها ولكنها لم تشر من بعيد أو من قريب إلي سبب غرقها وهي عائدة من رأس البر إذ انحرف السائق علي اليسار فغرقت السيارة في النيل قبيل بلدة كفر شكر (1) وأن السائق نجا والمغنية قضت نحبها غرقا، وكانت بعض الأوساط قد همست إذ ذاك بأن وراء غرقها سرا لم يعرف.
وفي هذه الأيام ترددت الأحاديث باستفاضة عن سبب غرقها وأنه كان من تدبير المخابرات البريطانية بالاشتراك مع البوليس السياسي المصري لأنهم ضبطوا في شقتها بعض وثائق تتعلق بالحرب وبعض أسرار وأجهزة كانت قد التقطت أحاديث وسجلت وقائع عندما كانت المغنية المذكورة متصلة بريتشي قائد القوات البريطانية وكانت تذهب للقائه كل ليلة في مقر قيادته بالعامرية عند مدخل الاسكندرية.
وتساءل المهتمون بهذه الأشياء ما الذي أثار ذكر هذا الحادث مرة أخري بعد أن مضي عليه نحو ثمانية أشهر تقريبا ولم أعر اهتماما لهذه الأشياء إلا من الناحية الحربية فقط.
جاءني من يخبرني بسقوط وخروج مرشح الوفد.. ونجاح غيره من مرشح الأحرار والدستوريين..
قلت في نفسي: معقول نقول للباشا إن مرشح الوفد سقط بعد ما دفع الثاني رشاوي انتخابية.. كانوا يقسمون الجنيه المصري أيام عزه ومجده نصفين.. نصف في الأول والنصف الثاني بعد نجاح المرشح!
.............
..............
قبل أن يمضي مصطفي النحاس باشا للدوران علي دوائر الوفد الانتخابية.. التفت إلي أبي وقال له: شكرا علي الضيافة السعدنية.. لكن خد بالك من العفريت الصغير اللي هو أنا سوف يصبح صحفيا خطيرا.. أما أخوه صلاح فهو ممثل من يومه.. وقد كان!{
لمزيد من مقالات عزت السعدنى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.