رسائل المخرج الراحل محمد خان لصديق طفولته مدير التصوير سعيد شيمي تحمل تراثاً ودروساً لا تخلو من الإنسانيات التي فقدنا كثيرا منها مع الزمن ، حينما تقرأها تستمتع ليس فقط بالصورة التي ترسمها دقة التفاصيل ، بل أيضاً الأجواء السينمائية التي شغفها خان وشيمي وشكلت وجدانهما ليكون نتاجها روائع السينما المصرية ، والحضور الطاغي لشخصية الفنان منذ بداية التكوين ، والحرص علي استمرار الصداقة مهما باعدت المسافات بينهما . هنا يكمن السر وراء قرار سعيد شيمي بنشرها وخروجها إلى النور من خلال سلسلة مكونة من ثلاثة أجزاء "خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي" وبدأها بالجزء الأول الذي يحمل عنوان "مشوار حياة" وأهداه إلى روح صديقه الراحل قائلا "سحبت روحي معك ..وحتى نلتقي مرة أخرى". الكتاب يبدأ بمقدمة للناقد محمود عبد الشكور الذي شهد بذور فكرة السلسلة حسبما كتب ، ويقدر قيمة إضاءة عالم خان السينمائي وتحديد التجارب الإنسانية والفنية التي أثرت في أفلامه ومشاركة شيمي في تحقيق أبرزها ، وأن البداية كانت على صفحة محمد خان على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ، حينما أعلن تفاصيل اكتشافه مع الصور أن سعيد لا زال يحتفظ برسائله القديمة التي أرسلها له من لندن وبيروت وهو ما دعى الكثيرين للمطالبة من خلال تعليقاتهم بضرورة نشرها . تطلب الأمر بحثاً وتنقيباً من الكاتب سعيد شيمي ليخرج هذا الكنز للنور والذي احتوى إلى جانب يومياته التي رواها لصديق عمره رؤية سينمائية ونقدية لكل ما شاهده من أفلام أوروبية وعالمية والحديث على لسان عبد الشكور الذي استكمل قائلا أن خان كان يراسله على بريده في تفاصيل أكثر عن هذا الاكتشاف وأبلغه بأنه اتفق مع سعيد على أن يتولى هو عمل كتاب عن هذه الرسائل بعد أن يفرزها ، لاستبعاد ما هو شخصي جدا ولا يخرج عن إطار حديث بين صديقين ، إلا أن إنشغالهما ثم رحيل خان المفاجئ جعل من الأصوب أن ينجز هذه المهمة صديق عمره تنفيذا لوصيته. كما كتب سعيد شيمي قبل نشر الرسائل أن سبتمبر 2015 شهد بداية أزمة خان الصحية وتحديدا أثناء حضورهما مهرجان الإسكندرية السينمائي ، حيث اضطر لمغادرة الاسكندرية لاستشارة طبيبه ولم يأخذ بنصيحته في حاجته للراحة ، ليكون يوم 27 يوليو 2016 موعداً للقاء ربه راضيا بما قدم ، وكان قد سأله في أحد لقاءاتهما الصباحية هل لا زال محتفظاً برسائله ، فما كان منه إلا البحث عنها وإنقاذ ما لم تفسده السنوات وظروف التخزين . وأشار شيمي إلى أن تلك الخطابات تعد التواصل المستمر بينهما متضمنة الأخبار والأحلام والانكسارات والحب ، والسينما تشغل الحيز الأكبر منها ، أما خطابات شيمي فيقول عنها "ضاعت مع أمتعة خان عندما شحنها لآخر مرة من لندن إلى القاهرة ، إلا أن خطاباته لي محفوظة فهي سجل فني للأفلام التي كان يشاهدها ويقيمها ويطلعني عليها أولا بأول ، ومنها لم يعرض في مصر كنت أعلم بها من خلاله ، تكونت لدي المعرفة بالعديد من الاتجاهات وكنت أنشر مقالاته في مصر حتى أصدر أول كتاب له باللغة الإنجليزية بعنوان "مدخل إلى السينما المصرية". تناول الكاتب بعدها نشأتهما وكيف كان التعارف من خلال عمل والديهما ، عيادة والد شيمي ومكتب والد خان الذي كان يستورد الشاي من الهند وسيلان ويقوم بتوزيعهما في مصر ، كما كان والده أيضا رئيسا للجالية الباكستانية ، وتوطدت العلاقة بين العائلتين لسنوات حتى قرر والده انتقال الأسرة إلى بريطانيا عام 1959 بعد أن عصفت الأيام بتجارته . أولى الرسائل كانت قبل السفر من القاهرة حينما تعطلت خدمة تليفون المنزل ، ليغادر بعدها بأيام عن طريق الباخرة من بورسعيد بعد أن تعددت الرسائل إلى حين وصوله لندن ، العديد من التفاصيل والأحداث والمعاني تضمنتها رسائل خان لصديقه ، لم تختفي منها روحه المرحة الساخرة ورؤيته النقدية لما يشاهد من الأفلام كأنه في سباق على العدد ، هدفه الذي وضعه أمامه وسعى لتنفيذه ، حماسته التي تعوض الفقد حتى أن قارئ تلك الرسائل بإمكانه اكتشاف ما قاله شيمي في خطاباته المفقودة. النشأة ساهمت في تحديد ميول اثنين من المبدعين كان لقاءهما وصداقتهما دافعا لكلاهما لتحقيق حلمهما المشترك وهو السينما فقدما أعمالا تعد من أهم إنتاجات السينما المصرية ، وبقيت الرسائل شاهدا على مراحل العمر ودافعا لكل عاشق للسينما لتحقيق أحلامه .