مصروفات المدارس الحكومية 2025– 2026.. التفاصيل الكاملة وقواعد الإعفاء والسداد لجميع المراحل التعليمية    تقرير حكومى: توقعات بنمو مبيعات الأدوية إلى 5.7 مليار دولار خلال 2025    آمال ماهر عن صوت مصر: «مش عايزة أكون رقم واحد.. واسمي أكبر من أي لقب» (فيديو)    المسلمون يصلون الفجر قبل وقته بساعة ونصف    مواجهات جديدة بين الشرطة ومتظاهرين أمام فندق يؤوي مهاجرين في لندن    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الاثنين 21 يوليو 2025    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: مشروع الهوية البصرية تعزيز للانتماء وتأصيل للقيم المصرية    «الرقابة النووية» تُنهي جولتها التوعوية من أسوان لتعزيز الوعي المجتمعي    إنفوجراف| حصيلة 650 يوما من الحرب الإسرائيلية في غزة.. «أرقام الشهداء والجرحى»    رئيس الأركان الإسرائيلي لجنوده: إنجازاتكم تسرع هزيمة حماس    جريمة داخل عش الزوجية.. حبس المتهمة بقتل زوجها بالقليوبية    اليوم| محاكمة المتهمين في قضية فض اعتصام رابعة    السجن المؤبد ل 5 أشخاص لإتهامهم بالإتجار فى المخدرات بالبحيرة    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 21 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    رئيس مجلس أمناء الجامعة الألمانية: هناك علماء مصريين متواجدين في كل دول العالم    مستشفى العامرية تنجح في إجراء جراحة دقيقة لطفل حديث الولادة يعاني من كيس سحائي    لاحتوائها على مواد سامة.. 3 منتجات يجب إزالتها من منزلك    وفاة امرأة تبلغ 82 عاما في إيطاليا نتيجة إصابتها بعدوى فيروس غرب النيل    "تموين الدقهلية" يحرر 196 مخالفة في 48 ساعة (صور)    بين الهلال وليفربول، الكشف عن مصير إيزاك    طريقة عمل الحجازية في خطوات بسيطة وأحلى من الجاهزة    بالأصفر الساطع وتحت شمس البحر المتوسط... ياسمين رحمي تخطف الأنظار بإطلالة صيفية تبهر متابعيها على إنستجرام    متحدث الوزراء: جاهزون لتعيين وزير بيئة جديد في التوقيت المناسب    ما أهمية عودة الحكومة السودانية إلى العاصمة من جديد؟    تقديم 40476 خدمة طبية وعلاجية بحملة "100 يوم صحة" في الإسماعيلية    أسامة عرابي: الطريقة التي تعامل بها وسام أبو علي مع الأهلي خارج نطاق الاحترافية    «عيب وانت بتعمل كدة لأغراض شخصية».. خالد الغندور يفاجئ أحمد شوبير برسائل نارية    نشرة منتصف الليل| خطوات حجز شقق الإسكان.. وخسائر قناة السويس خلال العامين الماضيين    رئيس "الحرية المصري": رجال الأمن خط الدفاع الأول في مواجهة التطرف والمخططات الإرهابية    برئاسة ماجي الحلواني.. "الوطنية للإعلام" تعلن تشكيل لجنة لرصد ومتابعة انتخابات الشيوخ    بعد مد فترة التقديم لاختبارات القدرات لطلاب الثانوية العامة.. «اَخر موعد للتقديم»    إصابة 3 سيدات من أسرة واحدة في انقلاب سيارة ملاكي أمام قرية سياحية بطريق العلمين    "شباب النواب" تثمن الضربات الاستباقية لوزارة الداخلية في دحر البؤر الإرهابية    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. سعر الذهب اليوم الإثنين 21 يوليو 2025 بالصاغة    التليجراف: وزير الدفاع البريطانى سيعلن حملة مدتها 50 يوما لتسليح أوكرانيا    يوسف معاطي: لست ضد الورش التي تكتب السيناريوهات ولكنها لا تنتج مبدع كبير    لا تأخذ كل شيء على محمل الجد.. حظ برج القوس اليوم 21 يوليو    نادية رشاد: أتمتع بحالة صحية جيدة.. وقلة أعمالي الفنية لضعف مضمونها    شقيقة أحمد حلمي عن منى زكي: "بسكوتة في طريقتها ورقيقة جدا"    واشنطن بوست: قراصنة يشنون هجوما عالميا على وكالات حكومية وجامعات أمريكية    دعاء في جوف الليل: اللهم أجرني برحمتك واجبر بلطفك كسر قلبي    فيديو- عالم بالأوقاف يوضح حكم إقامة الأفراح وهل تتعارض مع الشرع    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 21 يوليو 2025    اعتذار الهلال عن عدم المشاركة في السوبر السعودي.. والاتحاد يؤكد اتخاذ الإجراءات اللازمة    عبد الكريم مصطفى يشارك فى مران الإسماعيلى بعد التعافى من الإصابة    "يريد أكثر من مبابي".. سبب تعقد مفاوضات تجديد فينيسيوس وخطوة ريال مدريد القادمة    "تدخل الإدارة".. نجم الأهلي السابق يكشف مفاجأة بشأن غضب لاعبي الفريق    أنغام فؤاد ومنيب تتألق في صيف الأوبرا 2025 بحضور جماهيري كبير    السيطرة على حريق محدود بجوار مزلقان الرحمانية قبلي بنجع حمادي    باسل عادل: الوعي ليس حزبًا قائمًا على التنافس الانتخابي الضيق    Golden View Developments تطلق مشروع "TO-GTHER".. رؤية جديدة للاستثمار العقاري المدعوم بشراكات عالمية    مبعوث أمريكي: متفائلون بإمكانية التوصل إلى صفقة بين إسرائيل و"حماس"    آدم كايد: حققتُ حلمي بالانضمام إلى الزمالك    هل يستخدم نتنياهو حالته الصحية لشلّ المفاوضات وتجميد محاكمته؟ (تفاصيل)    غرق مركب في نهر النيل بالغربية.. إنقاذ 3 أشخاص واستمرار البحث عن مفقود    وزير الثقافة يفتتح الدورة ال18 من "المهرجان القومي للمسرح المصري" ويكرم رموز الفن المسرحي    أمين الفتوى: التقديم على شقق محدودي الدخل بغير وجه حق «حرام شرعاً»    دعاء الفجر | اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصيدة الروح


ديسمبر 1999
حملت الرياح الخبر من البرّ. لقد تغيَّر كل شيء هناك، هذا ما قيل. لم يعد سوهارتو رئيسا، لم يعد الجيش في السلطة، وأصبح الكل أحرارا في أن يفعلوا ما أرادوا.
هبَّت رياح البحر تضرب ظهري. بدا أنها تهمس لي: »ألا تفتقد البرّ؟ ألا تريد العودة إلي الديار؟ لستَ بحَّارا. البحارة الحقيقيون يخرجون إلي البحر ليبحثوا عن حريتهم. أنت خرجت للبحر لكي تختبئ، متقوقعا في مؤخرة المركب. البحَّار الحقيقي يري المحيط باعتباره حياته. وأنت تراه كانتظار للموت.»‬
كنت أريد العودة إلي الديار. لم يكن لديّ شيء أخشاه بعد الآن. إذا كان حتي سوهارتو وجيشه قد فقدوا سلطاتهم، فليس هناك شيء يمكن لكلاب حراسة المصنع أن تفعله معي. لقد كنت في البحر وقتا أطول من اللازم. صحيح: البحر لم يكن حياتي. كنت فقط أنتظر الوقت المناسب كي أستطيع العودة إلي الديار. وها قد حان.
كان قد أصبح لي الكثير من المعارف، بحَّارة علي سفن أخري، خلال الوقت الذي أمضيته في البحر. وكان لديّ اختياران: كان بإمكاني العودة إلي باتام، أو أن أركب سفينة متجهة إلي جاوة، إلي جاكرتا. ومن هناك كان يمكنني الذهاب إلي أي مكان. اخترت جاوة. لم يكن هناك من شيء أستطيع فعله في باتام غير العمل في مصنع. ولم أكن أريد أن أفعل هذا. ركبت سفينة شحن كبيرة متجهة إلي جاكرتا. توقفت في كل جزيرة علي طول مسارها، حتي رسونا أخيرا في ميناء سوندا كيلابا في جاكرتا.
جعلني الوجود في البحر لما يقرب من ثلاث سنوات قلقا من العيش علي البرّ من جديد، خاصة في مدينة مثل جاكرتا. لم أكن أخطط للبقاء هناك طويلا. كانت مجرد نقطة عبور في رحلتي إلي الديار في مالانج. لكني لم أكن أريد العودة إلي داري مفلسا. كنت سأعمل لفترة في جاكرتا، ما يكفي لأدخر بعض المال الذي يمكنني الرجوع به إلي مالانج. كنت أريد لو أمكن أن أقدم عروض الشارع من جديد، حتي لا يبدو العمل فعلا كعمل. لقد امتنعت عمَّا أحب لزمن أطول من اللازم. كانت أصابعي تأكلني وقلبي يوجعني.
مشيت في أنحاء المدينة. لم أكن أعرف أي شيء فيها غير ساسا. كان ساسا من جاكرتا، لكن بسببي كان قد قطع روابطه بهذه المدينة. هل هو في جاكرتا الآن؟ هل هو مازال حيا؟ إذا كنتُ مازلتُ حيا إلي هذا اليوم يا سا، فينبغي أن تكون أنت أيضا كذلك!
مشيت من الصباح إلي ما بعد الظهر، حتي وصلت إلي منطقة مزدحمة. علي لافتة ذات حروف كبيرة قرأت اسما كان مألوفا: تانَه أبانج. حتي في مناطق الأرياف في جاوة كان الناس يعرفون هذا المكان. اخترت أن أمكث هنا لفترة. قد يكون هناك الكثير مما يمكنني فعله هنا، بما في ذلك العثور علي طريقة كي أبدأ تقديم الموسيقي في الشارع من جديد.
توقفت عند كشك حراسة. كان بداخله ثلاثة رجال يدردشون. كانت جفوني ثقيلة ولم تستطع ساقاي أن تحملاني أبعد من هذا. دخلت ناطقا »‬لا مؤاخذة» بسرعة، ثم تمددت في ركن وسقطت في نوم عميق.
عندما استيقظت في الصباح التالي كان هناك سبعة أشخاص في الكشك، وفيهم الثلاثة الذين كانوا موجودين ظهيرة الأمس.
»‬إلي أين تقصد يا أخي؟» سألني أحدهم.
لم أعرف ماذا أقول. »‬أنا جئت للتوّ من باتام..» قلت أخيرا.
»‬آه، أنت من باتام؟» سأل واحد آخر.
هززت رأسي. »‬أنا من مالانج. لكني كنت أعمل بمصنع في باتام. لقد وصلت إلي جاكرتا للتوّ.»
»‬هل تبحث عن عمل هنا؟»
أومأت برأسي مرة أخري.
»‬أي نوع من العمل؟»
»‬أي شيء، طالما أنه ليس في مصنع. لقد اكتفيت من العمل في المصانع.»
سكتوا جميعا لفترة وهم يتفحصونني من أعلي إلي أسفل.
»‬ادعوه إلي الانضمام إلينا...» تمتم أحدهم للباقين. كان صوته عاليا بما يكفي كي أسمع جملته.
تفحصني أول من تحدث معي منهم بعينيه عن قرب. »‬ما دينك؟» سألني.
دين؟ لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل. في الحقيقة، كنت قد نسيت أن لديّ دينًا حتي. لكن لماذا كانوا يريدون أن يعرفوا؟ بالطبع لديّ دين. كل شخص يحصل علي دين عندما يولد، علي الأقل من أجل البطاقة الشخصية، صح؟ »‬الإسلام يا أخي..» قلت.
»‬هل تريد الانضمام إلينا؟»
»‬الانضمام إليكم في ماذا يا أخي؟» سألت.
»‬في حفظ السلام، من أجل الدين ومن أجل البلاد. نؤمّن الأمور للجميع..» قال بيقين.
لم أفهم الموضوع تماما. هل سمعت بطريقة خاطئة؟ هل هؤلاء الأشخاص سكاري أم يُعدُّون لي مقلبا؟
»‬نحن جادون..» تابع. »‬نحن في العادة ندعو الشباب للانضمام إلينا إذا أرادوا.»
تقلص ما فهمته أكثر وأكثر.
»‬فقط تعال معنا إلي مَقرِّنا. يمكنك الإقامة هناك لو أردت. سيكون أفضل من النوم في هذا الكشك هكذا.»
ذهبت معهم. سرنا مارين بسوق تانَه أبانج، ثم انعطفنا في سلسلة من الشوارع الأصغر. وصلنا إلي بيت كبير له فناء أمامي كبير. وبجوار البيت مباشرة قام مسجد. طُلب إليّ أن أدخل البيت. كان هناك الكثير من الرجال الآخرين بالداخل. كان البعض يتحدثون، والبعض ينامون، والبعض يشاهدون التليفزيون.
»‬هذا هو مَقرُّنا..» قال الرجل الذي قدَّم لي نفسه باسم (جالي). وقدَّمني إلي الآخرين.
»‬نحن هنا كإخوة. شغلنا هو عمل الخير. ونصيبنا يأتي دون أن نبحث عنه. في الحقيقة النصيب هو الذي يبحث عنا..» قال جالي وضحك الآخرون.
»‬نحن من كافة الأنحاء، رغم أن معظمنا من شعب بتاوي. لكن لدينا سونديون وجاويون... نحن نقبل الناس من كل مكان، طالما هم يشاركوننا نفس المقاصد والأهداف. إذن ماذا سيكون؟ هل تريد الانضمام إلينا؟» سأل جالي.
لم أعرف كيف أرد. بدا كل ما قاله جالي مغريا. لكني كنت مازلت لا أفهم ما هي الوظيفة، ماذا ستكون واجباتي، أو كم سيدفعون لي.
»‬خذه كي يري (الحبيب)(1) أوَّلاً يا جال!» قال واحد من الباقين، الذي تم تقديمه لي من قبل باسم (رويس).
كان الحبيب سيصل بعد صلاة الظهر، كما قيل لي. وبينما كنا ننتظر، أحضر لي جالي شيئا من الطعام والشراب.
مثلما هو متوقع، وليس بعد صلاة الظهر بكثير، دخلت ثلاث سيارات إلي الفناء الأمامي للبيت. كانت الأولي سيارة (سيدان) فارهة والاثنتان الأخريان سيارتين نصف نقل تحملان علي ظهريهما رجالا واقفين. أسرع جالي والآخرون إلي تحيتهم.
»‬هناك شخص بالداخل يريد الانضمام يا (بيب)..» قال جالي عندما دخل الرجل الذي يسمونه (الحبيب) البيت. كان يرتدي قفطانا أبيض وله لحية كثة. سلمت عليه.
ابتسم (الحبيب)، ثم قال: »‬نحن هنا نحارب من أجل الخير، من أجل ديننا ومن أجل الله. لا بد أن تكون هذه هي قضيتك إذا كنت تريد الانضمام إلينا.»
كان يتكلم بطريقة وقورة تبعث القشعريرة فيمن يسمعها. ما نوع العمل الذي سيتوجب عليّ القيام به؟ لقد جعل الأمر يبدو كواجب نبيل وهام. إذا كان هذا بالفعل من أجل غرض طيب، وسيضمن لي ألا أجوع، إذن لِمَ لا أجربه؟
في الجزء الخلفي من البيت كان هناك صف من ست حجرات، أشبه ما تكون بسكن. خُصصت لي واحدة منها، كنت سأشارك ثلاثة آخرين فيها، أحدهم كان جالي. سمعت آذان المغرب من المسجد المجاور. قال جالي أنه ينبغي أن نذهب لصلاة الجماعة. في الحقيقة كنت أريد أن أعتذر رافضا. فأنا لم أصلِ منذ سنوات. في الحقيقة، منذ كنت صغيرا كانت المرات الوحيدة التي صلَّيت فيها هي أثناء صلاة عيد الفطر وعندما كانت تقام صلاة الجماعة في المدرسة. لم أكن أستطيع أن أُصلِّي. فأنا لم أحفظ أبدا الآيات الواجب تلاوتها أثناء الصلاة. لم أكن حتي أعرف لِمَ يجب عليّ أن أُصلّي. فقط لم أكن أريد أن أُصلّي. لكني أبقيت فمي مغلقا. لم تكن لديّ الشجاعة كي أقول لا لجالي. هكذا صلَّيت ذلك المساء، مُقلدا كل ما كان يفعله الشخص الواقف أمامي في الصف، بينما كان عقلي سارحا في أمور أخري. بعد الصلاة، وقف (الحبيب) في المقدمة وألقي خطبة. كانت مماثلة إلي حد كبير للرسالة التي أعطانيها قبل قليل: إننا يجب أن نحمي الدين ونحفظ الله، ونفعل كل ما يمكننا من أجل الحق، وندمر كل ما هو آثم ومخالف للشريعة. »‬يجب أن نكون ثابتين، يجب أن نكون شجعانا. قفوا في وجه كل من يخالف شرع الله..» قالها مرة بعد مرة.
وهكذا امتلأت أيامي. كنت آكل ثلاث وجبات يوميا. وعندما لم نكن نُصلي أو نسمع خطبة، كنا نتمشي إلي تانَه أبانج ونجلس بتكاسل في كشك الحراسة الذي قابلتهم فيه لأول مرة. ماذا كان يُفترض بنا أن نفعل؟ عندما كنت أسأل جالي، كان دائما يرد بلا مبالاة »‬استرح فقط. ستعرف قريبا جدا. فقط انتظر قليلا.»
توقفت عن السؤال. لم يكن هناك شيء يمكنني فعله علي أي حال. كل ما كان يهمني هو أنه لديّ ما يكفي من طعام ومكان أقيم فيه. كنت فقط أقضي وقتي حتي أتمكن من الحصول علي جيتار والعودة إلي كوني فنانا.
أخيرا شقت موجة الخطب اليومية طريقها إلي داخلي. كنت أشعر بنار تشتعل في صدري كل مرة يحثنا فيها (الحبيب) ببلاغته النارية علي »‬القتال»، و»‬أن نكون شجعانا»، و»‬نمحو» و»‬ندمر». وكانت ألسنة اللهب تستعر عندما يقول أن نفعل ذلك »‬من أجل ديننا» و»‬من أجل الله». بدأت أفكر بعمق في نفسي.
هل حان وقتي كي أعثر علي الطريق الصحيح بعد حياة مليئة بالخطيئة؟ ربما كان هذا بالفعل هو الطريق الذي يمكنني عبره فعل بعض الخير. في النهاية، كان طريقي قد صار أيسر بمجرد انخراطي في هذه القضية. لم أعد بحاجة إلي الطعام أو إلي مكان يؤويني. وكان الوضع هو نفسه بالنسبة لجالي والآخرين. كانوا كلهم عاطلين فيما سبق، في حالة من البؤس المدقع حتي أنهم كانوا بالكاد يستطيعون الحصول علي ما يكفي لطعامهم. بانضمامهم إلي الحبيب، أجيبت كل احتياجاتهم وكسبوا ما يكفي من المال ليرسلوه إلي عائلاتهم كل شهر. ماذا كانوا يحتاجونه أكثر من ذلك؟ كانوا يأخذون أجرا، وفوق ذلك كانوا يأخذون ثوابا كبيرا!
كانت مجموعات من رجال الشرطة أو الجنود يأتون كثيرا إلي البيت. أول مرة رأيتهم فيها أُصبت بالرعب. من قال إن الجنود لم تعد لديهم أي سلطة؟ فقط انظر إليهم، وهم يدخلون إلي هنا كما شاءوا. ماذا إذا اكتشفوا أني تورطت ذات مرة في محاولة إثارة اضطراب في باتام؟ كل مرة كان يجيء فيها شخص بزيّ رسمي، كنت أتسلل مبتعدا لأختبئ في حجرتي في الجزء الخلفي. لكن ماذا لو ظلوا يجيئون؟ لا يمكنني البقاء في لعبة القط والفأر. سألت جالي ماذا كان يريد البوليس والجنود، فضحك. »‬آسف، نسيت أن أخبرك. هم في الحقيقة يحموننا. ونحن نساعدهم في أداء عملهم. إنهم من يبقوننا شبعانين يا جيك!».
»‬ستكون هناك عملية الليلة. هم من أمروا بها..» تابع جالي. »‬ستكون هذه هي مرَّتك الأولي يا جيك، لذا كن حذرا. اتبع الأوامر.» وأعطاني قفطانا أبيض وعمامة بنقوش مربعة. كان لا بد أن أرتدي هذه الملابس من أجل العملية.
بعد صلاة المغرب، ألقي (الحبيب) خطبة أخري من خطبه. لكن تلك الخطبة كانت مختلفة عن السابقات. فقد كانت من أولها إلي آخرها عن الكافيهات التي تقدم البيرة. وحدد أسماء بعض الأماكن والشوارع التي كانت فيها. لكن بالنسبة لقروي ساذج مثلي لم تلتصق الأسماء في ذهني. نسيتها. أو علي نحو أكثر دقة لم أستطع فهم الأسماء التي قالها (الحبيب). كل ما فهمته من خطبته أن هذه الكافيهات كانت منابع للخطيئة ويجب أن تُمحي. كانت تلك مهمتنا. كان لا بد أن نكون المدافعين عن شريعة الله. كان لا بد أن نكون قادرين علي محاربة أي شيء لا يسير علي نهج هذه الشريعة. كانت صيحات »‬الله أكبر» أشبه بوقود مسكوب علي اللهب المتأجج بداخلي. كان لديّ منذ البداية شكوك حول ما يُفترض بي أن أفعله، لكن الآن تملكتني فجأة جرأة وقوة حديثتا الاكتشاف. زاد هياج كل من حولي، وقد بدوا مستعدين لمهاجمة أي شخص يقف أمامهم. ناولني أحدهم سنجة. كنا جميعا مسلحين. تكومنا في مؤخرة سيارة نصف نقل ونحن مازلنا نصيح »‬الله أكبر». وطوال الرحلة ظللنا نلوّح بأسلحتنا ونحن نذكر الله. شعرت برفيف من الزهو في قلبي. كنت الآن بطلا، محاربا شجاعا يذهب إلي الحرب للدفاع عن الله.
توقفت السيارة خارج صف من الكافيهات كان بمقدورنا سماع صوت موسيقي عالية تُعزَف فيها. نزلنا جميعا. ثم أطلق قائد عملية الليلة صيحة: »‬هجوم!» فانطلق الرجال من حولي في لمحة خاطفة. تدافعوا داخلين أول كافيه، طائحين بالسنج في الزجاجات والأكواب وصارخين في الزبائن كي يخرجوا من ذلك المكان اللعين. تعلمت بسرعة. قلدت ما كان يفعله الآخرون. حطمت زجاجات البيرة التي لم تكن قد كُسرت بعد، وطحت في المصابيح الوامضة التي كانت تزين المكان وفي أجهزة الصوت التي كانت مازالت تصدح بالموسيقي العالية. ظللت أصيح »‬الله أكبر»، تلك الصيحة الجامعة التي كانت تُغذّي غضبتنا. انتقلنا من كافيه إلي آخر. تلك الليلة لقنَّا درسا لخمسة أوكار للإثم. طوال الطريق إلي البيت كنا نصيح ونحتفل بنصرنا. رددنا الله أكبر ونحن نلعب بأسلحتنا المرفوعة بأيادينا اليمني. وفي أيادينا اليسري كنا نمسك زجاجات الصودا التي أخذناها من الكافيهات التي دمرناها. لم يكن بها كحول، لذلك كان بمقدورنا شربها. أخذنا أيضا كل أنواع الطعام، غنيمة كذلك من الكافيهات الخمسة.
عندما وصلنا إلي المقر كنا مازلنا نتحدث عن نصرنا. وضحكنا عاليا ونحن نحكي من جديد كيف رأينا الزبائن والعاملين بالكافيهات يتفرقون في ذعر. ضحكنا حتي بشكل أكثر هيستيرية عندما حكي لنا رويس كيف أن إحدي النساء كانت تبكي وتمسك بذراعه. »‬كانت جميلة، ولها جسد مثير. كانت تقبض علي ذراعي وتتوسل لي ألا أفعل أي شيء..» قال رويس وهو ينفث دخان سيجارة.
وبينما كان الضحك يُدوّي في أرجاء البيت، فتح جالي حقيبة ظهره وأخرج العديد من زجاجات البيرة. ذُهلت، لكن الآخرين هللوا عندما رأوا الزجاجات. »‬يمكننا الحصول علي بعض المتعة مرَّة كل فترة..» قال جالي. تسابق الكل للحاق بزجاجة. ترددت. رفع جالي واحدة لي. »‬خذها يا جيك، نحن نحتفل بنصرنا الليلة.»
أخذت الزجاجة. نظرت إلي الرجال من حولي. كانوا يشربون من زجاجاتهم. فعلت مثلهم. لم أكن قد شربت بيرة منذ زمن طويل – ليس لأني لا أستمتع بها، لكن لأني لم أكن قادرا علي ثمن واحدة. لو كانت تُوزَّع مجانا هكذا، فيمكنك المراهنة علي أن جاكا يرغب في أن يكون موجودا!
لم يعد أحد إلي غرفته لينام تلك الليلة. سهرنا نشرب حتي تساقطنا سكاري واحدا بعد واحد. في الصباح، أيقظنا جالي جميعا. ووزع علينا المال: خمسون ألفا لكل واحد.
»‬هيا، اذهبوا إلي حجراتكم الآن. لا نريد أن يراكم أي شخص في هذه الحالة..» قال.
-------------------------
(1) لقب يطلق علي رجل دين إسلامي ومعلم عالي المكانة (من الأسياد، أو من نسل النبي محمد) في إندونيسيا.
-------------------------
فصل من رواية للكاتبة بعنوان (المُقيَّدون) تصدر قريبا عن دار صفصافة بالقاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.