كنت أنظر إلي الشاعر، الذي علمه ابنه كيف يجدد هواء البيت، ويعيد النظر في صورته المرسومة فوق الماء، كيف يضع الحروف إلي جانب الحروف، وينطق الكلمات بطريقة أخري مغايرة، كيف يُخرِج من عتمة الغرف المغلقة ستين عاماً، يفتح نوافذها، ويخرج ربما للمرة الأولي إلي الميدان، حيث الهواء أنقي، وحيث الساحة أكثر رحابة.. الأبناء يعلموننا أيضاً، الأبناء يعلموننا دائماً، يضيفون أعماراً إلي أعمارنا، يملأون شرايننا أحلاماً وأمالاً وعافية، فنستعيد الطاقة والحيوية التي أنهكتها السنوات والخيبات والهزائم المتواصلة.. لم تلهم الثورة المصرية العالم وحده، ألهمتنا نحن أولاً، علمتنا قبل الآخرين، أعادت صياغة أفكارنا، وأرواحنا أيضاً.. عشرة أشهر منذ قيامها الأول، ثم قيامها الثاني، والثالث، والرابع، موجات من الاعتصامات والغضب، موجة وراء أخري، ما تكاد أن تهدأ، حتي تشتعل من جديد، بنفس القوة والحسم.. البعض يفزعه الغضب، والتأرجح والتباين المذهل، البعض يخيفه التقليب المستمر، التفكيك المتواصل، الاقتلاع أحياناً، والحركة العاصفة..الثورة مستمرة، استئناف متواصل، هذا فعلها الإبداعي، وخصوصيتها، وهو أيضا درسها الأول.. قبل يومين، وجّه بعض الكتاب والمبدعين (صلاح عيسي، يوسف القعيد، محمد سلماوي، سعيد الكفراوي) نصيحتهم إلي الشباب المعتصمين في ميدان التحرير، بوقف الاحتجاجات بعض الوقت، ما يشبه الهدنة لالتقاط الأنفاس.. الشباب لم تعجبهم النصيحة، لم يستمعوا إليها، بعضهم ضحك، فليس بإمكان أحد وقف الريح.. من حق المتعب أن يتوقف حين لا يقوي علي الاستمرار، لكن ليس بإمكانه إيقاف طاقة الآخرين علي الحركة والإبداع.. (الممكن) و(المحتمل) هما سعي المتعبين وكبار السن، الثورة لا تقبل الحلول الوسط، ولا الإجابات المحتملة، للثورة حلولها الجذرية، لا سقف لحركتها، ولا سقف لطموحها، حركتها في أفق مفتوح، في فضاء أكثر حرية.. نصيحة الكتاب والمبدعين الكبار بالتوقف قليلاً، تدفعنا للسؤال: هل هناك سقف للثورة؟ هل تحقيق هدف أو هدفين يعني عودة الثوار إلي بيوتهم؟ هل تحديد بعض المطالب وتحقيقها يعني انتهاء الثورة؟ أم يعني تجديد مطالب أخري، واستمرار الفعل الثوري؟ الشباب يمنحون المعاني قوة أكبر من مساحتها، حسم وإصرار وطاقة لا تكل، ودرس في صياغة المسار. قال السائق: إقبال الناس علي الانتخابات، رد علي اعتصامات التحرير!! أدهشني رأيه فهو بالتأكيد لا يعرف (غودوين)، ولا عبارته الشهيرة (إن صندوق الأقتراع هو كفن الثوريين).. لكن ثوار التحرير أيضاً خالفوا غودوين، وذهبوا إلي صناديق الاقتراع، ربما ذهبوا متضررين، أو مستائين باعتبار أن الانتخابات في وضعها الحالي تنطوي علي الممكن، بما يناقض طموحهم الجذري، لكن أيضا (مدنية الدولة) مطلب أول والثورة مستمرة.. الكتاب والمبدعون والبسطاء والأغلبية الصامتة ربما أصابها الملل، أو أصابها التململ، وانقطاع الأنفاس، غير قادرة علي ملاحقة الحلم .. هل تتوقف الثورة، بحثاً عن (الممكن) أم أن الثورة مستمرة؟