خافتْ حواء أن يفيض بحرها الداخلي. فمع مرور الوقت، كانت كائناته المضطربة توجه ضرباتها صوب جدران بطنها أو تموج تحت ضلوعها. وكان قمرها المستدير بداخلها لا يتوقف عن النمو. حركتها بالثقل الذي تحمله كان يزيدها تعباً. كانت تتساءل إن كانت ستأتي لحظة تصير فيها عاجزة عن الحركة، محكوماً عليها بالحياة كنبات مضحك يتذكر أنه كان امرأة. لم تكن تعرف ما هذا الذي يختلج بداخلها، ولا إن كانت هذه حالة عابرة أم نهائية. أما خوفها الأكبر فكمن في أن تتقيأ ذات يوم من أيام تقيؤاتها الكثيرة حيواناً بحرياً، نوعاً جديداً يلتهمها هي وآدم ليسكن بمفرده في تلك الأرض التي قد يتطلب البقاء فيها وحشية أشد من التي كانا قادرين عليها. - لقد شاهدتُ حيوانات أخري منتفخةً مثلك يا حواء. لستِ الوحيدة. النعاج كذلك. ورأيت ذئبة أيضاً. شيء ما سيخرج من داخلك. -أرانب- ضحكت حواء- فالأرانب وحدها تصنع أرانب أخري. هل سنتكاثر يا آدم؟ أتكون صورتنا هي ما ينسج بداخلي؟ أفكّر أحياناً أنني ممتلئة بالماء وأن كل السمكات التي أكلتها ستخرج وتلتهمنا. - لم أكن أبداً صغيراً، ولا أنتِ كذلك. هكذا لن يتسع داخلك لصورتنا. -هناك أرانب صغيرة. تنمو بعد ذلك. ما يسكن بداخلي يتحرك. -قد تكون بتلات بيضاء أو سمكات ليأكلها من يظهر عندما ننام. -وأنت يا آدم، ألا تشعر بشيء؟ -أشعر بضيق يا حواء. أتساءل إن كنا ذات يوم سنفعل شيئاً آخر غير التفكير في تجنب الجوع والموت من البرد. ليس بوسعي ان أفكر في شيء آخر. في عالم الشتاء المثلّج، رأي آدم نفسه مضطراً للتجول بين الغنائم التي تركتها حيوانات أخري، منافساً النسور علي بقايا الجيف. كان يدهشه أحياناً العثور علي قطع لحم كاملة بين العظام. وكان يتخيل أن الضواري الكبيرة، النمور والدببة والأسود، لا زالت تحتفظ في صمت ذاكرتها بالرباط الذي ربطه بها في الجنة وأن تلك هي طريقتها في أن تظهر له أن كل شيء لم يُنس. كان يسعد بهذه الاكتشافات، لكنه كان يبكي أيضاً. وفي الوقت الذي يسيل لعابه وهو يفكر في الأكل، كان يشعر بالحسرة. يتذكّر زمناً كان فيه مستحيلاً تخيُّل عالم تسكنه مخلوقات تهدد بعضها بعضاً وتجبرها الحاجة إلي البقاء علي تبادل الشك. كان يبكي بينما يأكل بلا حياء، منتزعاً اللحم، مرتجفاً من جوع الأيام، مكلوماً، مذلولاً وفي نفس الوقت سعيداً لعودته إلي المغارة وإطعام حواء، والقط والكلب. كان يهتز قلبها عند رؤيته عائداً. والجوع في النهاية كان يدفعها لتتذوق أي شيء يعثر عليه. لم تكن تسأل. تضع قطع اللحم علي النار وتأكل دون ان تتنفس تقريباً. وكم لعنتْ إلوكيم في مرات ليست قليلة بينما كانت تمضغ. جسدها الثقيل كان يعوقها عن مصاحبة آدم واضطرت علي تكييف نفسها علي الخروج في الصباحات لجمع الأغصان المتساقطة لتغذي النار، وخلال النهار كانت تخيط الجلود التي يرتديانها. مع ذلك كانت العزلة تسعدها. لم يهمها بقاؤها وحيدة مادامت تثق أنه سيعود وكانت تفضل عدم الشك في ذلك. ورغم الضباع، كان آدم آمناً. لا تخف، قالت له، لقد رحلتْ الضباع. أنا لا أخاف، يرد عليها. أنتِ من لم يسترد نفسه من الخوف بعد. فاعترفتْ حواء أنه خوفها الخاص ما يتكلم. فقد كان اللقاء مع الضباع يحفر في ذكرياتها رعب التحقق من مشاركة الحيوانات، والحاجة لمعرفة ما يعتقدان أنهما قد تعرفا عليه من قبل. وحيدةً في المغارة، كان الحزن يخنقها أحياناً. عادتْ لتتذكر مرة وراء أخري التجارب التي عاشتها والأسباب التي دفعتها لأكل ثمرة التين. الرؤي، واليقينيات التي آمنتْ معها بالتاريخ الذي يُفترض أنها قد تفتتحه، كانت تملؤها بالضيق والغضب تجاه نفسها. وكان المنظر الطبيعي يذكّرها أحياناً بجمال الجنة، لكنه لم يعوّض ألم الجلد المجروح عندما تنزف؛ لم يكن الجمال جمالاً مع الجوع والعطش والبرد. كانت الحاجة إلي إخراج نفسها من الضيق ما حثها ذات يوم علي اختراع طريقة تستطيع من خلالها أن تنظر إليه وتضعه خارجها. ومنذ ذلك الحين، بدا لها أنه حتي الحزن له مسوغ لوجوده. انتبهتْ أن بإمكانها رسم خطوط سوداء فوق جدران المغارة باستخدام قطع حطب شجرة التين السوداء والمحروقة. شرعتْ في تلمُّس تأثير ذلك علي أحد الجدران الملساء. صارتْ الخطوط الحمقاء في البداية أكثر انسيابية مع مرور الأيام. وبينما كانت ترسم علي الجدران صوراً من ذاكرتها، كانت ذراعها تمتليء بسائل دافيء فتتحمّس. فقدتْ يدها الخجلَ وطارتْ وهي ترسم صوراً بالكربون. عرفتْ حينئذ سعادةً مختلفة وغامضة جعلتها تشعر أنها أقل عزلة. كل ما كان مختبئاً بداخلها خرج واصطحبها. بعدها رسمتْ صوراً أخري. هكذا ظهر مطرقاً الغزالُ المترصد بين الأشجار وثورُ البيسون العظيم. ورسمتْ الشمس بفتات الصخور الحمراء. كما رسمتْ محيط ضفاف النهر وأحجار حوافها، وبدا كأن خرير الماء يرن في أذنيها. تخيلتْ كذلك آدم في جولاته. رسمته طويلاً وضخماً، أكبر وأقوي من أي حيوان من الممكن أن يصطدم به. رسمته يعبر المناظر الطبيعية اللطيفة، ينام تحت حماية الصخور، دون أن يهدده شيء، وكانت علي يقين أن الواقع سيجد الطريقة التي بها يتشابه مع رسوماتها. وأنا من قضيتُ الليالي خائفاً من أن تلتهمني الضباع أو الذئاب- قال لها ساخراً ليداري الدهشة التي انتابته من رؤية صور الواقع فوق الجدران. لم يتأخر آدم، مع ذلك، في ملاحظة سلطة الصور. أسعده تخيُّل الرسومات ومعرفة أن حواء قد ترسم رجوعه. ومع كل عودة، كان يروي لها تفاصيل غاراته حتي تعيشها أيضاً وهي ترسمها. كان يُفتَن عند رؤية يدها تتحرّك، وأن تُخرج من بين أصابعها رسماً، رغم أنه ليس غزالاً ولا نمراً، إلا أنه يبدو جوهر الغزال والنمر. وتحت ضوء الموقد، وجد آدم متعة حكي جولاته لها. وعادةً ما كان يستسلم لغواية إضافة خيالاته إلي الواقع. كان يتلذذ برؤية عينيها معلقتين بكلماته. وكان ذلك يشبه اصطحابها له ومعايشتها لكل ذلك إلي جانبه.