هل فاجأت 52 يناير الشعراء؟ هل هزت سباتهم العميق، وأخرجتهم من ترنيمات الفرد إلي الانشاد الجماعي؟، هل حررت بعضهم من التغني بالذات، ليدخلوا إلي ساحة الغناء للمجموع؟ هذه بعض أسئلة لابد أن تطرح الآن، لأن قراءة المشهد الشعري قبل يناير كانت تصيب المرء ببعض التعاسة، لأن الشعراء أنفسهم كانوا بعيدين عن العمل العام، وبعيدين عن الانخراط في الهم السياسي علي وجه منقطع النظير، واكتفوا بأن الشاعر يكتب أشواق الجماهير، وربما أيضا قراءة المشهد بعد يناير كانت نتيجته إيجابية، إلي حد ما، رغم أن الشعراء استخدموا الحدث في تطويع سكونهم للثورة العارمة، طبعاً هناك من حسموا الانحياز المباشر للجماهير بعيداً عن التهويمات والتنظيرات، وكان من أبرز هؤلاء الشاعران حسن طلب وسيد حجاب،، حسن طلب عندما كتب قصائده (عاش النشيد)، والتي نشرها في جريدة الدستور عام 5002، ثم صدرت في ديوان عام 6002، ولم تكن القصائد غريبة عن حسن طلب الذي كتب من قبل: (لانيل إلا النيل)، وفي »عاش النشيد« واجه طلب الطاغية باسمه، دون أدني التباس، رغم الحيل اللغوية التي تكون البطل الأول في قصائد حسن طلب، وأيضا الشاعر سيد حجاب الذي كتب (قبل الطوفان الجاي)، ونشرته دار ميريت عام 9002، وهو كذلك استشراف لما حدث، وتحريض عليه، واستدعاء لصور تكاد تكون حدثت بالفعل، والشاعران يمثلان بهذه الاستشرافات، كمنذرين كبيرين، ومحرضين بارزين علي ما يحدث، بعيداً عن الشاعرين كانت الأرض شبه محروثة لتلقي قصائد من هذا النوع، ثم جاءت يناير، فأطلقت المارد الشعري بضراوة، هذا المارد الذي راح يتشكل ويتلون ويتغني بطرق جديدة مذهلة، رغم أن كانت بعض حركات هذا المارد ملولة ومزعجة ومفتعلة، بعضها لم يكن صادقاً، وبعضها لم يكن جميلاً، لكن يناير جعلت من الشعر عضواً أساسياً في جسد الثورة، عضو فاعل وقائم في كل الصحف والمجلات والندوات والمؤتمرات، يناير حركت شعراء لم يكتبوا منذ عقود مثل الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، وأنزلت كثيرين من عليائهم اللغوية، إلي أرض التحرير، فكتبوا وأنشدوا ورقصوا، كل بطريقته، لذلك كان المشهد كرنفاليا، وكأنه لوحة من الموزايكو، فيها كل الأشكال والألوان والمباهج الفنية، وشاركت كافة الأجيال والتيارات والطرق الفنية في صناعة هذا المشهد الكرنفالي، وبالطبع لم يتخل كل شاعر أصيل عن فرديته وخصوصيته أمام النشيد الجمعي، ولكن حدث هذا الامتزاج الفني بين عمق الخصوصية، وعمق المجموع. ومن بين كل هذا يأتي ديوانا الشاعرين حسن طلب: (إنجيل الثورة وقرآنها، وحلمي سالم: (ارفع رأسك عالية)، ويمارس كل منهما خصوصيته المدربة والمتمرسة والأصيلة في سبر عمق الموقف السياسي والاجتماعي والفكري، والسمة الأساسية التي تجمع الديوانين، هي أن صراعاً وجدلاً يقوم بين الموقف والحدث القائم، وطرق تشكيله المتعددة، وبالطبع هذه الملاحظات لن تكون شافية، ولن تكون قادرة علي فك شفرات النصوص، بقدر ما هي إشارات وإلماحات لسمات، ليست جديدة علي الشاعرين، اللذين يستحق كل ديوان من ديوانيهما دراسة مستقلة ومستفيضة، ديوان (انجيل الثورة وقرآنها)، يمارس فيه حسن خبرته العميقة بتضاريس ومدلولات اللغة عموماً، والمفردات خصوصاً، وفي الوقت ذاته يهدف إلي توضيح المشهد بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، دون تهويمات، وأحياناً يعلن الشاعر موقفاً سياسياً لاتحتمله انسيابية القصيدة، ولكن بالخبرة المعهودة نجد أنه ينجو من هذا التضاد الذي من الممكن والجائز أن نلاحظه عند شاعر آخر.. يقول في احدي تفعيلاته: نحن قصدنا بابك ياميدان وشطرك ولينا الوجه.. وصلينا! نحن توالينا أفراداً وزرافات وإليك سعينا فعساك توالي من والينا ياميدان.. عساك تعادي من عادينا!) تبدو هنا خبرة الشاعر في التقديم والتأخير، والتشكيل، وإضفاء الحركة علي المشهد، وإخراجه من سكونية كانت من الممكن أن تسكنه، وهذه الصفة تلازم الديوان ومشاهده جميعاً. كذلك يوغل الشاعر في استخدام مفردات الحدث وتفعيلاته، والموقف من هذه المفردات، أو معها، فيورد مفردة (كفاية)، ويجري جدلاً بين اللفظة، ومدلولها المتعدد، مدلولها اللغوي والسياسي والواقعي، فيقول: (فعندما قلنا: كفي قال لنا: أنا.. أو الفوضي). وكذلك يكتب عن »السادس من ابريل«، ويتماهي مع التعبير والجماعة في وقت واحد: (نحن الذين اتهمونا أننا في الأصل كنا! مستهل الهرج والمرج نحن من المصنع أشعلنا لكم شرارة الثورة). كذلك يأتي ديوان: (ارفع رأسك عالية)، وإن كان هناك قلقلة لغوية في العنوان، لكن الشعراء معذورون في استخداماتهم، اتباعاً لنظرية هم يكتبون، وعلي المتابعين كالقراء والنقاد والباحثين أن يقعدوا، سنجد أن الشاعر حلمي سالم يستخدم خبرته القديمة في الإنشاد، وإضفاء حس التغني بالمنشود له، الوطن والحبيبة والثورة والعدل والحرية، هنا الشاعر يستدرج كائناته ليمارس ولعه الخاص بتنغيم كل ذلك، وإيراده في ترنيمات تشبه الترنيمات العربية القديمة.. وتبرز طبعاً سمة الصنعة، ومحاولات الإحكام، ومطاردة الفكرة وتوزيعها في قصيدة، فالقصيدة تبدأ كفكرة، ويظل الشاعر يجند خبرته اللفظية، والموسيقية والموقفية لإبراز - فكرياً وسياسياً- ما يريده، لتصبح القصيدة موقفاً يخصه، فيكتب - مثلاً- في قصيدة عنوانها »العسكر«. (كنا نخشي العسكر، ونراهم مسكونين بشهوات السلطة، منقلبين وقلابين بغاة، وطغاة. حتي لو كانوا طغاة).. ويظل الشاعر يجلب مواقف عديدة، ومشاهد شتي، والمعاني التي كانت تدفعنا للخوف منهم، والريبة من مواقفهم، يسرد كل هذا، ليقول في النهاية: (كنا نخشي العسكر. لكن العسكر في أم الدنيا معجزة، أنت فوق النيل (الأهزوجة عالية). وكعادته يدجج القصيدة ببضعة مقتبسات من التراث الذي يكمن في الوجدان، يقتبس ليحرك الروح، ويقلب الوجدان، وهنا تبدو القصيدة كمعادلة هندسية، مقدمات أو معطيات، وبراهين ونتائج، ولذلك فهو ينهي قصيدته بفقرة تشبه القرار: (كنا نخشي العسكر، لكنهم الليلة حراس الحلم: امنيين ومأمونين).. ولن نقدم - طبعاً- مفردات ومعاني وطرق الشاعر المعهودة، لكننا نفتقد وهج الشعر، سيطرت الصنعة والحبكة والصياغة والموقفية، والشاعر له عذره، وعليه أن يصدر بيانه، ويشارك في المشهد التاريخي، ليكون عضواً فعالاً ليس بشخصه، لكن ببطاقته الفنية، ومنشوره الشعري. شعبان يوسف