قرية (رملة الأنجب) مركز أشمون محافظة المنوفية مسقط رأس الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر في 30 مايو عام 1935، كابن فلاح مصري فقير، هذا الفلاح الذي يري ، كما يقول "مطر"، أن مهمة الشاعر الأولي هي : (الحكي) _ أما ما يتبعها فهي مهمة (الشعر)، فالشاعر في الريف المصري هو القائم بنقل وحكاية السير الشعبية ،. هذا الفلاح الذي صوره الشاعر في قوله:أمي ولدتني ذات مساء، فانسربت روحي في ضوء المصباح، وهربت خلال الظل ولون الماء، ودخلت عبيرا في ذرات الريح، ولبست قميص الصمت، وأكلت الكعك الأسود في أغراس الموت، وقد أتم الشاعر تعليمه الثانوي عام 1956، والتحق بمعهد المعلمين، ليعمل ، بعد ذلك مدرسًا بالمدارس الابتدائية بمحافظة كفر الشيخ في قراها وبراريها البعيدة مثل قرية (الرصيف)، وفي تلك الأثناء يلتحق بالدراسة بكلية الآداب جامعة عين شمس ، قسم الفلسفة، وينُهي دراسته به عام 1966، وتُنشر له بعض القصائد في مجلات (الأدب)، و(الآداب) البيروتية وغيرها، ويواصل العمل بالتدريس، ويشارك في الإشراف علي المجلة الثقافية "سنابل" التي أصدرتها محافظة كفر الشيخ عام 1970 ، إلي أن توقفت بعد عامين. وفي عام 1976 يقرر الشاعر السفر إلي العراق هربًا، عن طريق السودان، بعد أن عاش مُعلمًا عشرين عاما يشعر بالظلم والأسي علي ما يدور حوله... وفي العراق يتغير إيقاع حياته، ويعمل محررًا في مجلة "الأقلام" الثقافية، ومجلة "آفاق ثقافية" لمدة سبعة أعوام. ويعود (مطر) إلي القاهرة عام 1983 يمارس حياة الشعر والشاعر _ بعيدًا عن المؤسسات الحكومية وشبه مستبعد ومنبوذ ليحتل الآخرون الساحة الإعلامية، تلاحقه تهمة الغموض إلي حد الاستغلاق علي القارئ العام والمتذوق متوسط الثقافة ومتوسط القدرة علي قراءة الشعر، ويعلق(مطر) قائلا: (منذ نشرت أوائل قصائدي وخلال النصف قرن الذي انهزم كانت تلاحقني تهمة الغموض والتعقيد ومُراكمة الصور والأخيلة المركبة وجموح التركيب وتجاهل القارئ والانحياز إلي قراء نوعيين قليلين، وترجع هذه التهمة إلي النقاد الوكلاء عن (الجماهير) الذين تستغلق عليهم النصوص تمامًا إذا خلت من التبشير أو الدعاية أو الطنطنة باللغو السياسي والتوظيف اليومي الآني المباشر في قضايا الساعة، والقيام بمهام (القوميسير) السياسي الذي يتميز دائما بوقاحة الجهل وجرأة الخوض فيما لا يعرف) ولنتوقف عند عام (1991) بعد محاولة العراق غزو الكويت وفشل المحاولة، وما جرته (حرب التحرير) العربية من تدمير لمقدرات العراق العسكرية والاقتصادية والعملية، وإدانة (مطر) لمقتل الآلاف من المدنيين العراقيين بوحشية والتي تقوم بها أمريكا في بربرية وهمجية ، فيعلق علي الملأ رفضه لما يدور في الساحة العربية، وأن نظام صدام حسين أفضل من نظم عربية كثيرة.. فيشي به بعضُ المثقفين، ويتم إلقاء القبض عليه، وتندهش أجهزة الأمن من تلك الضجة التي صاحبت اعتقاله، والتي أثارها بعض المثقفين الشرفاء.. فقد كان في ظنها أنه شخص لا أهمية له وربما (نكرة) ، هذا الشاعر الذي يقول عنه الشاعر السوري (نوري الجراح) عندما قابله مرة في لندن: (هو شخص غريب هش، كان لينا لطيفا وخفيفا _ فهو طويل ونحيل، وتعبيره الشعري يضرب في العمق، ولا يسلم نفسه إلي السطح حيث الجماهير.. فهو عصي بعض الشيء علي قارئ ينشد في الشعر أن يكون كلاما يحرضه ويدعوه إلي أمر عظيم)، وتردد مجلة "أدب ونقد" عند اعتقاله: (يدافع المثقفون المستقلون عن حرياتهم وراء الأسوار مقابل الدفاع عن حقهم في العمل السياسي المنظم)، ونتساءل: لماذا اعتقل محمد عفيفي مطر ، الذي أغني ثقافة وطنه بأعمق الشعر؟ ويردد (مطر) في زنزانته: (لحقتنا جميعا مصائر الحياة في زماننا ، زمان الهزيمة والحيرة ، فقد فر من فر إلي دروب تحقيق الذات فيما استجد من طغيان (الميديا) وإمبراطورية الإعلام، واكتأب من اكتأب ففر إلي سهولة العدمية، وادعي من ادعي فلم يستح من السرقة ولم يستح من سياقاته المنُفعلة.. سياقات من يهبش من جمل وأسماء وكتب وأفكار، واستمات من استمات ليرث أوهاما ونصيبا من ميراث لا وجود له، وهناك من كف وانقطع، وهناك قلة ما زالت تقبض علي الجمر وتنفخ في رماد البلاد). إن هذا الشاعر الذي كانت تراه أجهزة الأمن (نكرة) هو ذلك الشاعر الذي يقول عنه الناقد (د. لطفي عبد البديع) في مجلة "إبداع، يناير 1994 في دراسته عن ديوانه: (فاصلة إيقاع النمل): "شاعر ، لا أقول ،تُباهي به الأمم ، ولكن لنا أن نقول، وهذا أضعف الإيمان ، إننا لا نحتاج معه ، كما لا نحتاج مع غيره من الشعراء المجيدين ، إلي أن نتسول الشعر ونستجديه في المهرجانات عند الشعراء من الأشقاء، وشعر الأشقاء ، مع ذلك ، عزيز علينا وكلنا به ضنين)، وتتعدد الآراء في شهرته فيُقال: إن شعر (مطر) هو شعر الحواس الخمس (اللمس والسمع والذوق والبصر والشم، والقدرة علي تحويل الحواس الخمس، وتحويل الطقوس الريفية والعادات الفردية المطمورة إلي شعر بديع جميل. ويتميز الشاعر بالموسيقي المتينة المتراصة، والبناء الأصلي لشعره هو بناء عمودي، وزعه الشاعر علي سطور الصفحات مُنفرطا في هيئة حديثة حرة، كما يتسم بتداخل التقليدية والتحديثية في البنية الشعرية الواحدة، وكأنه يُعيد إحياء تقاليد القصيدة في العصر الجاهلي، كما يشير الناقد (محمود أمين العالم). هذا الشاعر الذي رأته أجهزة الأمن المتسلطة والجاهلة في زنزانته (نكرة) كان قد قطع مسيرة طويلة كان حصادها ، حتي الآن ، (16) (سبعة عشر ديوانا هي: من مجمرة البدايات، من دفتر الصمت، ملامح من الوجه الأنبادوقليسي، شهادة البكاء في زمن الضحك، النهر بلبس الأقنعة، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت، احتفالية المومياء المتوحشة، الجوع والقمر، يتحدث الطمي، كتاب "الأرض والدم، رسوم علي قشرة الليل، رباعية الفرح، فاصلة إيقاعات النمل، الأعمال الكاملة (في أربعة أجزاء). ومن سخريات القدر أن (محمد عفيفي مطر) كان قد حصل علي (جائزة الدولة التشجيعية) ، وهو في سن الرابعة والخمسين!! وهو أمر غريب لشاعر كبير في حجم مطر!! ويتم الإفراج عن الشاعر ، بعد عدة أشهر، حين أدركت المؤسسة الحاكمة قامته العالية ،إذ أثار اعتقاله ضجة الاستياء في دوائر العالم العربي الثقافية. ويخرج (مطر) من المعتقل وقد تعرض للتعذيب والتشويه، وتم كسر أنفه ، ليعاود استكمال مسيرته في عالم الشعر والكتابة، فيكتب للأطفال بحماس مرددًا: أنا أكتب للأطفال إيغالا في قصيدة الحيوية الخاصة بالكائن الذي سيحتل المستقبل ويضمه ويكتشف شعريته وجماليات رؤيته، فالكتابة للأطفال هي بمثابة سياحة خاصة بي في بهجة الكتابة والبحث في الوشائج العميقة التي تربط بيني وبين الشعر الكامن في الدهشة وتقليب النظر في آفاق الممكنات الرائعة تحت هلاهيل الحاضر ومستنقعات الفاقة والبؤس وجهامة الخيال العاجز المكتئب، وكل ذلك كان إيغالا في الشعر، لا ابتعادًا عنه)، وذلك بعد أن اكتشف أن الآباء والأمهات والمعلمين منشغلون بأشياء أخري غير الأطفال. وفي عام 2000 يحصل محمد عفيفي مطر علي جائزة سلطان العويس في الإبداع الشعري، وهي جائزة أدبية ومالية ضخمة، لكن ذلك لم يصرفه ، إطلاقا ، عن الشعر والكتابة، وإذ كان قد ترجم أشعار اليوناني (أوديسيوس إيليتش) في ديوان "الشمس المهيمنة" عام 1998، وفي عالم الأطفال يكتب "مسامرات الأولاد" 2006، وغيرها من الأعمال ، وفي عام 2007 تذهب إليه جائزة الدولة التقديرية؛ ربما لأنه يستحقها، وأيضا لكي تَشرُف به، وتعددت الأسئلة والاستغراب ، لأن مثل تلك الجوائز يحصل عليها ، عادةً ، المرضي عنهم أمنيا، والمحظوظون من مرتزقة المؤسسة الحاكمة، والهابطون عليها بالبراشوت من رجال النظام . كان قد تخطي السبعين من عمره عندما منحوه جائزة الدولة التقديرية، وكأنهم كما يقول برنارد شو : قد ألقوا له بطوق النجاة عندما وصل إلي شاطئ البحر.. إن كانت قد استقرت قناعاته ولم يعد تبهره الجوائز.. فيردد فيما بينه وبين نفسه: آمنت منذ الصبا بأنني لن أستطيع أن أخدم سيدين.. لقد لقيت من عنت الضغينة ومحاولات الحذف، والتهميش، والتهوين، والإماتة، ولدد التطويق والحصار ما تنوء بحمله الجبال). وفي مواجهة مع نفسه يردد في عناد: أعرف في نفسي أنني شديد المراس والعناد، ولا طاقة لأحد علي مغالبتي ومغالبة نصي.. ولكنني طامنت من غلوائي فلم أنشغل بالدفاع عن نفسي أو اقتحام الملاسنات والتخرصات التي تدور حولي.. فأنا خادم لسيد واحد هو (الشعر)، ولا أستطيع خدمة سيد آخر . فالشعر ، عندي ، هو ما أحاول تحقيقه في نصوص، وعلي قدر أهل العزم..). ولا يؤمن (مطر) بكثير من نقادنا، ويري أن ما نملكه الآن في نقد الشعر هو اجتهادات في استيعاب ومتابعة واتباع ما يصل إلينا ، متأخر جدًّا، من اتجاهات النقد في العالم، وفي بلادنا قلة مشهود لها ببراعة القراءة والنقد...).