رويترز: كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب    تبادل إطلاق نار كثيف بين باكستان وأفغانستان في منطقة حدودية.. ما التفاصيل؟    نجل بولسونارو يعلن ترشّحه لرئاسة البرازيل بدعم مباشر من والده    قوات الاحتلال تعتقل عددا من الشبان الفلطسينيين خلال اقتحام بلدة بدو    أبو ريدة: فخور بوجود مصر في كأس العالم.. ومجموعتنا متوازنة    المنتخب الوطني المشارك في كأس العرب يختتم استعداداته لمواجهة الإمارات    وكيلة اقتصادية الشيوخ: التسهيلات الضريبية الجديدة تدعم استقرار السياسات المالية    نتنياهو بعد غزة: محاولات السيطرة على استخبارات إسرائيل وسط أزمة سياسية وأمنية    النائب محمد مصطفى: التسهيلات الضريبية الجديدة دفعة قوية للصناعة المصرية    النائب ناصر الضوى: الإصلاحات الضريبية الجديدة تدعم تحول الاقتصاد نحو الإنتاج والتشغيل    احفظها عندك.. مجموعات كأس العالم 2026 كاملة (إنفوجراف)    تفاصيل مثيرة في قضية "سيدز"| محامي الضحايا يكشف ما أخفته التسجيلات المحذوفة    "بيطري الشرقية" يكشف تفاصيل جديدة عن "تماسيح الزوامل" وسبب ظهورها المفاجئ    «بيصور الزباين».. غرفة تغيير ملابس السيدات تكشف حقية ترزي حريمي بالمنصورة    وفاة عمة الفنان أمير المصري    عالم مصريات ل«العاشرة»: اكتشاف أختام مصرية قديمة فى دبى يؤكد وجود علاقات تجارية    أحمد مجاهد ل العاشرة: شعار معرض الكتاب دعوة للقراءة ونجيب محفوظ شخصية العام    يورتشيتش يكشف عن قائمة بيراميدز لمواجهة بتروجت في قمة مؤجلة بالدوري الممتاز    تايكوندو - معتز عاصم يتوج بذهبية بطولة العالم تحت 21 عاما    رئيس لبنان: نعتمد خيار المفاوضات مع إسرائيل لوقف الأعمال العدائية    أزمة أم مجرد ضجة!، مسئول بيطري يكشف خطورة ظهور تماسيح بمصرف الزوامل في الشرقية    الخارجية الفلسطينية تُرحب بقرار الأمم المتحدة بتمديد ولاية وكالة الأونروا    محامي ضحايا مدرسة "سيذر" يكشف تفاصيل إحالة القضية إلى النيابة العسكرية    مسئول أمريكى: قوة الاستقرار الدولية فى غزة قد تُصبح واقعًا أوائل عام 2026    البلدوزر يؤكد استمرار حسام حسن وتأهل الفراعنة فى كأس العالم مضمون.. فيديو    لارا أبوسريع تحصد الميدالية الذهبية في كأس مصر للجمباز    قارئ قرآن فجر نصر أكتوبر: «دولة التلاوة» يحتفي بالشيخ شبيب    المدير التنفيذي لمعرض الكتاب يوضح سبب اختيار شعار «ساعة بلا كتاب.. قرون من التأخر» للدورة المقبلة    لأول مرة.. زوجة مصطفى قمر تظهر معه في كليب "مش هاشوفك" ويطرح قريبا    رسالة بأن الدولة جادة فى تطوير السياسة الضريبية وتخفيض تكلفة ممارسة الأعمال    تباين الأسهم الأوروبية في ختام التعاملات وسط ترقب لاجتماع الفيدرالي الأسبوع المقبل    حيلة سائق للتهرب من 22 مخالفة بسيارة الشركة تنتهي به خلف القضبان    الصحة تفحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة الرئيس للكشف المبكر عن الأنيميا والسمنة والتقزم بالمدارس    بيل جيتس يحذر: ملايين الأطفال معرضون للموت بنهاية 2025 لهذا السبب    بالأسعار، الإسكان تطرح أراضي استثمارية بالمدن الجديدة والصعيد    مكاتب البريد تتيح إصدار شهادة بسعر المشغولات الذهبية    وزارة الداخلية تحتفل باليوم العالمي لذوى الإعاقة وتوزع كراسى متحركة (فيديو وصور)    دعاء الرزق وأثره في تفريج الهم وتوسيع الأبواب المغلقة وزيادة البركة في الحياة    القاصد يهنئ محافظ المنوفية بانضمام شبين الكوم لشبكة اليونسكو لمدن التعلم 2025    عضو الجمعية المصرية للحساسية والمناعة يوضح أسباب تفشّي العدوى في الشتاء    كيف أتجاوز شعور الخنق والكوابيس؟.. أمين الفتوى يجيب بقناة الناس    حافظوا على تاريخ أجدادكم الفراعنة    14ألف دولة تلاوة    وزارة العمل: وظائف جديدة فى الضبعة بمرتبات تصل ل40 ألف جنيه مع إقامة كاملة بالوجبات    تفاصيل تخلص عروس من حياتها بتناول قرص حفظ الغلال بالمنيا بعد أشهر قليلة من زوجها    جامعة حلوان تنظّم ندوة تعريفية حول برنامجي Euraxess وHorizon Europe    شركة "GSK" تطرح "چمبرلي" علاج مناعي حديث لأورام بطانة الرحم في مصر    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    جامعة الإسكندرية تحصد لقب "الجامعة الأكثر استدامة في أفريقيا" لعام 2025    بعد انقطاع خدمات Cloudflare.. تعطل فى موقع Downdetector لتتبع الأعطال التقنية    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    طريقة عمل السردين بأكثر من طريقة بمذاق لا يقاوم    مواعيد مباريات الجمعة 6 ديسمبر 2025.. قرعة كأس العالم 2026 وبطولة العرب وقمة اليد    مصر ترحب باتفاقات السلام بين الكونجو الديمقراطية ورواندا الموقعة بواشنطن    استشاري حساسية: المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات وتضر المناعة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أرخبيل من السجون
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2011

في مجموعته القصصية الأولي التي حملت اسم »رحيل الصوت الداخلي« (7891) التي صدرت علي نفقته الخاصة - صدرت بعدها مسرحية بعنوان »عباسية بارتي« (9991) تنبأ فيها ببيع مستشفي العباسية للأمراض العقلية، علي نحو ما جري بعد ذلك - يقدم لنا الكاتب المتميز »محمد عبدالعال المريسي« - من قرية »المريسة« بمدينة أرمنت من أعمال محافظة قنا - عالما غرائبيا.. خشنا.. قاسيا.. تحول إلي سجن كبير فقد فيه الإنسان حريته، وصودرت فيه ملكاته وإمكاناته، فأفضي إلي ذلك الانقلاب والتحول الخطيرين من التاريخ إلي البيولوجيا، ومن المفهوم التكويني إلي المفهوم الطبي في فكرة الحرب الاجتماعية بتعبير »فوكو«.. حتي صار صوت »ستيفن ديدالوس« في رواية »جيمس جويس« »صورة الفنان شابا« مهيمنا علي فضائنا الإنساني وهو يهتف: »سأخبركم بما سأفعله، وبما لن أفعله. لن أخدم أبدا مالا أومن به، سواء أكان ذلك وطني، أم أرض أجدادي، أم كنيستي، وسأحاول التعبير عن نفسي بطريقة حياة أو فن، بقدر ما أستطيع من الحرية، وبكل ما أوتيت من قدرة، مستخدما في ذلك الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها:
الصمت.. المنفي.. البراعة«.
بل إن رجل العلم لم يعد مستقلا، ولكنه أصبح بالضرورة جزءا من مؤسسة كبيرة، كما راح يؤكد لنا »برتراندرسل« في كتابه »السلطة والفرد«.
وبات الكائن الفرد يشكو أزمة روحية تغمره بإحساس طاغ بالانسحاق أمام قوي غامضة مجهولة تبث الحيرة والريبة والقلق وانعدام الأمان. وبذلك استطاع »محمد عبدالعال المريسي« أن يميط اللثام عن مأزق الذات الإنسانية، والتباسات علاقات هذا الواقع، ومراوحته بين الحلم والوهم واللايقين، فانفتح أمامه الكون علي صور ومشاهد لامعقولة تكشف عبثيته ولامنطقه وتردي معاييره. الأمر الذي دفعه، ربما، إلي أن يصدّر مجموعته هذه، بتوطئة دالة تعكس فهمه هذا:
أنا أعتقد أن جزءا كبيرا من مسألة سيادة الرعب في العالم، يرجع إلي أن هناك مؤسسات ظاهرة وخفية تخطط بدقة لهذا الرعب - هذا الرعب غير الإنساني. لأنني أومن تماما أن كل ما هو إنساني جميل وطيب وله رائحة ذكية. لهذا فقد قررت بيني وبين نفسي أن أعلن الحرب علي هذه المؤسسات الظاهرة والخفية، لأنني وببساطة شديدة أعشق كل ما هو إنساني وطيب.
وقد انتبه علماء الاجتماع في أواخر القرن العشرين إلي طبيعة هذه المؤسسات وما تنهض به من دور فاعل في المراقبة والسيطرة، لعل أشهرها دراسة »إيرفينج جوفمان« عن المؤسسات النفسية عام 1691 كنموذج »للمؤسسات الشاملة« التي تقوم بتشكيل شخصية الفرد وصياغة توجهاته العامة.. كما قدم لنا الفيلسوف الفرنسي الأشهر »ميشيل فوكو« دراسة مهمة عنونها باسم »المراقبة والمعاقبة« عام 5791، ليلفت نظرنا إلي حقائق صادمة تفضي إلي أن أساليب المراقبة المتبعة مع المجرمين في السجون أضحت نموذجا لأماكن السيطرة الحديثة الأخري كالمدارس والمستشفيات والمصانع... إلخ، ومن ثم بات يشيع نمط مراقبة السجون في كل أرجاء المجتمع الحديث، حتي أمسينا نعيش- كما يقول فوكو - في »أرخبيل من السجون« - وبدا المجتمع جسما مذعنا مقهورا خاضعا لسلطة مستبدة.
لذلك كان طبيعيا أن يردف الأستاذ »محمد المريسي« تقدمته هذه، بفقرة »لفرانز كافكا« تذهب إلي أن ( مستقبله من وجهة نظر أدبية واضح جدا. الرغبة في تصوير حياتي الداخلية الفانتازية جعلت من المستحيل تحقيق جميع الأشياء الأخري التي ذبلت ومازالت مستمرة في الذبول بشكل يدعو إلي البكاء. وليس هناك أي شيء آخر يرضيني - إلا أنني لا أعرف ما إذا كان لديَّ مزيد من القوة للقيام بمثل هذا التصوير - فمن المحتمل أنها قد استنفدت إلي الأبد، ومن المحتمل أن تعود لي من جديد - برغم أن ظروف حياتي لاتساعد علي ذلك.)
ومن المعروف أن »كافكا« كان سبّاقا إلي تحليل ماهية هذه المؤسسات، كالأسرة والعائلة والمؤسسات التجارية والتعليمية والوزارات الحكومية والمدرسة والمستشفي والسجن، وأدوارها الوظيفية المنوطة بها في الاضطهاد والقهر والتطويع، حتي إن »كافكا« نفسه اكتشف في يناير 2291، بينما كان يسجل اسمه في فندق جبلي، أن الموظفين أخطأوا قراءة اسمه ودونوه علي أنه »جوزيف ك« (افكا) ويومها تساءل في يومياته: »أأصحح لهم خطأهم.. أم أدعهم يصححون لي خطئي؟« في إشارة إلي تماهي المؤلف نفسه مع شخصياته ومعاناتها.
من هنا، يلتقي »محمد المريسي« مع »كافكا« في الإيمان بأن المعاناة هي العنصر الإيجابي في هذا العالم، بل هي الرابط الوحيد بين هذا العالم وبين الإيجابي. وهنا فقط تكون المعاناة معاناة كما يردد »كافكا«، بعد أن عاش كل منهما أو تخيل ما نعيشه جميعا من مخاوف وشك وإحباط وتشظ، والنظر إلي الفردي كواقعة تنهض علي امتلاء مساحة الفعل الإنساني بالصيرورة الدائمة. إذن.. ما الذي يحيل إليه اسم المجموعة القصصية »رحيل الصوت الداخلي« الذي يشير إلي اسم قصة بعينها من قصص المجموعة الإحدي عشرة، بوصفه إدراكا أوليا تتشكل معه أحاسيس وأفق انتظار؟
إنها أزمة إنساننا المعاصر في ارتهانه لاشتراطات عالمه المأساوي، ولبنيته الاجتماعية المغلقة، ولتوليتاريته التسلطية ولشبكاته الميتافيزيقية التي ملأته بوهم امتلاك العالم، والقبض علي يقين ما.. من هنا، صاح السارد العليم المهيمن: »هناك مؤامرة لي وأخري لكم.. فخذوا حذركم«.. ولم يتلبث أن اصطدم بمفردات واقعه المأزوم، وما لحقه من تجريف صيَّر المجتمع والبلاد نثارا يسكنه الخواء علي مختلف الأصعدة.. وما يرين علي العالم من فوضي وقتل وتخريب سواء في مصر أونيكاراجوا أو فلسطين أو لبنان وسواهم متسائلا: »لماذا يصر الجميع علي قتل الفلسطينيين؟ انتابتني الحيرة عندما تحدث المذيع عن أزمة الشرق الأوسط وإصرار مصر علي عقد المؤتمر الدولي وحل القضية الفلسطينية حلا عادلا«.. محاولا فهم العلاقة »بين تعميق الديمقراطية وحفر الترع والمصارف«.. ساخرا من الإعلام الرسمي الذي دأب علي ليّ عنق الحقائق بقوله: »نسي المذيع أن يذكر العمق المطلوب في مسألة تعميق الديمقراطية«.. ومن حديثه الممل عن »إصرار الوزارة الجديدة علي المضي قدما في توصيل الدعم إلي مستحقيه« في الوقت الذي يشكو فيه من »انقطاع المياه واختفاء الصابون«، الأمر الذي لم يجد أمامه سوي إغلاق الراديو، وتخليص نفسه من هذا الهراء.. لكن المشاكل لاتتركه، والأزمات مازالت تواصل ضغطها عليه، لاسيما ما ينتظره عند مواجهته المرتقبة مع رئيسه صاحب »الكرش الممتلئة بالروتين، بعد أن اعتاد التأخير والوصول إلي عمله في مواعيد غير مناسبة، وتوقيع الجزاءات عليه، فأضحي يلعنه »كثيرا في السر - وفي الجهر أحيانا - وأعتقد أنني لعنت كل الأشياء«.. وأمسي يؤرقه همّ قاس إثر اكتشافه أنه »خدع خدعة كبيرة«، وأصبح يخامره »إحساس بالخيبة والمرارة«، قائلا بصوت أسيان: »آمنت أنني شاب كتب عليه أن ينفق نصف عمره في الأحلام، والنصف الآخر في الانتظار«.. وبذلك تتحول القصة إلي كابوس تعبيري، يتناغم مع ذلك التقاطع العنيف الذي بات يستشعره بين المعني واللامعني.. بين الحقيقة واللاحقيقة، ونهاية التمييز بين الإنساني واللاإنساني.. بيد أن »محمد المريسي« استطاع أن يعمِّق أزمة بطله، وأن يمنحها أبعادا وجودية مسكونة بوعي شقي مفتوح علي شروخ العالم وتصدعه ومسلسل الانهيارات الكبيرة في بنية الواقع، والنظر إلي قضايا التاريخ بوصفها مشكلات إنسانية وروحية علي درجة كبيرة من التعقيد، قائلا: »أشعر بهزيمة من نوع خاص.. هزيمة لاتقل عن هزيمة يونيو برغم إقامة جيش وطني قوي، وإذابة الفوارق بين الطبقات، والقضاء علي الإقطاع وأعوانه برغم صعوبة تفسير كلمة أعوانه.. شعرت بالعالم يضيق في عيني.. أحسست به في رأسي جمجمة خربة.. بدا لي فراشي الصغير وملابسي المشنوقة وكتبي كورقة أخيرة في عالمي الذي أحلم بالخلاص منه«. وعلي هذا النحو، يجري إنتاج نظام رمزي بمقدوره التمويه علي غياب منطق الحدث والفعل، حيث يتعين أن تسقط الأضواء والظلال دائما باختلاف محدد يسهم في الكشف عن تعقد هذا الواقع، واستحالة اختزاله، فينفتح الواقع علي السؤال، علي حزمة من الإشكاليات، مستبدلا هويته، ومزحزحا مركز ثقله. عندئذ يواجه الواقع ويعارضه، ممتلكا إرادته الحرة، صائحا بملء فيه: »تأكدت تماما في هذه اللحظة: أن هناك من أفسد عليَّ حياتي، وأنني لن أتمكن منه وإن كنت أرغب تماما في قتله. لمعت في عيني السكين الموضوعة علي المنضدة«. وراح يجيل الطرف فيما حوله، عاقدا عزمه علي عدم الذهاب إلي العمل، وليكن ما يكون. فانتابه »شعور بالسعادة«، ضاعفه أنه ألفي نفسه وهو »يبصق استقالته التاريخية علي كرش رئيسه الممتلئة بالروتين«.
(تذكرت أنني حاولت أن أقول لها: »حبيبتي«. إنني وإن كنت لا أجد بديلا عن الحب، إلا أنني لا أحتمله الآن) معترفا بأن حالته غدت »حالة سرطانية لايصلح معها إلا الموت والشفاء«.. محاولا قدر جهده أن »يظل يقظا حتي الموت« خشية »تدخلهم في اللحظة الأخيرة لإفساده«.. لكنه ظل مبتسما »لحد السكين البيضاء اللامعة« التي ستحقق له رغبته في »أن يرقص مذبوحا، وهو يشم رائحة دمه« فليس أمامه »سوي طعنة واحدة، وها هي السكين«. وبذلك يعيش الرجل حرية مؤقتة وغامضة، حولته كما يقول »زارادشت« في »هكذا تكلم زارادشت« »لنيتشه« إلي أن »من يحارب التنانين، يصر هو نفسه تنينا«.. غير أن حريته هذه أشبه بحرية »ك« في »القلعة« لكافكا التي نعتها بحق بأنه ( ليس هناك ما هو أكثر عبثية، وأشد إحباطا من هذه الحرية، وهذا الانتظار، وهذا الأمان ) وبذلك يزيح الكاتب النقاب عن شراسة هذا العالم وهمجيته، وعدم قدرته علي أن يمنحنا الحب أو الشعور بالأمان، بفضل التحولات الجذرية الجارية في البنيات الأنطولوجية والإبستمولوجية والتاريخية للعالم المعاصر، وسطوة مؤسساته الأخطبوطية وحسابات القوة وعلاقاتها.
وهنا يقدم لنا »محمد المريسي« بنية قصصية تنطوي علي الواقع ووهمه، وتورط الإنسان في عالم أضحي شَركا لانهائيا، واستراتيجية لغواية لعبة مجهولة. لهذا راحت الكوابيس تهاجم »الحاج إسماعيل« في قصة »الموت في حزيران«، »فرأي في منامه أنه ذهب إلي السوق بأولاده الثلاثة، وعاد باثنين، ولم يعد صابر. خشي أن يقص رؤياه علي زوجته الحاجة فاطمة.. يعذبه هذا الحلم، ويعذبه أكثر أنه لايجد له حلا أو إجابة تريح صدره المرهق من الدخان والكحة... واعتزل الناس.. »وأصبح يكره أسئلتهم المقلقة: إيه الاخبار ياحاج؟ قالوا إيه في النشرة.. هي مضايق تيران دي فين؟ مين اللي حينتصر ياحاج؟ الصاروخ اللي بيقولوا عليه الظافر ولا اللي اسمه القاهر ضربوه ولا لسه؟ هو صابر في الفردان واللا في القنطرة. كره الحاج كل شيء.. لم يعد في ذهنه سوي الحلم الذي رآه وما ستسفر عنه الحرب«.. وفي قصة »ليلة الجمعة« نري الجد الذي يحب يوم الخميس بوصفه يوما مباركا.. بينما يراه الشيخ »جابر« »اليوم الذي لوسقطت فيه السماء لوقعت علي أرجل النساء، بعد أن يأتي الشيخ والدراويش علي كل شيء في الصحون والأطباق« ويكون الشيخ قد شرب »الجوزة« بمفرده، وترك »البلمونت« لدراويشه، ليبدأوا حضرتهم بعد ذلك.. في الوقت الذي يراقب فيه »الراوي« (من فوق السطح رؤوسهم المهتزة وأحجامهم التي كبرت علي تراب الطريق وسطح مياه الترعة الراكد« فيتركهم ليعود »إلي الحملقة في النجوم المتناثرة كحبات اللؤلؤ المنثورة في السماء ).
وظل يخامره إحساس عارم ( بفساد أبدي للكون.. وأنه لافائدة.. وأن رحي المدينة تمكنت منه وسحقته، مثلما »تدش« أمه الفول والعدس تحت الرحي، وأنها - أي زوجته الحامل - تعمدت ذلك لأنها تود تحطيمه، ولابد أن أحدا ما سلطها عليه.. كان يثق في ذلك.. ثقته في سعادتها وتورد خديها ) وفي غمرة هواجسه هذه »اصطدم رأسه بصندوق زجاجي صغير.. وجملة: شد الفرملة عند الخطر تثقب عينيه، لترتطم عجلات القطار بالقضبان، وتصطدم الأصوات والأجساد، إثر قيامه بتحطيم المستطيل الزجاجي الصغير، وسحب اليد الحمراء ناحيته، قافزا من عربته، فتلاحقه الشتائم، ومحاولة الكمساري العدو وراءه، وفي قصة »علامة استفهام في مسألة الحرب والسلام« التي يذكرنا عنوانها باسم مسرحية المسرحي الكبير الراحل »محمود دياب« »رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام«، يقرر الراوي تمزيق الأقنعة ولاسيما قناعه الداخلي، متوكئا علي إرادته الحرة، وأخذ يعدّد مظاهرها وأشكالها التي أتت مثقلة بهمومنا العامة، مستعينا بالصورة واللفظة الموحية، فيتداخل فيها الوهم والحقيقة، والواقعية والتعبيرية لصياغة رؤيته التي تعيش في عينيه.. بدءا من تمنياته بأن تصبح حياته بطعم المانجو أو الفراولة أو البرتقال، حتي صارت بطعم الأسفلت.. فضلا عن مرويات حياته اليومية ونماذجها.. مرورا بتفكيره في السبب الذي دفع الرئيس السادات إلي أن يعلن أن 99٪ من أوراق القضية بيد أمريكا، وبصقه علي نسبة ال 1٪.. والمشاهد المعتادة لجنود الأمن المركزي وهم يجلسون في عرباتهم وأياديهم ممسكة ببنادقهم الآلية.. وقلقه من الأنباء التي تتحدث عن الغزو الإسرائيلي لبيروت، ورائحة خيانة تزكم الأنوف.. وصديقه الذي اختفي وترددت شائعات عن زواجه من فتاة يقيم معها في شقتها، بينما ذكر آخر أنه سافر إلي الإسكندرية للعمل، وكلماته له في آخر لقاء جمعهما معا: سأموت قبل عمري الحقيقي، واحتياجه إلي نفسه، وشعوره الدائم بالخوف وهجر الأحلام له، وبوجوه تطارده في يقظته ومنامه غير متأكد من ملامحها، وشعور حاد بالظمأ يخنقه.. وشكوي امرأة من رجل ترك علي ملابسها من الخلف بقعة بيضاء لزجة.. وانتهاء بطرده من مسكنه إثر عجزه عن دفع الإيجار لأربعة أشهر خلون، ولاعتقاد صاحبه بوجود علاقة تربطه بزوجته. وفي قصة »الفئران لها جحر في صدري« يتأمل الظلام، محاولا طرد بعض الأفكار من رأسه، لكنه استيقظ صارخا: الفئران.. الفئران.. فوجد إخوته يحدجونه بنظرات مندهشة، فقال لهم بتأكيد وثقة: هل رأيتم الفئران؟ فسألوه باستغراب: أين؟ ولمح في أعينهم - عدا أمه - قدرا من السخرية والاستهزاء، عاد يكرر وهو يشير إلي صدره: خرجت من هنا.. كانت ألوانها مختلفة صدقوني - ابحثوا معي عنها. فاغرورقت عينا أمه بالدموع، وقالت: غدا نذهب معا إلي الشيخ.. يضع لك حجابين: واحدا تعلقه في ذراعك، والآخر تضعه تحت رأسك. اذهب ياولدي اقرأ الفاتحة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات، وأخذت تدعو له، بيد أنه استيقظ فزعا.. صارخا صراخا مكتوما، كانت الفئران هذه المرة تنهش صدري، وكان صوتها الكريه الحاد يمزق أذني«، وأخذت نظرات السخرية والإشفاق تلاحقه.. وراحت ذكرياته عن الفئران تتداعي علي ذهنه عندما كان ضابطا احتياطيا تعرضت كتيبته لمهاجمة الفئران التي ألحقت بمخزن التعيين وميس الجنود والضباط خسائر جمة، وراحت تتسلل إلي الدبابات، فاقترح علي قائد الكتيبة تكوين جماعة لمحاربة الفئران، فوافق من فوره، ولم يتوان قائد السرية الطبية بنوع جديد من السم، أسهم لاشك في قتل ثمانين فأرا.. وقام الجنود بحفر حفر كبيرة، وضعوا فيها جثث الفئران المنتفخة وسكبوا عليها صفيحة كيروسين، أشاعت في الجو رائحة دخان غامض، وشواء عفن أصابته بقيء وبتقلص في أمعائه. وبذلك تبدو الأنا واللا أنا.. الحقيقي وسلب الحقيقي.. العاطفة وتعريضها الذاتي للشك، محاور لعلاقته بعالم راهن يعطي لعبة المتعدد الواحد مكانا للعبة الوهم والوجود اللذين ليسا سوي اسمين تقريبيين وتعسفيين للشيء نفسه.
غير أن »محمد المريسي« لايتأمل الجانب المعتم من الوجود فحسب، بل يعمد إلي لامرئي شاسع، عماده تشكيل جمالي مترع بروح شعرية قدم لنا خلالها الحياة بكل طزاجتها وبكارتها وعفويتها وإنسانيتها، كما في قصص »لحظة فرح« و»الربيع« و»الضحك والبكاء« و»النافورة«، جامعا بين القدرة علي إبداع الموقف الفني واقتناص اللحظة الفارقة في المواضعات السائدة، واستقطار الصدق وقلق الروح من قلب المعْلم الاجتماعي الجهم، معيدا تشكيل العالم برؤيته، عبر لغة مقتصدة جاءت خلوا من الزخرف اللفظي والبهرج الشكلي، لكنها ظلت وفية لدورها، أمينة لعلائقها. أجل.. إن محمد المريسي كاتب مجيد.. يمتلك أدواته الفنية باقتدار.. وله رؤية جمالية ثرية.. فتحية له.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.