وقف ابن روحية كعامود انارة صديء بقدميه الحافيتين وجسده النحيف الذي بدا كهيكل عظمي مرتديا جلبابه القصير المتهريء ينادي علي بضاعته »الطماطم« وسط الميدان المزدحم بالمارة الرائحين والقادمين.. ويبذل جهدا كبيرا في النداء فلا يصل صوته إلا علي بعد مترين أو ثلاثة بالكاد. وابن روحية كان في الحقيقة اسمه »أبوالمعاطي« ولكن التصق به هذا اللقب التصاق الانف بالوجه منذ اجترته أمه روحية وراءها الي الاسواق والميادين والشوارع حاملا مشنة الطماطم الكبيرة فوق رأسه الصغير لما ايقنت ان »أبوالمعاطي« سقط في بحر الفشل في الدراسة الابتدائية حتي صار لا يعلم الألف من مئذنة الجامع. فأخذته يعمل معها بدلا من أن تحتويه الشوارع أو يسطو علي عقله أصحاب السوء ومن يومها و»أبوالمعاطي« صار حاملا لهذا اللقب لدرجة أن الناس وأصحاب الوكالات نسوا اسمه الحقيقي ولم يعودوا ينادونه إلا بابن روحية وحاول »أبوالمعاطي« جاهدا ومرارا وتكرارا ألا يتوج بهذا اللقب ولكنها ارادة الله فيه.. واقتنع مرغما بهذا اللقب.. قال له أحدهم: الناس ربطوك باسم المرحومة لكي لا تنساها أبدا.. صدقني.. أنت محظوظ. المهم ان ابن روحية ظل يجاهد في النداء فيرتفع صدره وينخفض وراح يداعب حبات الطماطم المتراكمة علي العربة الخشبية المتهالكة أمامه. يصفها أحيانا بأنها مجنونة وأحيانا أخري أنها أحلي من التفاح الامريكي.. وبين اللحظة والأخري يخلع طاقيته المصنوعة من أردأ أنواع الصوف من فوق رأسه فتبان صلعته المعروفة ويظل يمسح العرق المتصبب علي حواف التجاعيد التي تملأ وجهه الاسمر.. وكان بين الحين والآخر ينقر علي صلعته بإصبعه فيثير ابتسامات وضحكات المارة من حوله. ورغم حركة البيع التي حظي بها »ابن روحية« في هذا اليوم إلا أن البضاعة أمامه مازالت كثيرة.. هذا بخلاف الأقفصة التي مازالت مملوءة بالطماطم ولم تأخذ دورها لطرحها للبيع.. بدت جيوب ابن روحية منتفخة بالجنيهات وأنصافها وأرباعها بخلاف الورقات النقدية الحمراء والخضراء. فتسري في عروقه نشوة.. كانت النداءات تخرج من فمه متلاحقة وسريعة وأحيانا يعتلي عربته الخشبية مناديا علي بضاعته التي هي أحلي من الشهد المكرر.. ولوي ابن روحية رقبته الطويلة التي كانت أقرب ما تكون الي بوصة الصيد تجاه الحشود الهائلة والرايات المزركشة والهتافات التي تشيد جميعها من خلال أبواق مكبرات الصوت بابن الدائرة الذي يعمل ليلا ونهارا من أجل خدمة أهله واخوانه وذويه. هتافات التأييد، تصفيق الأيدي وغيرها من الطقوس الأخري. كل هذا يراه ابن روحية علي مقربة منه.. فراح يتابع المشهد بأذنيه فقط أما عيناه فبدتا كنجمتين صغيرتين في جوف الليل.. وصوبهما تجاه السماء الرحبة الفسيحة أمامه. وجال بخاطره أنه لو صار يوما إبنا للدائرة وممثلا لأهلها فلاشك أن ذلك سيعود عليه بالنفع العظيم والخير الوفير.. أقل ما فيها أن الناس. كل الناس ساعتها لم يعد في مقدرتهم أن ينادونه بابن روحية.. علي الأقل سينادونه بالحاج »أبوالمعاطي« أو المعلم »أبوالمعاطي« وأقل القليل سيحظي باسم »أبوالمعاطي« فقط وهذا خير له من أن ينادونه بابن روحية.. وهناك نفع آخر سيعود عليه أنه حينما يكون كذلك فلا ريب أن محاضر أشغال الطريق التي يغرقه موظفو مجلس المدينة في بحورها ستزول أو علي الأقل ستقل جدا.. والنفع الأعظم انه حينما يذهب لأصحاب الوكالات ليأخذ منهم البضاعة »الطماطم« لم يعد في استطاعتهم أن يوبخوه أو يطالبوه بما عليه بأسلوب يجعل الدموع تفر من عينيه دون أن يعملوا لعظم التربة أي حساب. كل هذه المنافع وغيرها ستعود حتما علي ابن روحية لو صار ذات يوم ابنا للدائرة.. وبينما هو شارد يتخيل ويتمني بكل ما أوتي عقله من قدرة علي التخيل والتمني فإذا بفوج آخر يأتيه من الاتجاه المعاكس لمرشح آخر منافس، وظل الفوج القادم يقترب حتي صار ابن روحية مركزا ينتصف الفوجين بحشودهما الهائلة.. وكثرت الهتافات وتعالت الاصوات واختلطت الرايات وامتدت الايدي.. واشتبكت الالسن.. وصارت الطماطم الموضوعة أمام ابن روحية قذائف موجهة يستخدمها أفراد كلا الفوجين ضد خصمه وفرغت الطماطم من أمام ابن روحية فبدا سطح العربة فارغا إلا من الميزان وكفتيه وما تبعهما من سنجات.. وكذلك الأقفصة المملوءة فقد تهاوت علي الأرض بما فيها.. وضاع صوت ابن روحية وسط الزحام وانقلبت العربة الخشبية فوق جسده الممصوص ودهسته الأرجل بمختلف ألوانها ومقاساتها وضاعت كل النقود التي جمعها ابن روحية طيلة يومه المشئوم.. وراح يصرخ قدر استطاعته محاولا أن يوقف نهر الدم الذي انفجر من رأسه حينما قذفه أحد المتعركين بسنجة الميزان علي سبيل الخطأ.. ولما هدأت ثورة المتعاركين وبدا المكان خاليا الي حد ما من الأرجل علا صوت ابن روحية صائحا والدم مازال يقطر من رأسه. الحقوني يا اخواني.. إلحقوا ابنكم.. ابن الدائرة.