ظل الإسباني " خوان مياس " يحس بالبرد طول حياته رغم أن والديه كانا يتجولان داخله باستمرار، حتي أنه كان يحتفظ بالعلبة التي تضم الرماد المتبقي بعد حرق جثمانهما بالقرب منه، علي أمل أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من الذهاب إلي البحر، فينفذ الرغبة التي ألمحت إليها الأم ذات بمزج الرمادان معاً قبل أن يطيّرهما في الماء فيواصلان صيغتهما الجديدة للحياة معاً . إلا أنه لم يحظي بفرصة فراغ طول السنوات أو بالأحري أقنع نفسه بذلك .. هل كان يود أن يظلا إلي جواره حتي لو كان لا يراهما ، يعني بصور متكررة يصنعها خياله كل يوم ، أم أنه كان يستمد اطمئنانه من الإحساس الأكيد بأنهما مدفونان بيده في العلبة، بما يتيح له أن يربي يقيناً يزداد سمنة كل لحظة بأنهما ذهبا للأبد .. وأنهما حالياً في صورة مريحة هي الهباء والغبار .. المهم أن الأمر لم يستمر هكذا .. حيث تصادف أن دُعي لإلقاء محاضرة في مدينة البحر فقال جاءت الفرصة لضرب عصفورين بحجر واحد .. المحاضرة وتنفيذ الوصية .. قام " خوان" بفتح العلبة فلاحظ أن الكيسين اقتربا من البِلَي وعندما كان يقوم بتغييرهما طار جزء من الرماد وتسرب إلي لوحة مفاتيح الكمبيوتر فشاف الأمر علي أن الوالدين نجحا في لعبة التسلل إلي أخص وأعقد وأهم خصوصياته وهي الكتابة .. وفي النهاية حمل العلبة التي تحوي الكيسين وذهب إلي المطار فشك الضباط لأن الرماد يشبه البارود وعندما سألوه وأجاب بأن ما في الكيسين هو رماد والديَّ وسألقي به في البحر لم يصدقوه وطلبوا منه أن يعود لبيته علي أن يرجع ليعلم نتيجة الفحص بعد ذلك، ثم مرت ثلاثة أيام كانت مرعبة ومملة بالنسبة له لكن رجال المطار الذين كانوا مندهشين لأنه لم يسأل اتصلوا به ليستلم العلبة .. التي عادت للاستقرار أمامه للأبد .. هل تمت هذه الحادثة أساساً أم أن وعيه كلف خياله بأن يضفي الدراما الكفيلة بضمان الإيمان والتصديق علي ما يجري وكل هذا ليرسم بقاء المقبرة التي صنعها لهما في متناول يديه .. ورغم أنه لا يقرب الرماد ولا الأكياس ولا العلبة ولاتقع عليهم عيونه إلا أنه يلمسهم دائماً دائماً، بداخله وبخياله .. كان " خوان مياس " يحب أمه حباً مركباً ولا ينسي كيف دخل عليها وهي ترضع أخاه الصغير فأخرجت الحلمة وقالت أتود أن ترضع؟ فتزلزلت مراهقته واجتمع الجنس مع الخوف مع الهالة القدسية التي تقبع فيها الأم .. ما حدا به بأن يظل لفترة طويلة وهو يأمل بأن تكون كل النساء بلا حلمات ..... كانت أمه تفضله حقاً عن إخوته وكان لا يملك إلا أن يحبها مهما قاوم أو تمني العكس .. لكنه لم ينجح أبداً في محبة الأب ، صاحب ورشة الأجهزة الطبية الكهربائية الذي كان لا يصلح الأجهزة فقط بل يخترعها أيضاً .. الوالد الفخور دائماً بأنه أول من صنع مشرطاً كهربائياً في إسبانيا والذي كان دائماً يفضل أن يجلس علي كرسي عالٍ وبعيد عن قلوب أبناءه ونظرهم المرهق من طول التحديق لأعلي .. كان يفرض عليه هو وإخوته أن يقرأوا " دون كيخوته" كل صيف .. هذا الكتاب الذي لا تملك أبداً أبداً إلا أن تحبه ، لكن الخوف جعل المشاعر تلتبس بازاءه وازاء أشياء كثيرة بعد ذلك وطول العمر .. ليس من ضمنها هذا الأب الذي لم يستطع سوي أن ينحيه بعيداً عن أمان المحبة، الأب الذي قد لا يكون هكذا بالضبط ويكون الأمر لا يظهر إلا في نظرة "خوان" المنحازة للأم أو حتي يرجع ذلك لحساسية مفرطة يعاني منها كل المضروبين بإعادة تشكيل العالم علي هيئة كتابة .. كان " خوان" يحب " بابا" وليس " الرجل" الذي يمثله .. هل كان يغار من والده بلا مواربة .. ولم يغفر لأمه رغبتها في الامتزاج الأبدي بهذا الأب فتقاعس عن تنفيذ الوصية معزياً الأمر للانشغال ثم للارتياب الأمني والمصادفات السيئة .. أم أنه يستدعي ما كانت تزرعه فيه أمه التطهرية من صور لمفهوم "اللمس الآثم" .. لمس الأجساد وتحسسها بما يثير اللذة المحرمة ، سواء كانت لذة قتل الأب أو لذة الجنس والتي إن اعترف بها داخله ، فالأمر كارثي للأبد.. لهذا لم يلمس الرماد أبداً لسنوات طويلة .. ولما حاول .. كادت الأقدار أن ترتب له مصيبة في المطار !! والآن يكتب " خوان مياس " رواياته وقصصه ومقالاته ومحاضرته علي لوحة المفاتيح التي كانت بوابة تسلل الرماد /الماضي إلي الكتابة / الحياة .. إذن الوالدان حيّان ولكن في فضاء الكتابة، في الخلفية .. بما يعني : في العمق أيضاً، ولكن عمق تحققه هو وتميزه هو كخالق مصائر وحيوات .. أما إن حاولا أن يكون وجودهما أكثر فداحة، فالعلبة ليس أمامها إلا أن تغيب كل يوم قليلاً قليلاً عن ناظريه لتستقبل التراب والزمن وترسم كرنفالات للشيخوخة وللدفن المعلِن عن نفسه بجلاء في خريطة القرصان القادر علي إلقاء المزعجين في بحر الظلمات ..