ينشر بارجس يوسا في هذا الخريف رواية" حلم السلتيكي" وهو عمل آخر كبير بين أعماله. فيها، يقتفي الكاتب أثر روجير كيسمينت المثير، وهو دبلوماسي بريطاني وبطل الإستقلال بآيرلندا وشاهد علي إرهاب الاستعمار البلجيكي في الكونغو. إنه شخصية روائية حملت يوسا إلي جحيم وحشية المستعمر وفردوس رجل الأسطورة. استمر سفره ثلاث سنوات ولخصته قصة مثيرة للعواطف. في هذا الحوار يتحدث بارجس يوسا عن ارتياباته وهمومه المختلفة، موضحاً أن "الانحدار الأخلاقي والثقافي يسوقنا إلي الجحيم". دخل كيسمنت حياة يوسا بالصدفة، عندما كان يقرأ سيرة جديدة لكونراد، هناك عثر علي هذا الرجل الغريب والجذاب المسمي كيسمنت، فجذبه حتي النخاع وظل يمتصه خلال ثلاث سنوات. هو البطل المطلق في روايته"حلم السلتيكي"، وهو بطل هذا الحوار. كان كيسمنت منسياً، لم يُسجن أبداً بين دفتي كتاب، حتي التقطه يوسا فجعل منه رجلاً مدهشاً عندما حكي عن حياته الشقية، البطولية والقاتمة في آن واحد. كان كيسمنت هو أول من تعرف عليه كونراد في رحلته الأولي للكونغو كقبطان لمركب تعاقدت عليه حاشية الملك ليوبولد الثاني. نشأت بينهما صداقة، وكان كيسمنت، الدبلوماسي البريطاني الذي كان يقيم في أفريقيا منذ سنوات طويلة ويعرف كل ما يمكن أن يحدث، هو من فتّح عينيّ كونراد علي العالم الجديد الذي وجد نفسه فيه. كما لعب كيسمنت دوراً رئيسياً في كتابه "قلب الظلمات" كما يعترف كونراد نفسه في مراسلاته. يقول يوسا:" أبهرني كيسمنت عندما رأيتُ أنه لعب دوراً هاماً بوشايته عن الوحشية التي كانت تحدث في الكونغو خلال فترة الاحتلال، كما أنه أعد بحثاً عن وضع السكان الأصليين في الأمازون في نفس الفترة. وبالتالي، وبدون أن أفكر في الكتابة عنه، بدأت أبحث عن وثائق فوجدتني أمام شخصية مثيرة جداً، روائية جداً، لا يحمل حياة واحدة بل حيوات عديدة، بعضها قاتم، ويصعب تركيب بعضها مع بعضها الآخر...وسريعاً ما حدث نفس ما يحدث مع كل ما كتبته: وجدتني، دون أن أخطط لذلك، أعمل في رواية محتملة، فأكتب ملاحظات، بأفكار تنمو مع كل قراءة، عن اكتشافات الشخصية، والحقيقة أنها كانت تجربة شيقة، لأنها ساقتني إلي عوالم كنت أجهلها تماماً وهي الكونغو، آيرلندا، الحرب العالمية الأولي، حركات الاستقلال الآيرلندية..." كلما كان يبحث، كلما كان يجد أفكاراً أكثر تأخذه، مصائب الشخصية وشجاعتها. يحكي صاحب " امتداح الخالة" أن كيسمنت كان أيضاً أداة كاملة "لإزالة الغموض من حول الأبطال ووصفهم في حجمهم الطبيعي. إنه من الأشخاص الذين نجد فيهم أفعالاً بطولية وتعاسات شخصية، رجل يحيا في تقلص شخصي مستمر: دبلوماسي بريطاني يعمل من أجل القوميين الراديكاليين الآيرلنديين ويحتفظ بحياة ثنائية بداخله. كان كريماً بشكل مبالغ فيه، وفي نفس الوقت، أظن، تعيساً جداً، لأن في العالم البريطاني البروتستانتي كانت المثلية الجنسية خطراً كبيراً، تعني الحياة علي حافة الإدانة الجنائية". كان كيسمنت من أوائل الأعلام الأوروبيين المناهضين للفكر الاستعماري ببراهين، وبأسباب مبنية علي الخبرة المباشرة ، لا علي أسباب مجردة أو أخلاقية أو فكرية. يؤكد يوسا أن كيسمنت" عاش الاستعمار. ذهب إلي أفريقيا وهو مقتنع أن الاستعمار حركة مفيدة للسكان الأصليين، لأنه ينشر المسيحية ويهبهم الحضارة، ليكتشف بعد ذلك أن الاستعمار استغلال حيواني يحط من قدر المستعمِر والمستعمَر، أنه نظام مدمر بعمق للأخلاق ولكل القيم التي كان يعجب بها. حينها حدث له تغير جذري، يمكن ترجمته بسلوك شجاع ومضحي يثير الاستغراب. تغير تجاه فكرته الأكثر جذرية: مواجهة إنجلترا المتيم بها، والتي كان يراها شعاراً للحضارة، ويتساءل، طيب، إن كنت في الواقع ضد استعمار بلجيكا للكونغو، لماذا سأكون مع استعمار الإنجليز لآيرلندا؟ وبقوة أخلاقية غريبة أعلن موقفه. يختم بارجس يوسا روايته بعبارة قالها باتيل:" الكائن البشري هو الهاوية حيث تمتزج التناقضات". ويضيف يوسا " أعتقد أن هذه العبارة وصف لكيسمنت". إنه شخصية متناقضة جداً، درامية جداً، واصطحبته التراجيديا حتي إعدامه، الذي حدث في النهاية "دون أدني عائق" في برج لندن سنة 1916. وقبل ذلك شاهد ألوان الذل بسبب " انحرافاته الجنسية" ودفنوه في النهاية "دون أن يضعوا علي قبره شاهد قبر، ولا صليباً ولا حروف اسمه الأولي". وخلال نصف قرن رفضت عائلته أن تمنحه قبراً مسيحياً. " إلي الآن تذهب إلي آيرلندا فتجد الناس تنزعج من سماع اسم كيسمنت" يقول يوسا، ويواصل" نعم يعترفون أنه كان من أبطال الاستقلال، لكن لا أحد يتحدث عنه، يفضلون النظر في الجهة الأخري". تراجيديا الكونغو الأبدية - وبعد جرائم ووحشية البلجيكيين خلال فترة حكم ليوبولد الثاني (1835-1909) لم تتحسن الأمور في الكونغو، مر قرن كامل ولا يزال يموت بها ملايين من الأفراد. - أعتقد أن الكونغو يعيش تراجيديا مستمرة لأنه لم يستعيد نفسه أبداً من جراحه التي هي استعمار ليوبولد الثاني، حيث الإبادة الجماعية الحقيقية، التي ربما تكون أول إبادة جماعية في العصر الحديث، لأنها ناتجة عن نظام، مؤسَس علي النفاق، مقدماً نفسه بإعتباره احتلالاً بلجيكياً له مهام إنجيلية وتقدمية، بينما كل هذا في الحقيقة ستار من الدخان تختبيء وراءه وحشية فظيعة وإبادة لملايين الأفارقة، والأفظع من ذلك أنها تركت مجتمعاً مدمراً دون أن تترك له إمكانية النهوض مرة أخري، وأخفقت في كل مرة كل محاولات الحضارة لأن البنية الأساسية للبلد أضيرت بشكل عميق، لأنه: ماذا جاء بعد الإحتلال؟ حروب أهلية وديكتاتورية موبوتو، التي قضت علي البلد وسلبها الكونغوليون أنفسهم. - وهل خرج ليوبولد الثاني بدون عقاب من هذه الفظاعة؟ - ليوبولد الثاني لم يط الكونغو، وفي النهاية، وبفضل التقارير والحملات، التي بدأت من إنجلترا وامتدت بعدها في كل أوروبا، وجب علي الملك أن يتنازل عن الكونغو لأنها كانت حتي ذلك الحين ملكية خاصة له، فأهداها للبلجيك. إنه حدث غريب، نعم، يعطيك فكرة عن كيف تطور العالم: 14 دولة تجتمع في برلين، حيث لا يوجد كونغولي واحد، لتهدي الكونغو إلي ليوبولد الثاني ليطورها وينصّرها فيستغل البلد كغنيمة شخصية. الكونغو التي تساوي مساحتها كل أوروبا الغربية. إنه التاريخ الذي لا يمكن أن يصدق إطلاقا. وبعد كل ذلك، يُصنَف ليوبولد الثاني بإعتباره أعظم ملك إنساني. أمر لا يصدق.