أعرف أن العنوان الذي اخترته لهذه السلسلة التي تبحث في تاريخ المشهد السياسي والفكري والإبداع النسائي، جاء صادما للبعض، والبعض الآخر رأي أن كثيرا كذلك من الرجال الكتّاب يموتون كمدا وحسرة،ودون أن يكملوا أحلامهم الناقصة، أما عن الأوليّن الذين صدموا، وربما لم يصدقوا أن الكاتبات بالفعل قد واجهوا نهايات مدمرة، أقول لهم بشكل مستريح،إن التاريخ يقول ذلك بقوة، والمشكلة ليست متعلقة بالرجل أو المرأة، ولكنها متعلقة بالثقافة الاجتماعية السائدة، تلك الثقافة التي تتغذي دوما علي المقولات الجاهزة والثابتة، وتتذرع دائما بالأخلاق والدين والاستقرار، وتضفي علي نفسها قدرا من الرصانة والجلال المزيفين. بالطبع فالمرأة ليست الكائن الضعيف والهيّن، ولكنها طوال التاريخ كانت تخضع تحت كمّ لا حصر له من القوانين والشرائع واللوائح المانعة والقامعة،والتي تضع جسدها تحت الحراسة المشددة، منذ "حزام العفة" الحديدي، حتي العصر الحديث الذي يخضعها لوصاية الزوج،والذي كان خروجها وسفرها إلي الخارج،مرهونا بموافقة زوجها، ودوما تثير تلك القوانين مناقشات اجتماعية واسعة، ونجد أن مشكلات من نوعية الحجاب والنقاب وتوليها للمناصب الرفيعة تخضع لموافقات من هنا ومن هناك،وسوف نلاحظ كذلك أن ثقافتنا الشعبية وغير الشعبية،مجنّدة طوال الوقت تبدع في تقديم أمثلة في إهانة المرأة،أو تأويل النص الديني،أو النص التراثي حسبما يريد السيد الخليفة أو الشيخ أو الملك أو الرئيس وهكذا. إن كمية القوانين والتقاليد والأعراف التي تحيط بوضع المرأة،تجعلنا نعتقد أن حريّة المرأة خطر علي المجتمع بالفعل، وتنذر بهلاكه أو إرباكه علي الأقل، بينما لا نجد أن ذلك الأمر يحيط بالرجل، ونلاحظ أننا ندخل في سلسلة من الحوارات العنيفة،والتي ينشغل بها سائر العامة والخاصة،وذوو الاختصاص وغيرهم،وعلي الأخصّ بمن يقال عنهم "رجال الدين"، رغم إشكالية ذلك المصطلح الغريب،وكأننا نعود إلي عصر الكهّان والرهبان،الذين يقدمون أنفسهم طوال الوقت لخدمة السلطة والسلطان. وفي هذه الحلقة من الضروري أن نبحث عن الجذور الطبيعية للريادة النسوية في مصر والعالم العربي، ولا نجد أمثل من السيدة ملك حفني ناصف،وهي ابنة الشاعر والناثر حفني بك ناصف،والذي وفّر لها قدرا كبيرا من الثقافة والمعرفة والذوق الفني، وقد أهلّها ذلك لتقرض الشعر،وهي في سنّ مبكرة،فقد وٌلدت في حيّ الجمالية في 25 ديسمبر عام 1986،ونالت الشهادة الابتدائية عام 1900، وتسلمتها بعد التمرين كما يكتب شقيقها مجد عام 1905،وكانت أول من نالت دبلوما من مدارس الحكومة المصرية، وقرضت الشعر وهي في سن الحادية عشرة. تكتب الدكتورة سهير القلماوي :"في عصر يوم من أيام شهر فبراير عام 1907،جاء إلي والدها الشيخ الجليل،عبد الكريم سلمان يقدم للأسرة عريسا من خيرة رجال العرب المصريين،يقدم عبد الستار الباسل رئيس قبيلة الرماح بالفيوم،الرجل المتعلم العصري الذي يجيد اللغات الأجنبية،والمعروف بشهامته وإنسانيته،وهو فوق ذلك ثري من أكبر الأثرياء،وسري من سراة مصر،ووقف الوالد الشفيق لحظة،أحقا يمكن أن يزوّج ملك؟". وبعد أن استوثق الوالد من صديقه عن حالة العريس، فقال له إن عبد الستار "عريس" ممتاز،وطرح الرجل عدة فضائل لذلك العريس الممتاز،ولم يجد الوالد أي حجة لرفض تلك الزيجة لابنته، وهي التي كانت خاصته وحبيبته،وهنا يقول شقيقها مجد في كتابه "تحرير المرأة في الإسلام"،والذي صدرت طبعته الوحيدة عام 1924: (ومن الغريب أن أبانا كان يميل إلي" تدليعها" قليلا،ولكنها كانت باستمرار بسيطة الملبس، قليلة الطلبات الخاصة علي غير عهدي بالفتيات،ولم يكن ذلك عن تكلف فقد بقيت طنافس حفلة العرس وتحفة لم تمسسها حتي توفيت". لا يوجد أي شك في أن ملك حفني ناصف،كانت ذات تكوين خاص جدا،وهذا لأنها سليلة بيت ثقافي عريق، وكان لها والد ليس عاديا، وبالتالي فأخذت عن ذلك البيت بضع صفات فاضلة،تلك الصفات التي ميّزتها عن بنات جيلها، وهي كانت علي كثرة صواحباتها كما يقول شقيقها مجد من الطبقة العليا،تتأذي في بعض العادات وتفضّل الاختلاط بالطبقة الوسطي،وتحنّ إلي الطبقة الدنيا،وطالما أعالت منهن معوزة أو عالجت مريضة أو أقالت عثرة بما كانت تعطي من خبز أو ري أو مال،وكانت عذبة الحديث،حلوة العشرة،تخاطب كل شخص علي قدر عقليته... ومن الطبيعي أن تتأثر ملك بالآراء التي كان يعتنقها الوالد، وينتصر لها، ويقول مجد في كتابه المبكر:"يري المرحومان والدي وشقيقتي رأينا إعطاء الفتاة حريتها التامة في الموافقة علي اختيار الزوج لأنه هو وحده الذي سيشاركها حياتها،ويريان التريث في الاختيار حتي يختار المرء لنفسهزوجا يلائمه في الطبع والعقلية ووجهة النظر في معني الحياة". وللأسف كل ماقاله عبد الستار الباسل عن نفسه،عندما تقدّم للزواج من ملك، كان كاذبا، فهو قد زعم أنه ليس متزوجا، وليس له أبناء، ولكن عندما ذهبت ملك إلي بيت الزوجية، اكتشفت كذب كل المعلومات التي أطلقها الباسل عن نفسه، ووجدت نفسها تعامل علي أنها الزوجة الثانية،وبكل الأعراف والتقاليد التي تحاط بها الزوجة الثانية، وكأنها دخيلة علي الزوجة الأولي،والمطلوب منها أن تعلّم ابنة له، رغم زعمه قبل الزواج أنه ليس عنده بنات علي وجه الإطلاق. هنا كانت الفجيعة والحسرة،وكذلك الخذلان الذي ووجهت به ملك، فلم تجد سوي الكتابة،ومواجهة كل ذلك بالمقاومة،والدفاع عن حقوق المرأة وتعليمها وتربيتها تربية قويمة، تربية توفر لها قدرا من الوعي، ورغم أن سلامة موسي زعم أنها لم تترك أثرا في الحركة النسائية،ولم تستطع أن تنشئ تيارا مقاوما للخزعبلات الكثيرة التي كانت تحيط بالمرأة،إلا أن ذلك كان غير صحيح، فالحوارات التي أدارتها ملك في المجتمع لم تكن هامشية،بل كانت في متن عملية تطور الوعي النسائي،بل أكثر من ذلك، فإنها الرائدة الحقيقية قبل هدي شعراوي التي تركت أفكارا وبعض المبادئ، يختلف أو يتفق حولها الناس، رغم رحيلها المبكر مرضا وحسرة وكمدا،وهي لم تتجاوز الثانية والثلاثين من عمرها،وذلك إثر مرضها الطويل بالحي الإسبانيولية. وكانت تري أنه لو توافرت للمرأة ما يتوافر للرجل، لكانت سبقته في كل مجالات العلم والأدب والثقافة، وهي طرحت ذلك في كتابها المبكر "النسائيات"،تقول ملك مخاطبة بنات جنسها :"يقول الرجال لنا ويجزمون إنكن خلقتن للبيت ونحن خلقنا لجلب العيش،فليت شعري أي فرمان صدر بذلك من عند الله،إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا لما عيرونا بأننا قليلا النبوغ،وأنه لم يسمع أن إحدانا غيّرت قاعدة في الحساب أو الهندسة مثلا،وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه هو من تلك القواعد،نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم،ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومبس لما تعذر عليّ أنا أيضا أن أكتشف أمريكا". كان هذا الكلام تقوله ملك في مستهل القرن العشرين،وقبل أن تهبّ نسائم ثورة 1919،تلك الثورة التي أنبتت لهدي شعراوي ورفيقاتها صوتا مدوّيا،إذن فكانت ملك حفني ناصف،والتي أسمت نفسها "باحثة البادية" هي التي أطلقت الشرارة الأولي،والأكثر سطوعا، ربما أكثر من قاسم أمين، لأن قاسم أمين لم يكن عصره قادرا علي استيعاب مادته المتقدمة،رغم تقارب المرحلتين، فهو قد رحل عام 1908، وهي رحلت بعده بعشر سنوات أي عام 1918، ولكن أطروحات قاسم أمين كانت متقدمة إلي حدكبير عن عامة الناس، ولكن ملك حفني ناصف، والتي حاورته في بعض الآراء التي أطلقها قاسم،وناقشته في بعض ماطرح. وكانت كتابات ملك تتسم بالبساطة، رغم صعوبة التعبير في ذلك،وحداثته بالنسبة للمرأة، ولكنها كانت تكتب بروح أدبية عالية، وترسل ماتكتبه وكأنه نوع من القصص، ففي مقال لها عنوانه :"خذوا حذركم أيها الرجال "، تقول :"تريثت ولم أكتب في نسائياتي ولست بالناسية عهدها،مرّت عليّ تباعا مرّ الطيف فلم تترك بنفسي أثرا لتجانسها وتكرارها،وكأني من عالم غير هذا العالم،فأنا أطل علي مايجري فيه أطلال الرائين علي صور الممثلين،أستغفر الله فقد ينفعل الشاخصون لمشهد المشخصين ولكني لما يسأل المتنبي صاحبيه : أصخرة أنا، مالي لا تحركني هذي المدام ولا تلك الأغاريد لا أكاد أهتم لحادثة عادية من زواج وطلاق وبيع وشراء وموت وإنجاب وخصب وإمحال،فإني أراها من لوازم الكون لا تبطل حركتها مادام وهي -كالحلقة المفرغة لا يدري أحد أين طرفاها-،ولا يخلو منها يوم من الأيام. وإذا كانت ملك لا تهتم بكل ذلك،ولا تشغل نفسها بالزواج والطلاق والبيع والشراء، إذن ما الذي كان يشغلها ؟ الجواب في قصة سردتها ملك في ذلك المقال، وهي علي هيئة رسالة جاءتها من سيدة ولا تدري من هي، وتنشر ملك الرسالة،والتي تقطر حزنا علي أوضاع النساء في ذلك العصر، والطريف في الأمر أن ملك حفني تورد المقال علي دفعات سردية،مما يترك أثرا بالغا عند قارئه، بدلا من اللغة الجافة التي كانت تسود في ذلك العصر المبكر. والذي يتصفح كتاب "النسائيات" لملك، سيلاحظ أنها تشتبك مع جميع الأفكار التي كانت تمور في ذلك العصر، وهي التي تتعلق بالتربية والتعليم والقراءة والرياضة البدنية،وبالطبع السفور والحجاب، وكذلك جمال السيدات،والزينة، وكانت ملك لا ترسل أفكارها في الهواء الطلق،ولكنها كانت تشتبك في حوارات مع أعلام عصرها، مثل مي زيادة،ونبوية موسي،وأحمد لطفي السيد وغيرهم من الرجال والنساء. وهي تكتب في سخرية،تبدو وكأنها جادة، فتقول في مقال عن "المرأة والحجاب":"يعجبني اهتمام الرجال بأمرنا وأمر أمتهم،ولكني أعلم أننا لا نكاد نشعر بحاجاتهم ولا نتنبأ بما بين أضلعهم، فكيف بهم يبتون في مسألتنا الخاصة بت من شعر بالداء وعرف الدواء؟!". وهي بالطبع لا تهاب الحوارات والاشتباكات مع الرجال، وتقول في ذلك السياق :"أنا أحترم رأي مخالفيّ وإن كنت لا أعضده،وعلي هذا المبدأ جئت أناقش حضرات الكاتبين في موضوع الحجاب ". وأنا هنا لا أريد أن أشرح ماقالته ملك في ذلك الشأن أو غيره، ولكنني مشغول بأن ملك حفني ناصف، كانت هي السيدة الرائدة التي طرحت عدة موضوعات علي بساط البحث والمقاومة، مناقشة في ذلك أكبر أعلام ذلك العصر، رغم صغر سنها في ذلك،ورغم أنها امرأة تقاوم ترسانة من الأعراف والتقاليد واللوائح التي كانت كفيلة بتحطيم جميع عظامها في ذلك العهد المبكر من تطور الحركة الفكرية والأدبية والسياسية والنسائية. إن ماتعرضت له ملك حفني ناصف، صاحبة الحوارات المثيرة،والأفكار النسوية الأولي، كان أكبر من طاقتها بكثير، في ظل واقع كان يجعل من المرأة متاعا للرجل، وملكا للسلطة السياسية والذكورية علي حد سواء، لذلك لم يكن مرضها المبكر،إلا الامتداد الطبيعي لتلك المجاهدة العنيفة بينها وبين أصنام ذلك العصر،مؤتزرة بحفنة قليلة من أعلام الاستنارة والعلم والتقدم. ولم تكن ملك تصمت عن بعض ما يبدو لها خللا في المجتمع وتنتقده بسخرية مريرة، تقول في إحدي مقالاتها :"زرت سيدة ممن ابتلين بهذا الزوج القاسي،وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبا منا،وبناتها الشابات يضحكن،وإذا بهن فجأة سكتن، وارتبكت أمهن وغارت أعينهن وعلاهنّ الاصفرار،وقامت إحداهن تهرول إلي الصغار لتسكتهن،والثانية تتسمع علي السلم والأخري تري ماذا يمكنها تراتيبه في حجرة والدها..تعجبت من هذه الحركة الفجائية وسألت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسا : "إن البك ربما يكون قد حضر "، فقلت في نفسي إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك، فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن إنه قد والله حضر؟". وعلي بساطة هذه الكلمات، وعاديتها بالنسبة لنا الآن،إلا أنها كانت تشكّل احتجاجا كبيرا علي نواميس العصر القديم،وتمردا علي أوضاع ثابتة، جاءت ملك لتشكك في جدواها، والعصيان عليها،مما يشكّل دعاوي واسعة لكي تعتنقها نساء ذلك العصر،وهذا ماحدث بالفعل، فتمردت المرأة، واعتنقت كثيرات الأفكار التي كانت تطلقها وتكتبها وترسلها ملك في الجمعيات التي كانت متاحة في ذلك الوقت. تحملت ملك مالم تتحمله امرأة في زمانها، فمرضت لفشلها في زواجها،وكانت حريصة كل الحرص علي ألا يعلم الناس بأمر ذلك الفشل، حتي أن قبض علي شقيقها مجد كما تروي القلماوي بتهمة تهريب ضابط سجين ويجاهد لمصر، فلم يطق القلب الرحيم سماع الخبر،حتي عادت وحدها من باديتها إلي القاهرة في القطار محمومة لتطمئن علي الأخ الأصغر..وصلت إلي بيت الأسرة،فاستقبلها الأخ ففرحت،ولكن آلام المرض اشتدت بسبب إعياء الرحلة وإجهاد النفس وتوتر الأعصاب، وظلت ثلاثة أيام تعاني من الهذيان،ومن الحمي التي عرف بها الأقربون لها، حتي رحلت، بعد أن تركت صوتها الأعلي في كتاباتها وأشعارها، كتابات ترفع قدرها إلي أعلي دائما في قضية المرأة، رغم أن رحيلها كان مبكرا، ولم يكن بسبب زيارتها لأخيها، أو هلعها عليه، ولكن كانت حياتها سلسلة من المتاعب والآلام التي أودت بها، ولكن يظل صوتها أبدا مرفوعا في ساحات الحريات والعدالة الاجتماعية،كواحدة من الرائدات الأوائل في القضية المرفوعة منذ قرون،ألا وهي قضية حرية المرأة.