وأنا أكتب هذه المقالة فى العيد المئوى الأول لميلاد مجلة روزاليوسف، لا أعرف من أين أبدأ، ولا أعرف كيف أنتهى، لأن روزاليوسف ليست مجلة كغيرها من المجلات، وإنما هى وجه مشرق من وجوه النهضة المصرية الحديثة، ومنبر عالٍ من منابرها العالية. مائة عام من الإبداع الفنى، والنضال السياسى، والدفاع عن الحق، والعقل، والحرية. يوم صدرت روزاليوسف كان المصريون يجنون ثمار ثورتهم، ثورة 1919 طبعا، فى كل المجالات. فى السياسة، والثقافة، والمجتمع، والاقتصاد. تصريح 1920 الذى اعترف لمصر بحقها فى الاستقلال، ودستور 1923 وبرلمان 1924، وفى العام الذى صدر فيه العدد الأول من روزاليوسف صدر مرسوم بإنشاء الجامعة المصرية- جامعة القاهرة. وفى هذا العام بدأ طه حسين محاضراته فى الجامعة عن الشعر الجاهلى. وفى العام التالى أصدر هذه المحاضرات فى كتاب أثار عليه ثائرة الأزهريين الذين اتهموه بالطعن فى القرآن، فقُدم للنيابة التى حققت معه ورأت أن العبارات التى اعترض عليها الأزهر إنما أوردها المؤلف فى سبيل البحث العلمى، وأن القصد الجنائى غير متوافر، فحفظت الأوراق.
وهنا نلفت نظر القارئ العزيز إلى ما كانت عليه حرية التفكير فى عشرينيات القرن الماضى ليقارن بينها وبين ما صارت إليه.
ونعود إلى الأيام التى ظهرت فيها المجلة وما شهدته من أحداث وإنجازات فنجد كتاب الشيخ على عبدالرازق «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدر هو أيضًا فى عام 1925، وفيه أوضح مؤلفه أن الإسلام دين، وليس سياسة.
وأن الخلافة لا علاقة لها بالدين. فقُدم للمحاكمة أمام هيئة كبار علماء الأزهر التى أرادت بالتآمر مع الملك فؤاد والملتفين حوله أن تنقل الخلافة إلى مصر بعد سقوطها فى تركيا على يد أتاتورك، وأن تتحول الدولة المدنية بعد قيامها بعامين اثنين إلى دولة دينية كما كانت فى أيام العثمانيين، وأن يصبح الملك فؤاد خليفة فيحل فى الزعامة محل سعد زغلول، ويوقف العمل بالدستور والقوانين الوضعية، ويعصف بكل ما ربحناه من الثورة التى انتقلت بها مصر من حال إلى حال آخر.
وهذا ما تصدى له المصريون ومنهم على عبدالرازق فى كتابه، فحاكمته الهيئة وحكمت بتجريده من شهادته التى حصل عليها من الأزهر، وعدم أهليته لأى وظيفة عمومية. لكن المصريين وقفوا مع الدولة المدنية ومع سعد زغلول فلم تنجح المؤامرة التى تبناها بعد سقوطها حسن البنا وشكل جماعته لإسقاط الدولة المدنية وإحياء الدولة الدينية، وهذا ما تصدى له المصريون من جديد فأسقطوا حكم الإخوان فى الثلاثين من يونيو.
ونعود من جديد إلى عام 1925 الذى ظهرت فيه روزاليوسف فنرى كيف نجحت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة وأصبحت حقيقة واقعة فى «الاتحاد النسائى المصرى» الذى أسسته هدى شعراوى فى ذلك العام. وفى تلك السنوات أسس طلعت حرب «بنك مصر» برأسمال وطنى خالص، وخبرة وطنية خالصة. ومع ريادته للنهضة الصناعية والاقتصادية شارك طلعت حرب فى النهضة الثقافية فأسس شركات للطباعة، والتمثيل، والسينما، وأنشأ استديو مصر. وكان يشرف أيضا على فرقة عبدالله عكاشة المسرحية ويمولها.
وروزاليوسف- السيدة- التى أصدرت المجلة بدأت حياتها الحافلة المتألقة وهى طفلة لا تملك أى شيء، بل وفقدت ما وهبته لها الطبيعة. وأنا هنا لا أبالغ بحرف واحد.
طفلة ولدت فى لبنان، وفقدت أباها وأمها، فتبنتها إحدى الأسر حتى بلغت العاشرة، ثم رحلت مع صديق لهذه الأسرة كان فى طريقه إلى أمريكا مهاجرا.
وفى الطريق رست السفينة فى الإسكندرية فوجدت هذه الطفلة نفسها تغافل الرجل الذى رحلت معه وتنزل إلى الشاطئ وتشدها المدينة فتواصل السير وهى لا تملك إلا غربتها، وطفولتها، ويتمها، وخلو جيبها ويدها من كل ما يمكن أن تسد به رمقها أو تتشجع به على مواصلة السير فى هذا العالم الذى تراه لأول مرة. وهكذا أمضت سنوات من عمرها حتى التقت بالمخرج المسرحى عزيز عيد الذى لمح فى وجهها ونظرتها موهبة كامنة فأسند لها بعض الأدوار الثانوية فى مسرحياته. ثم تقفز قفزة عبقرية لتؤدى أدوار البطولة فى مسرح رمسيس مع يوسف وهبى وتصبح «سارة برنار الشرق» بشهادة كبار النقاد والكتاب، ومنهم محمود تيمور الذى يقول عنها فى كتابه «طلائع المسرح العربى»: وفى مسرح رمسيس سطعت مواهب روزاليوسف حتى ظفرت بلقب الممثلة الأولى فى تلك الحقبة. وهذه الفنانة نشأت تلميذة لعزيز عيد وأفادت من توجيهه وتخريجه، إلا أنها استقلت عنه فيما بعد، ودعمت شخصيتها بنفسها، وجاوزت مواقف الملهاة والفورفيل فى مثل رواية «خللى بالك من إميلى» إلى مواقف المسلاة العصرية «الكوميدى» فى مثل رواية «غادة الكاميليا»، وفيها وفقت توفيقا عزيز المنال».
غير أن روزاليوسف اختلفت مع يوسف وهبى صاحب الفرقة فقررت وهى فى قمة نجاحها اعتزال التمثيل لتؤسس المجلة الأسبوعية التى كانت فى بدايتها مجلة فنية تهتم بالمسرح تأليفا وتمثيلا وإخراجا بالإضافة إلى صفحات فى الأدب العربى والأجنبى. وكان يشارك فى تحرير المجلة آنذاك محمد التابعى، وزكى طليمات، وأحمد رامى.
لكن النجاح النسبى الذى حققته «روزاليوسف» فى تلك المرحلة التى كانت فيها مجلة فنية لم يقنع صاحبتها التى كان من الطبيعى فى ذلك الوقت أن تشدها بأحداثها المتلاحقة، وبما كانت تثيره من المشاعر الوطنية الفياضة وتطرحه من القضايا على الملايين التى ثارت مع سعد زغلول وظلت معه وهو فى الوطن وفى المنفى يصارع المحتلين هنا وهناك، ويطلب الاستقلال لمصر والديمقراطية للمصريين.
وكانت روزاليوسف مفتونة بسعد زغلول وبخطبه الرائعة التى تتحدث عنها فى ذكرياتها فتقول: «كان سعد صاحب أجمل صوت بين أصوات الخطباء، صوت يهدر كالرعد، ويعصف كالريح، ويهدأ كالموج المتكسر الصغير.. وطريقته فى الإلقاء تعطى الكلمات- نفس الكلمات- رنينا أخاذا ومعانى جديدة.
وكان كل الناس مثل الفنانة الناشئة - هكذا تقول عن نفسها - فى هذه المشاعر يحبون سعدًا بلا رهبة، ولا خوف، ولا نفاق»، وبهذه الروح التى تعانق فيها الفن والوطن تحولت مجلة «روزاليوسف إلى مجلة سياسية» يحررها ويرسمها ويخرجها عدد من أفضل كتاب العصر وفنانيه منهم محمد التابعى، ومحمود عزمى، وكامل الشناوى، ويوسف حلمى، والعقاد فى الصحيفة اليومية التى أصدرتها روزاليوسف بالاسم ذاته، ومصطفى أمين، وعلى أمين، والرسام صاروخان.
ومنذ أصبحت روزاليوسف مجلة سياسية أصبحت طرفا أساسيا فى كل المعارك التى اشتعلت دفاعًا عن الدستور وعن الحرية بصورة عامة، وكانت هى البادئة، خاصة فى السنوات التى أوقف فيها العمل بدستور 1923 وحل محله دستور هجين يعطى الملك أكثر مما يعطى الشعب. ومن الطبيعى أن تتعرض روزاليوسف فى تلك المرحلة للمصادرة، وتتعرض صاحبتها للمحاكمة وحتى للسجن، لكنها ظلت دائما فى موقعها تدافع عن الدستور والحرية.
وفى هذا تقول فى ذكرياتها وهى تفسر المكانة التى احتلتها المجلة وجعلتها مدرسة «تلمع فيها الأقلام الشابة» وتتخرج منها الوجوه الجديدة الناجحة. وحين أفكر فى السبب الذى أضفى على روزاليوسف هذه الصفة البارزة لا أجد سببا أقوى من الحرية.
نعم، هى مدرسة، وهى أسرة من الكتاب والمحررين والرسامين الذين تراهم متشابهين أو متقاربين فى الفكر وحتى فى السلوك كأنهم تربوا معا منذ طفولتهم، وظهروا معا، وأصبحوا بالفعل أسرة واحدة، وكما تجدهم فى الدار التى يعملون فيها تجدهم خارجها فى مقهى ريش، أو فى فندق رمسيس فى مبناه القديم، كوكبة رائعة من الكتاب والفنانين يتقدمهم إحسان عبدالقدوس، وأحمد بهاء الدين، ومحمود أمين العالم، وكامل زهيرى، وأحمد عباس صالح من الكتاب. ومن الفنانين أبوالعينين، وحسن فؤاد، وجمال كامل، وصلاح جاهين، وهنا، وبالتحديد بعد أن أصدرت روزاليوسف مجلتها الجديدة «صباح الخير» وجدت نفسى أعمل مع هؤلاء، وهكذا قدر لى أن أرى هذه السيدة المعجزة فاطمة اليوسف التى اشتهرت بالاسم الذى نعرفه روزاليوسف.
كان ذلك حين التحقت بالعمل فى مجلة «صباح الخير» التى صدرت فى أوائل عام 1956 وفى ذلك الوقت، كانت الدار لا تزال تحتل منزلا مؤلفا من طابقين فى شارع محمد سعيد باشا الذى تغير اسمه فأصبح حسين حجازى، وهو يوازى شارع مجلس النواب، ويتقاطع مع شارع قصر العينى، وكانت المطبعة تحتل فيه الطابق الأرضى، والتحرير والإدارة فى الطابق الذى يليه، وفى إحدى غرف هذا الطابق كان مكتبى مع مكتب صلاح جاهين وصلاح عبدالصبور، وذات يوم كنت خارج المكتب فرأيت السيدة الجليلة تتقدم لتدخل مكتبها. وكانت مصادفة لا أذكر أنها تكررت، وكنت فى حوالى الحادية والعشرين من عمرى أبدأ حياتى فى الصحافة بعد أن حرمت من العمل فى التدريس فكان عملى فى روزاليوسف تعويضا عن هذا الحرمان أو مكافأة فتحت أمامى هذا الطريق الذى مازلت أواصل السير فيه إلى اليوم. وهذه قصة طويلة توالت أحداثها. فى روزاليوسف التى ظللت أعمل فيها حتى رحلت إلى باريس فى أوائل العام 1974 لأعمل بتدريس الأدب العربى فى إحدى جامعاتها، ثم أعود لمصر فى عام 1989 لأكتب للأهرام، ولأجد مكتبى حيث كان مكتب الأستاذ إحسان فى الأعوام الأخيرة التى قضاها يكتب للصحيفة الغراء.
وكما وجدت نفسى فى أول المقالة لا أعرف من أين أبدأ، أجد نفسى الآن لا أعرف كيف أنتهى. لكنى أعرف جيدا أنى أدين بالكثير لروزاليوسف التى ستظل فى الأعوام المائة القادمة، كما كانت فى المائة التى مضت، مدرسة متفردة للإبداع، ومنبرا عاليًا للحرية.