سعر الذهب اليوم الخميس23-10-2025.. عيار 21 يسجل 5600 جنيه للجرام    محافظ الجيزة يتفقد مشروعات جهاز تشغيل الشباب ويؤكد مراعاة النسق الحضارى    لماذا عاقبت أوروبا أستاذ الاقتصاد الروسى نيكيتا أنيسيموف ؟ اعرف الحكاية    بول سكولز يصعّد هجومه ضد محمد صلاح بعد أزمة ليفربول    الصحة الفلسطينية: ارتفاع حصيلة العدوان على قطاع غزة إلى 68280    انطلاق معسكر الحكام ببورسعيد استعدادا لكأس الرابطة    محافظ بني سويف يتفقد أعمال المرحلة الثانية بنادي سيتي كلوب ويشيد بالمنشآت.. صور    لاعبو الاهلي يتضامنون مع طفل يستعد لعملية زرع نخاع.. صور    غلق كلي لمحور 26 يوليو أمام جامعة مصر الجمعة بسبب أعمال المونوريل    100 عام من معارك التنوير    مدير مركز بروكسل للبحوث للحياة اليوم: إسرائيل الخاسر الأكبر من نجاح القمة المصرية الأوروبية    القاهرة الإخبارية: واشنطن مصمّمة على ضمان تنفيذ وقف إطلاق النار فى غزة    هل تأخير صلاة الفجر عن وقتها حرام؟.. أمين الفتوى يجيب    انطلاق حملة توعوية لدعم الصحة النفسية بين طلاب المعاهد الأزهرية فى سوهاج    إضافة المواليد إلى بطاقات التموين ل 5 فئات.. تعرف عليها    الرقابة المالية تلزم الشركات والجهات العاملة في الأنشطة المالية غير المصرفية بتعزيز بنيتها التكنولوجية والأمن السيبراني لديها    الزمالك يتقدم بشكوى ضد أسامة حسني للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام    25 فرقة مصرية وأجنبية تشارك في اليوبيل الفضي لمهرجان الإسماعيلية    محافظ الإسكندرية يتفقد اصطفاف معدات مجابهة الأزمات استعدادًا لموسم الشتاء    وكيل تعليم بالغربية: تعزيز التفاعل الإيجابي داخل الفصول مع الطلاب    انفجار داخل مصنع وسط روسيا يسقط 10 قتلى    افتتاح «كنوز الفراعنة» في روما أبرز المعارض الأثرية المصرية في أوروبا    حنان مطاوع تكشف شعورها بعد ترشح فيلمها «هابي بيرث داي» ل الأوسكار    «إكسترا نيوز»: ما يدخل غزة لا يزال نقطة في محيط الاحتياج الإنساني| فيديو    حكم نهائي.. استبعاد هيثم الحريري من انتخابات مجلس النواب بسبب موقفه التجنيدي    تمارين مثبتة علميا تساعد على زيادة طول الأطفال وتحفيز نموهم    معجنات الجبن والخضار.. وصفة مثالية لوجبة خفيفة تجمع بين الطعم وسهولة التحضير    وزارة التضامن تحدد آخر موعد للتقديم في حج الجمعيات الأهلية 2026    الأنبا إبرهام: الوحدة المسيحية تحتاج إلى تواضع وحوار ومحبة حقيقية    أندية وادي دجلة تحصل على التصنيف الفضي في تقييم الاتحاد المصري للتنس    التشكيل الرسمي لمنتخب مصر للسيدات أمام غانا في تصفيات أمم إفريقيا    محافظ كفر الشيخ: تسهيلات غير مسبوقة للجادين وإزالة معوقات التقنين لتسهيل الإجراءات    رسمياً.. الاتحاد يشكو حكم مباراته ضد الأهلي    باعتراف صحيفة صهيونية..جيش الاحتلال فشل فى تحرير الأسرى بالقوة العسكرية    النفط يقفز 3% بعد العقوبات الأمريكية على شركات نفط روسيا    نادي الصحفيين يستضيف مائدة مستديرة إعلامية حول بطولة كأس العرب 2025    حكم الشرع في خص الوالد أحد أولاده بالهبة دون إخوته    بيتصرفوا على طبيعتهم.. 5 أبراج عفوية لا تعرف التصنع    العثور على جثة «مجهول الهوية» على قضبان السكة الحديد بالمنوفية    ب«لافتات ومؤتمرات».. بدء الدعاية الانتخابية لمرشحي مجلس النواب في الوادي الجديد (تفاصيل)    فاليري ماكورماك: مصر مثال عظيم في مكافحة السرطان والتحكم في الأمراض المزمنة    الداعية مصطفى حسنى لطلاب جامعة القاهرة: التعرف على الدين رحلة لا تنتهى    رفع 3209 حالة اشغال متنوعة وغلق وتشميع 8 مقاهي مخالفة بالمريوطية    السادة الأفاضل.. انتصار: الفيلم أحلى مما توقعته ولا أخشى البطولة الجماعية    البنك الأهلي يحصد شهادة التوافق لإدارة وتشغيل مركز بيانات برج العرب من معهد «Uptime»    وزارة الدفاع الروسية: إسقاط 139 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    نقابة السجون الفرنسية تندد بوجود ضباط مسلحين لحراسة ساركوزي داخل السجن    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-10-2025 في محافظة الأقصر    الجيش الثالث الميداني يفتتح مزار النقطة الحصينة بعيون موسى بعد انتهاء أعمال تطويره    مستشار رئيس الجمهورية ومحافظ أسوان يشيدان بمستوى التجهيزات التعليمية والخدمات المقدمة للطلاب    حجز الحكم على البلوجر علياء قمرون بتهمة خدش الحياء العام ل29 أكتوبر    رانيا يوسف تكشف الفرق الحقيقي في العمر بينها وبين زوجها: مش عارفة جابوا الأرقام دي منين!    الصحة توقع مذكرة تفاهم مع الجمعية المصرية لأمراض القلب لتعزيز الاستجابة السريعة لحالات توقف القلب المفاجئ    تموين قنا يضبط محطة وقود تصرفت فى 11 ألف لتر بنزين للبيع فى السوق السوداء    كنت بقلد فيلم أجنبي.. طفل المنشار بالإسماعيلية: أبويا لما شاف المنظر تحت السرير بلغ الشرطة    ما حكم بيع وشراء العملات والحسابات داخل الألعاب الإلكترونية؟ دار الإفتاء تجيب    شبكة العباءات السوداء.. تطبيق "مساج" يفضح أكبر خدعة أخلاقية على الإنترنت    سعر اليورو مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 23 أكتوبر 2025 في البنوك المحلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين تستشهد، أيضاً، الكلمات..
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2016

لم احس بفخر أبداً أني اكتب القصة القصيرة، لا شيء من ذلك برأيي كان يدعو إلي الفخر وأيضا لا شيء يدعو إلي الاحساس بالعار. هي جزء من وجودي أو وجودي، لا ذنب لي فيه ولست صانعه.
المتعة أحسست بها ، هذا صحيح، الرغبة في الكمال، ضياع الثقة بالنفس، استعادة الثقة، كل هذه وغيرها أحسست بها. والغريب أن المرتين كانتا تتعلقان بغسان كنفاني.
الأولي حين استشهد علي تلك الصورة المروعة. وكان استشهاده النهاية القمة لحياة كاتب يمت إلي هذا العصر وإلي هذا الشعب وإلي قضية مثل قضيته.حياة جديدة لكاتب جديد، غسان، بدأ منذ الخمسينيات يحتل ساحة الأدب العربي وينقل الكاتب والكتابة العربية من حيث كانت وكان، دائماً علي الهامش،إلي حيث أصبح وأصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من عظم الوجود العربي ولحمه ونخاعه.
دهور طويلة ودهور، وفقهاء الأدب وكهانه يعلموننا عن الأدب كل ما لا يجب أن نتعلم،حتي في مطلع القرن حين اعتبروه فناً وشيئاً غير البلاغة واللغة، ظلوا سالخينه عن الحياة والاحياء، عن الكفاح والسياسة، عن العلم والاقتصاد والتاريخ، عن الثورة. ظل أيضا واحداً من (الفنون الجميلة) والأقوال الجميلة والنظم الجميل. غرقنا في بحور من الجدل عما هو فن وما هو غير فن، ما هو شكل وما هو مضمون، عن الكاتب الذي عليه كي يخلد أن يختار مواضيع خالدة وحبذا لو كانت عن الحق والخير والجمال. والمثل حاضر دائماً: أمامك شكسبير، أمامك راسين، أمامك بوشكين وجوجول وادجار ألن بو. قتلونا مفهومات ونظريات ونقدا جديدا، نقدا جديدا قديما، ونقدا للنقد، ومنهجا موضوعيا ونفسيا وفرويديا للنقد. هكذا، كما تاهت كلمة الاشتراكية في خضم ما أغرقنا به من كتب ونظريات وشروح وفلسفات، بحيث رغم أكثر من ربع قرن من حديث دائب دائم عن الاشتراكية وتأليف وترجمة وتآليف مترجم عنها، لايزال المواطن القاريء العادي لا يستطيع إلي الآن أن يعرف الاشتراكية بجملة واحدة مفيدة، نفس المواطن الذي من الممكن أن يحدثك ساعة بأكملها عن الفابيين وتعاونيات (اوجين).
هكذا أيضا تاهت كلمة الفن، ومن باب أولي فن الكتابة.
من هو الكاتب؟ اسأل، واظفر بألف اجابة، ولكنك ابداً لن تظفر بالاجابة الوحيدة الصحيحة.
الكتابة قضية، والكاتب انسان صاحب قضية يؤمن بها ويتبناها إلي حد يحشد فيه كل ما يمتلك من حساسية لاستيعابها، وكل ما يمتلك من قدرة للتعبير عن احساسه ذاك ليعبر عنها بألف لون ونوع من التعبير.
حتي شكسبير الذي يضرب به المثل في خلود الكتابة حين تبتعد عن السياسة وعن المشاكل اليومية وعن حاضر الإنسان الملح. لم يصبح شكسبير إلا لأنه كان عكس ذلك تماماً. فآخر ما كان يفكر فيه الرجل أن يخلد أو يتناول المواضيع الخالدة، إذا كان همه الآجل من كل عمل مسرحي يكتبه هو الوضع في انجلترا في ذلك الوقت بالذات. وإذا كان يلجأ للتاريخ فقد كان يفعل ليتحدث من خلاله عن الحاضر.كان شكسبير ثائراً علي طبقة انجلترا الحاكمة،ولكنها تلك الثورة العميقة الذكية المستمرة. ما من عمل من أعماله إلا ومن خلاله كان يتناول شريحة أو شخصية أو مأخذا لهذه الطبقة وببراعة فائقة يدينه ويكشفه ويحلله ويصنع في مقابل النماذج المنفسخة، ذلك البطل الجديد.إن مأساة مثل مأساة (عطيل) نفسها لا أظن مطلقاً أن دافع شكسبيرلكتابتها كان أن يجسد غيرة عطيل الحمقاء وحسن نواياه التي تصل إلي السذاجة، أو يمجد استشهاد ديدمونة. إن التعليل الأصدق والأبسط أنه كتب هذه المأساة ليري جمهوره من خلالها نموذج الشر الغريب المتمثل في (ياجو).
وليسقط جمهوره شخص عطيل علي نموذجها الحي المقابل. تماماً مثلما يكتب أي مسرحي عملاً مسرحياً معاصراً يجسد فيه دور المخابرات في الدول الحديثة من إلصاق التهم بالأبرياء، ودفع الحاكم للإطاحة بهذا أو بذاك بناء علي المعلومات التي قدمتها مخابراته أو الادلة المزورة التي وضعتها نصب عينيه.
وفي الماضي كان أشخاص بمفردهم هم الذين يقومون بدور الأجهزة، أشخاص مثل (ياجو)في مسرحية عطيل. وربمامن أجل هذا السبب كتبها شكسبير، فحجر الزاوية في المسرحية ليس الغيرة، حجر الزاوية الأساسي هو العلاقة الغريبة بين (عطيل) و(ياجو) علاقة الهمس الشرير في اذن الغضوب القوي حسن النية.
بيكاسو لم يصبح بيكاسو لأنه تكعيبي أو زرقاوي أو تجريدي، لبيكاسو قضية، هي شعب أسبانيا، وفي واعيته ولا واعيته وجوه مغضنة بالشقاء والألم والمأساة. إن تشابك الوجه الأسباني بمأساته من كثرة ما ألح هذا التشابك وألح علي وجدان شديد الحماس شديد الحساسية شديد التأثر بالعلاقات والأشكال، ولد بيكاسو، ولايزال، كفنان، حياً، لأنه، كفنان لا يزال يحيا قضيته.
بل ان قيمة الكاتب الفنية أيضا تستمد كمها وكيفها من القضية، بمقدار صدقه تكون قيمته، بمقدار دأبه الملح علي الصدق وسبر أغوار الحقائق للوصول إلي حقيقة الحقائق، بمقدار عمق الإيمان يكون عمق الموهبة. الأصالة هي من أصالة قضيتك والعبقرية هي أن تصل بإيمانك وبتعبيرك عن هذا الإيمان حداً لا يصله غيرك، لن تجد عبقرياً واحداً إلا وهو مؤمن ومهووس الإيمان بقضية إلي حد يعجز.
أحسست لأول مرة في حياتي بفخر أني كاتب من كتاب القصة العربية القصيرة حين استشهد غسان كنفاني، فبحياته حين انتهت هكذا، انتقل من حيث الكتاب إلي حيث الأبطال وكان أول كاتب قصة يفعل هذا، بل، بالأدق أول كاتب في كل تاريخ أدبنا العربي يعيش قضيته إلي حد الشهادة، أحسست بفخر أني انتمي لغسان وأنه من نفس جيلي وأن تاريخ الكتابة العربية، الكتابة وليس صنعة الكتابة، سيبدأ هنا. صفحة جديدة تنهي تاريخاً طويلاً من العيش ذلاً، وقضاء العمر في خدمة السلطان، كل سلطان، بل أحيانا في خدمة من هم في خدمة السلطان. ذلاً يعيشون، وما أذل ما يكتبون، لألف وخمسمائة عام وأكثر وهم يقتلون الأدب كتابة ويخنقون، جيلاً وراء جيل، قدرة الخلق عند الرواد الجدد. تاريخ طويل ملأوا به نصف دار الكتب مخطوطات كثيرة ليس في 99٪ منها فكرة واحدة أصيلة أو خارجة عن المألوف، ولأنهم طلاب دنانير، والخلفاء يجازون بحجم الكتاب فلتتضخم الكتب وتتعدد أجزاؤها، وليس في صفحة واحدة منها كلمة واحدة أفادت الناس في عصرهم أو فيما تلا هذا من عصور. لولا قلة قليلة كابن سينا وابن رشد (وحتي هؤلاء لم يكونوا كتاباً بالمعني الدقيق)، لكنت قد دعوت الناس إلي الاحتفاظ بهذه المؤلفات كنماذج للخط العربي ليس إلا.
تصوروا هذه الآلاف المؤلفة من الكتب ليس فيها كتاب واحد حاول أن يبتكر قصة أو يروي حتي نادرة. ومن بين مئات آلافها لا يوجد إلا كتاب البخلاء للجاحظ يستحق أن يقرأ.
الكتاب الثاني ليس عربياً للأسف، وإنما هو كليلة ودمنة ومترجم عن الهندية.
لولا الكتاب الشعبيون، أولئك الذين كانوا علي الأقل يقدمون لرواد النوازل والمجالس متعة، ولولا ما جمع من كتاب ألف ليلة وليلة لخلا الأدب العربي كله من القصة. ذلك أن القصة لم تكن تعود علي صاحبها بكيس مليء بالدنانير، وهكذا كان علي الكاتب الذي يريد أن يحظي بصلة أن ينافق الحاكم ويكتب ما يحله مكانة عنده. والحقيقة أن هذا النوع من التراث هو بالتأكيد تراث للنفاق، نفاق كاتبه لمشاهير عصره من الكتاب، ونفاق للحاكم أو الوزير، ونفاق لما هو سائد ومنتشر من أفكار، نفاق في نفاق. هذا هو تاريخ النثر العربي، ذلك النثر الذي بدأ بالرسول الكريم محمد كاتباً، بل ومثالاً لما يجب أن يكون الكاتب، لقد كان محمد الناثر الكاتب كاتباً ذا قضية. كان الإسلام قضيته، واقرأ كتب الحديث ستجد الإسلام لا يغيب لحظة عن حرف أو جملة أو كلمة، هو دائماً نصب عينيه، هو دائماً موجود، وبطريقة خلاقة موجود، فإذا كانت القضية واحدة فالحديث دائماً يضيف إليها الجديد، ويخلق فيها من جديد.
أن نثراً بدأ بمحمد، نثراً بدأ بكتاب الله القرآن والقصة فيه تحتل ذلك المكان البارز نثراً هذا شأنه كان جديراً خلاف أكثر من بضعة عشر قرناً أن يصل بالقصة العربية وبالرواية وبكل فنون الكلمة حدوداً كان لابد بها أن نسبق أوروبا بكثير. ولكن ذلك النثر للأسف تسلمه أناس غير كتاب في أحيان أو كتاب قضيتهم الوحيدة لقمة العيش والنصب. ولأن الشعر أيضاً تسلمه المداحون فالنتيجة أن مات فن الكتابة العربية.
وربما لو كانت فنون الكلمة قد ظلت حية وعليها لت تتغذي أرواح الناس وعقولهم لكان شعبنا العربي شيئا آخر. ولكن، لأن الدولة قامت وبسيف المعز، أي معز، قتلت روح الزمة بقتل فنونها وفنانيها فقد كان طبيعياً أن تؤدي الدولة إلي دول، والدول إلي شيع وأن يستبد الحكام بحياة الأمة الروحية ويزيفوها كي تلائم أهواءهم، كان طبيعياً أن تنتهي دولة العرب الكبري، دولة الإسلام. وعلي يد الترك أخمدت البقية الباقية ولثمانمائة عام ماتت الأمة، ولم تبدأ تحيا حتي بقيام دولة محمد علي في مصر أو ابراهيم، من عهد اسماعيل فقط حين بدأت نسمات الحرية تهب وتصبح القاهرة ملجأ لكل فناني وكتاب الشام والعراق وأفغانستان والمغرب العربي، هنا فقط، بدأت علامات حياة تدب.
وكان لابد أن ينقضي مائة عام علي الأقل، قبل أن يصل الكاتب العربي، ليس إلي مستوي الكاتب الأوروبي فقط، وإنما إلي أعلي مستويات الكتابة قاطبة، مائة عام قبل أن يستشهد كاتب عاش ومات وكتب تعبيراً وتبشيراً وإعلاناً عن قضيته، قضية شعبه.
هذه مرة.
المرة الثانية التي أحسست فيها بالفخر أني كاتب، حين تفضل الأصدقاء وعهدوا إلي بكتابة هذا التقديم لقصص غسان كنفاني القصيرة الكاملة.
لا أقولها لأجامل أو أضخم. أقولها لأني فعلا احسستها وأعنيها.
لو كانت أكبر بيوت النشر في العالم قد طلبت مني أن أقدم قصص كاتب مشهور لفرحت قطعاً وربما شعرت للحظة بالغرور.
ولكن أن يطلب مني تقديم قصص غسان كنفاني فإنه شيء لا أحس له بفرحة، إنه شيء يجعلني أحس بتشريف اعتقد أني غير جدير به. من أنا حتي أقدم كاتباً رفع عن الأدب العربي كل عاره وغسل بدمه تقاعس مئات السنين؟ من أنا، وماذا فعلت للقضية كي أقدم كاتباً فعل من أجلها ما أصبح في عداد الأساطير؟
أني إذ اشكر لزملاء غسان ورفاقه ومواطنيه هذه الثقة لأعترف وأنا خجل أني لم اقرأ لغسان وهو حي سوي قصة أو قصتين. بل واعترف أيضا أني لم أره في حياتي إلا مرة واحدة حين جاء القاهرة لحضور مؤتمر الكتاب الآسيويين الافريقيين. وبالصدفة قابلته، ولأننا كنا من مجموعة كبيرة فلم نتبادل إلا أقل القليل من الكلمات، فحتي هذا اللقاء اليتيم نفسه لم يستمر أكثر من نصف الساعة.
وأناس كثيرون تلقاهم، كتاباً كباراً أحياناً ومشهورين، وحين تتركهم تحاول البحث في نفسك عن الأثر الذي خلفوه، نادراً جداً ما تلقي إنساناً، ذلك اللقاء السريع، وتحس، وفي التو أنه خلف في نفسك أثراً لا يمحي.
كان جاداً ووسيماً وأبيض البشرة.
وليس من ذلك النوع الذي ما يكاد يلقاك حتي يفتح صدره علي مصراعيه ويدلق كل آرائه في الناس والحياة وربما استشارك بعد دقائق في أخص مشاكله.
كان قليل الكلام.
وحين ذكرت له أني لم اقرأ له إلا قصة أو قصتين أبدي دهشة غير مبالغ فيها، واستغرب أن يحدث هذا وقد كنت أول من فكر أن يهدي له أول مجموعة قصصية صدرت له.
وابتسمت ابتسامة من يعتذر عن جرح شعوره، وأني لي أن أقول له لحظتها أني أتلقي في اليوم الواحد ومن أنحاء الوطن العربي عدداً لا يستهان به من الكتب والمجلات والأعمال القصصية المكتوبة بخط اليد. وأن قراءة هذا كله يستلزم لابد تفرغاً كاملاً، ولعدة أيام متتالية، محصول بريد اليوم الواحد من الكتب يستلزم أياماً بمطلقها لقراءته.
وحين قرأ في عيني الشك أن يكون الكتاب قد وصلني، عاد يؤكد أنه أرسله، بل إنه لايزال يذكر الاهداء الذي أرسل به الكتاب.
نعم، رغم ذكائه الشديد وتجاربه وحياته التي اضطرته أن يتعلم الحرص، كان لايزال بعينيه تلك الثقة الطفولية البريئة في الآخرين، وفي وقوفهم منه نفس ما يتوقع.
ومن ثقته البريئة نالوه ودمروه.
أنشأت اذن أقرأ كل قصة قصيرة كتبها غسان ونشرها. وابداً لم أحاول أن أكون (موضوعياً) كما يرددون دائماً، واقرأه وكأني اقرأ كاتباً حياً، وكأني لا اقرأ لغسان الذي ظل يؤمن بقضيته حتي مزقوه إرباً، وكأني لا اقرأ كتابة خطتها نفس اليد الشاحبة البيضاء التي رأيت صورتها في الجرائد وقد بترت وألقي بها الانفجار إلي أحد سطموح المنازل علي بعد عشرات الأمتار.
ما معني أن تكون موضوعياً هنا؟
وهل ممكن أن تضبط انفعالك بحيث تقرأ قصة لغسان بعد مصرعه، بنفس الاهتمام والانفعال اللذين تقرأ بهما قصة لفلان وقد كتبها من مكتب وثير فاخر وبهدف أن يثير بها عواطف أجيال المراهقات فيجعلن منه كاتبهن المفضل ويقبلن علي كتبه ليصل توزيعها عشرات الآلاف.
إن كل كلمة اقرؤها هنا، ليست مجرد كلمة مأخوذة من لغة، إنها كلمة ذات ثمن، كلمة لها رصيد، أغلي أنواع الرصيد، حياة كاتبها.
إن الجمل التي جاءت علي لسان جيفارا في مذكراته لا تختلف من الناحية (الموضوعية) كثيراً عن الجمل التي يتشدق وتشدق بها الثوار في كل مكان.
جمل جيفارا ستخلد وستبقي لأنها جمل من دم ولحم وحياة. إذا كانت تشبه غيرها فحياة جيفارا ومصرعه هي التي تصنع ذلك الفارق الهائل المميز.
وهنا أيضا تجد الفارق. ثمة شيء لابد قد حدث لقصص غسان باستشهاد غسان، كانت كلاماً فأصبحت صدقاً، كانت تحيا معنا علي الأرض فارتفعت إلي السماء، كانت تماثيل يضمها مخزن، فوضعت كل منها فوق أعلي قاعدة لتمثال. أن الشهيد لا يخلد وحده باستشهاده، كلماته أيضا تستشهد معه وباستشهادها تستحيل من كلمات ذات حياة موقوتة فانية إلي كلمات حية علي الدوام، صادقة علي الدوام، مضيئة بمزيج أسطوري من النبل والسمو وجلال الأنبياء.
إن التجربة الروحية الفريدة التي مررت بها وأنا اقرأ كل القصص القصيرة التي كتبها غسان أحدثت في نفسي آثاراً لم أكن أحلم أن أتصورها.
ففوق أنها جعلت قضية الشعب الفلسطيني تتحول في نفسي من عريضة دعوي وأعمال بطولية أخبارية، وشعارات، تحولت إلي مادة حية خالدة الحياة، إلي قلوب وصدور ونبض، إلي أطفال حقيقيين ونساء ورجال مثلما يتحول كتاب الجغرافيا أمامك فجأة ليس فقط إلي فيلم حي، ولكن إلي احياء يحملون علي أكتافهم كل تاريخ ذلك الشعب وخصائصه، كل ملامحه ودروب خوالجه، كل ما يجعلهم أخلد حتي من الشعب ذاته، فليس اخلد من الشعب إلا الشعب حين يصبح غناء وموسيقي ولوحات.
وفوق أنها جعلتني، وأيضا لأول مرة، اقرأ الانتاج الكامل لغسان كنفاني أو لأي كاتب آخر، فقد جعلتني افطن أيضا إلي أن قراءة قصص غسان القصيرة علي انفراد شيء آخر غير قراءتها مجتمعة، ففوق أنها خلية حية ممكن أن تقوم بذاتها فهي حين تنضم إلي باقي انتاجه يكون الانتاج جميعه كائناً حياً عملاقاً، أو بالاصح عملاً فنياً واحداً أكبر بكثير من كل مكوناته مجتمعة، تكون في النهاية "قصة" غسان كنفاني، ودعك من روعتها والأثر المهول الذي تتركه، فهي هكذا، وبالنهاية المروعة التي انتهتها أعظم قصة في تاريخ الأدب العربي. بل ربما في تاريخ غيره من الآداب.
ولم أر تكاملا مثل هذا التكامل، أن البطل في مجموعته الأولي مراهق يتعلم القضية لايزال، ويتعلم عيش (النازحين) ويتعلم ضرب النار. وبالتدريج ينقلنا غسان مع البطل والقضية لنصل بهذا المراهق إلي الحد الذي أصبح القتال عمله من أجل حل قضيته، ونصل بالقضية إلي المدي الذي أصبحت فيه (ايديولوجية) كاملة وفلسفة بل وكل الحياة.
وهناك النهاية تلك التي لم يكتبها غسان في قصصه القصيرة أو الطويلة فنهايات مثل تلك لا تكتب. لقد ظل يكتب حتي بلغ الحد الأعلي للكتابة، حتي لم يعد هناك ما يكتب. وهكذا كان لابد للنهاية أن تكون عملاً فوق الكتابة، وفوق آماد التصور، وفوق الخيال. كان لابد أن تكون (العمل، الشعر) أو الاستشهاد، أرقي وأعظم وأنبل مراحل أي عمل فني أو انساني علي الاطلاق.
الحقيقة الغريبة التي تكشفت لي أيضا وأنا اقرأ القصص كاملة أن الموضوع الواحد ممكن، في يد الكاتب الصادق الملهم (قيمة) يستخرج منها مائة سيمفونية ومائة كتاب، بحيث أيضاً، كل سطر في هذا الكتاب، كل كلمة، كل حرف من الممكن ردها مباشرة إلي هذا الموضوع الواحد.
لقد كانت فلسطين موضوع حياة غسان، وموضوع كتابات غسان، وموضوع رواياته، ومقالاته وقصصه القصيرة، كانت أيضا موضوع حياته وموضوع موته. وهنا تكمن عبقرية غسان، هذا الإخلاص الكامل للقضية مع الصدق الكامل لهذا الاخلاص جعله يستطيع أن يكتب كل هذه الأعمال، ومعظمها فنية، دون أن يكرر نفسه مرة أو يتحدث عن الشيء الواحد مرتين. بل لا أريد أن ابالغ وأقول أن موضوعه الواحد لم يكن فلسطين كلها دائماً كان شريحة واحدة من القضية، هي موقف الفلسطيني من قضية فلسطين.
أي اعجاز!
لقد كنت أحياناً اضع الكتاب وأتأمل عمق احساس هذا الانسان بقضيته وبشعبه، أيمكن أن تبلغ الحساسية هذه الدرجات القصوي من الرهافة والدقة. إنه شيء لا يمكن أن يحدث إلا إذا كان الكاتب يحيا ويؤمن بأطراف أنامله، بلحظات حبه، بنوبات اكتئابه، بالدمعة إذا ذرفها، بابنه، بأطراف أطراف فراشه.
إن جنون القهر يبدو متسامحاً ازاء هذا النوع من الإيمان.
ونعود إلي مواضيع النقاد المحببة. الفن في قصص غسان كنفاني، حسن اذن. هذا رجل لم يتشقلب ولم ينسق في تيار الوعي، ولا شغل نفسه بتجديد الشكل من أجل التجديد. ومع هذا فغسان كاتب جديد فعلاً، حتي في الشكل جديد. إن الجدة لا تأتي من نظم الجملة أو إحالة اللغة إلي كلمات واختصار المواقف في رمز. الجدة أن يكون محصول العمل، في نهاية اكتماله جديدا. الرؤيا جديدة. رؤيا لم يسبق إليها أحد ولا طافت بذهن بشر. في قصص غسان الأولي - وهذا شيء طبيعي - كان تأثره واضحاً بجوركي وتشيكوف وبالسابقين عليه قليلاً من جيله من الكتاب العرب. ولكن غسان ما لبث أن وجد طريقه، فالقضية، ذلك الجبل المغناطيسي الهائل كان جذبها أقوي من أي ترعة أخري أو مسالك آخر، ونفسها القضية شكلت أسلوب غسان الخاص، وهكذا حدد غسان للعمل الفني القصصي الذي يتناول قضية شعبية شكلاً فنياًبارع الاتقان، وأه ما فيه انه غساني كنفاني مائة بالمائة.
ليس عملي أن احلل القصص فاتبع خيوطها ومدلولاتها منذ أن كانت أجنة فقط، إلي أن أصبحت أشجار خطوط مليئة بالتشابك والمثار وحبوب اللقاح. ليس هذا عملي، ولا عملي أيضا أن امسك كل مجموعة لا حدد لها معالمها النقدية الخاصة.
ليس لي شرف النقد، وليس لهذا التقديم حتي شرف التقديم، أن هي إلا كلمة، أرجو أن تكون كلمة طيبة، كلمة لا حول لي فيها ولا قوة، فقد عرفت أعمال غسان أكثر بكثير مما عرفته، وقد عرفته حياً أقل بكثير مما عرفته شهيداً. ومعرفة غسان حتي ولو لم تستطع معرفته أمر سهل إنما الاحاطة به هو المستحيل.
وأخيراً ماذا أقول
أأقول إن قراءة هذه المجموعة أفادتني وعلمتني عن الفن والقصة والثورة والشعب أكثر بكثير من كل ما طالعته عنها؟
أأقول إني بعد قراءتها أدركت أن مصرع غسان لم يكن صدفة أو مجرد فورة، ولكنه النهاية التي كان يعرفها سلفاً ويعرف أنها خاتمة المطاف، ومنذ أول سطر كتبه ومنذ أول منشور وزعه.
لقد كان غسان ثورياً صادقاً، أنا لا اتكلم عن اعتناقاته. اتكلم عن نوعه. هذا النوع النادر بين الرجال، وحتي بين الثوريين، النقي نقاء الضمير، المخلص إلي آخر المدي، ذلك النوع الذي منه دائماً تغترف التضحيات، منه يسجنون، منه يقتلون، منه يعذبون وينكلون. ذلك لأن أعداء الوثرة وأعداء العرب وأعداء الحياة يعرفون أن هذا النوع أخطر الأنواع، فلا شيء يجدي معه، حتي الارهاب، حتي التهديد، حتي اسخي أنواع الأغراء. الثورة عنده هي الله، وأي شيء خلا الحل الثوري شرك لا يمكن أن يقبله.
من أجل هذا قتلوه، وسيقتلون كل غسان كنفاني، ولقد كان يعرف، والذين ينتظرون الموت أيضا يعرفون. كان يعرف ولكنه كان يشك، ليس في النهاية وإنما في جدارته للنهاية إذ معناها أنه الأنقي والأطهر والأشرف، ورغم كل شيء فهو لم يكن يعتقد أنه كذلك أو باستطاعته أن يكون كذلك، بل من أجل أن يكون، راح يندفع في النضال أكثر، ويكتب أكثر، ويحس، كالصوفي المتبتل، أن بينه وبين الوصول مشوار ومشوار، حسن يا غسان.لقد كنت واصلاً وأنت لا تدري. وكنت كاتباً وأنت لا تريد، وكنت مناضلاً وأنت لا تدري. وكنت كاتباً وأنت لا تريد، وكنت مناضلاً وأنت تعتقد أنك كاتب، وكنت فناناً عظيماً والفن عندك تراه أبعد ما يكون. لقد وصلت. ومن الأعداء نلت صك الوصول.

أيها الناس.
اقرأوا هذه القصص مرتين.
مرة لتعرفوا انكم موتي بلا قبور.
ومرة أخري لتعرفوا أن قبوركم تجهزونها وأنتم لا تدرون.
قبور الثقافة بلا ثورة والثورة بلا ثقافة. قبور الخوف علي الحياة حتي تستحيل في النهاية إلي وجود حيواني خسيس.
اقرأوا هذه القصص.
فهي لرجل عاش..
عاش كما لم يعش أحد
حتي بمقاييسكم البورجوازية
فقد نال من الحياة أقصي ما تستطيع تقديمه من نفع
نال متعة الشرف، متعة الحر.
أما متع العبيد التي تلغون فيها فآه لو رأيتموها علي حقيقتها يوماً.
هذا رجل عاش
ومات
مات مفجراً منسوفاً.
ولكن كل قطعة من جسده، كل خلية، ستحتل من الوجود حتي وجودكم أنتم، أضعاف أضعاف ما تحتله أفيالكم وسياراتكم و......
ذلك أنه مات كي لا يموت. مات كي يعيش.
أما أنتم فقد متم مرات خوفاً من الموت.
إن الرجل نبضه صدق وحرية.
والنبض في كثير منكم توقف من زمن، أما الحرية.....
اقرأوا قصص غسان كنفاني
واجعلها يا شعب فلسطين قرآنك
غنوها وترجموها واحفظوها فهي أعمال تصنع الرجال
أم أن هذه الأمة العربية، لم يعد يهمها أن تصنع الرجال؟!
غسان
الأمانة وصلت والرسالة فضت، ولك أن تنام قرير العين..
قصة »شمس جديدة« لغسان كنفاني
الإبداع ص 30


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.