لقد فُرض الصمت علي المرأة عبر التاريخ وتم التعتيم علي كل ما يتصل بها وبحياتها حيث أطلق علي حياة النساء ما يسمي بثقافة الصمت. ويري الناقد الفرنسي أدوين أردنر أن النساء يشكلن المجموعة الصامتة في المجتمع في حين يشكل الرجال المجموعة أو الفئة المهيمنة التي تسيطر علي اللغة وأساليب التعبير ولذلك كانت المرأة تعبر عن آرائها ومعتقداتها باستخدام الأساليب التي فرضها وكرسها الرجل وإن ما يحدد كتابة المرأة بالأساس هو تجربتها الذاتية وما تتميز به من زخم شعوري. وما يرتبط بها من معاناة وقمع ومحاولة دائبة للنهوض وإثبات الذات وكل هذه العوامل تشكل رؤيتها للذات ويبلور علاقتها بالعالم وموقفها منه. لقد مارست ثلاثة أنواع من الكتابة ، بدأت بتجربتي الصحفية في جريدة الأهرام علي مدي عشر سنوات خلال حقبة الستينيات وأوائل السبعينيات وأتيح لي فرصة التعلم واكتساب الخبرة المهنية من زملائي ورؤسائي من قدامي الصحفيين ولكن كان هناك العديد من الخطوط الحمراء التي فرضتها ظروف المرحلة السياسية خلال الحقبة الناصرية والتي التزم بها جميع الصحفيين والصحفيات وتمثلت في وجود الرقيب وسلطة رئيس التحرير ومعاونيه من رؤساء الأقسام وكان محظوراً ممارسة أي شكل من أشكال النقد للسلطة الحاكمة وأجهزتها الأمنية ولم يقتصر ذلك علي مواد الرأي بل شمل منظومة الأخبار والتعليقات والتحقيقات الصحفية. كان عدد الصحفيات قليلاً ولم يكن مسموحاً لهن بتقلد أية مواقع قيادية داخل الصحيفة فيما عدا قسم المرأة الذي أنحصر دوره في تغطية أخبار وأنشطة نجوم المجتمع من نساء الطبقة الوسطي وأدوارهن التقليدية في رعاية الأسرة والأطفال والحفاظ علي الزوج وشئون الطهي والمكياج والأزياء... الخ. ومن أهم الصعوبات المهنية التي واجهتني في تلك الفترة علاقتي بمصادر الأخبار والمعلومات التي كان يحتكرها الوزراء والمحافظون والقيادات التنفيذية في مجالات الصحة والإسكان والتعليم والاقتصاد والرعاية الاجتماعية إذ كانوا جميعاً من الرجال المسكونين بالرؤية التقليدية للمرأة باعتبارها أنثي يجب اقتناصها وقد تعرضت للعديد من الإغراءات والمساومات من بعض المصادر الذكورية مقابل حصولي علي بعض الأخبار الصحفية الهامة مما كان يضطرني إلي مقاطعتهم وإبلاغ رؤسائي في الصحيفة. كما تعرضت لمحاولة تجنيدي في أجهزة الأمن السياسي ضد رئيس تحرير الأهرام وذلك عقب اعتقالي عام 1961 ضمن مجموعات اليسار المصري. والمرة الوحيدة التي تعرضت للفصل من عملي الصحفي كانت علي يد أول وزيرة للشئون الاجتماعية د. حكمت أبو زيد عندما تعرضت بالنقد للحركة النسائية المصرية في مقال نشرته صحيفة (الاشتراكي) التي كان يصدرها الاتحاد الاشتراكي. لقد استمرت هذه الصعوبات وتعددت أشكالها لدي الأجيال الجديدة من الصحفيات والإعلاميات العربيات. وهنا تجدر الإشارة إلي الحقائق التي أجمعت عليها كل من الدراسات وحلقات النقاش والدورات التدريبية التي شاركت فيها علي المستويات المحلية والعربية والدولية والتي كشفت عن العديد من الصعوبات والعوائق التي تعترض المسيرة المهنية للصحفيات العربيات وتعزي إلي المناخ الثقافي الذكوري الذي يسيطر علي بيئة العمل الإعلامي ويعيد إنتاج بل يكرس الرؤية النمطية لقضايا المرأة كما يتعمد تهميش أغلب القضايا ذات الأولوية القصوي مثل الأمية وقوانين الأحوال الشخصية والفقر ومشكلات المرأة الريفية كما كشفت هذه الدراسات عن تحيز القيادات الإعلامية ومعاناة الإعلاميات من الصورة التقليدية السائدة لدي رؤسائهم عن المرأة العاملة في حقل الإعلام إذ يعتبرونهم أقل في مستوي القدرات المهنية من زملائهم ولذلك يفضلون الرجال للمناصب القيادية والدورات التدريبية والمؤتمرات الدولية. كذلك كشفت الدراسات علي الجانب الآخر عن افتقار معظم الإعلاميات العربيات إلي الوعي الثقافي والمجتمعي بقضية المرأة مما أدي إلي إسهامهن بوعي أو بدون وعي في إعادة إنتاج القيم المعوقة للتطور. كما لوحظ أن السياسات الإعلامية الخاصة بالمرأة والأسرة لم يطرأ عليها أية تغيرات إيجابية خلال فترة تولي القيادات النسائية لمواقع صنع القرار في الحقل الإعلامي (مقروءاً ومرئياً ومسموعاً) ورغم الاهتمام العالمي الذي تصاعد خلال العقدين الماضيين وانتقل من التأكيد علي أهمية الالتفات لدور المرأة علي التأكيد علي أهمية الالتفات لرؤية المرأة عند رسم السياسات المختلفة سواء الإعلامية أو التعليمية أو بلورة التوجهات الثقافية فيما يتعلق بقضايا التنوير وإشاعة قيم حقوق الإنسان في المجتمع والتي تشمل ضمن أمور أخري قيمة المساواة الحقوقية في إطار الاعتراف بالاختلاف بين الجنسين وإعادة تعريف مفهوم الخصوصية الثقافية الذي يستخدم علي نحو يتضمن أحياناً إهداراً لحقوق المرأة من جانب بعض التيارات السلفية. أما تجربتي الثانية في الكتابة فقد كان مجالها البحث العلمي وامتدت عبر أربعة عقود تتلمذت خلالها علي أيدي نخبة متميزة من الأساتذة والعلماء المصريين والعرب والأجانب وانتميت إلي المدرسة النقدية في العلوم الاجتماعية وتمثلت أهم الصعوبات التي واجهتني في سيطرة التيار الوظيفي الأمبريقي علي مختلف فروع العلم الاجتماعي (سياسة ، اقتصاد ، إعلام ، قانون... الخ) وقد انتقل هذا التيار إلي الحقل الأكاديمي في الإعلام والصحافة وشكل أنصاره عددا كبيرا من أشباه العلماء الذين تصدوا بضراوة للتوجهات النقدية وأصبحوا رافداً قوياً للسلطة القائمة حيث تم توظيفهم لتبرير سياساتها التعليمية والعلمية التابعة للغرب وأيديولوجية السوق مما أهدر الخصوصية المعرفية والثقافية للبحوث العلمية في حقل الإعلام بل عطل نمو التيارات النقدية حيث تم تجاهل البحوث الأساسية والاستراتيجية في هذا الحقل الهام مع الإستمرار في الترويج لبحوث التسويق والإعلانات وتهميش وإقصاء الباحثين المنتمين للتيار النقدي عن كافة المواقع القيادية في الجامعة. ولعل أبرز ما تحويه تجربة الكتابة البحثية ذلك العدوان الصارخ علي الحريات الأكاديمية والثمن الفادح الذي دفعته بسبب كتابي عن الصحافة الصهيونية في مصر الذي صدر عام 1979 وكشفت من خلاله الدور الذي قامت به الحركة الصهيونية في تحويل مصر إلي منبر للدعاية لما يسمي بالوطن القومي لليهود في فلسطين وتعرضت لسلسلة من الافتراءات لتشويه سمعتي العلمية داخل الجامعة ومنعي من السفر لحضور المؤتمرات الدولية فضلاً عن التهديدات التي تلقيتها من جماعة كاخ الصهيونية يحذرونني من أنه (إذا لم تتوقفي عن الإساءة إلي الصهيونية سوف نخرسك إلي الأبد). وقد استلهمت عدة دروس من هذه الدراسة التي كشفت لي بصورة جلية كيف أن الصحف الصهيونية في مصر كانت تحارب الصحف الوطنية المعادية للصهيونية بشن هجوم مكثف مستخدمة أحط الأساليب والتهم الأخلاقية بل واستعداء السلطات ضدهم متهمة إياهم بإثارة الفتنة الطائفية وتمزيق الوحدة الوطنية والإضرار بالقضية المصرية وهي نفس التهم التي واجهونا بها لدي المدعي الإشتراكي عندما قام السادات باعتقالنا عام 1981 لمعارضتنا اتفاقية الصلح مع إسرائيل. وقد اتبعت الصهيونية العالمية نفس الأسلوب مع كورت فالدهايم السكرتير السابق للأمم المتحدة عندما ألصقت به تهمة التعامل مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية مما قضي علي مستقبله السياسي في بلده (النمسا) وذلك عقاباً له علي صدور قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية عام 1975 أثناء توليه منصب سكرتير عام الأممالمتحدة. ويمكن الاستشهاد بالعديد من الأمثلة سواء من واقع التجربة الصهيونية في مصر أو من داخل الكيان الصهيوني ذاته حيث تبرز قضية البروفيسور إيلان بابيه ومحاكمته وطرده من الجامعة العبرية بسبب موافقته علي تسجيل رسالة ماجستير للطالب تيودور كاتز عن مذبحة الطنطورة التي ارتكبها الجنود الصهاينة وراح ضحيتها المئات من الفلسطينيين عام 1948 . ولقد تواصلت أشكال العدوان علي حريتي الأكاديمية وتراوحت ما بين بث عيون الأمن داخل المدرجات وتسجيل محاضراتي التي واجهوني بها عند اعتقالي وبين حرماني من تدريس بعض فروع التخصص التي لها مساس بالرأي العام. السيرة الذاتية: التجربة الثالثة في الكتابة: تحتل السيرة الذاتية مكانة مرموقة في الثقافة العربية تبلغ حد التقديس في السيرة المحمدية والتي تعتبر مصدراً من مصادر التشريع وهي مصدر إلهام السيرة الشعبية وإن تم فهمها وتفسيرها بأشكال مختلفة طوال التاريخ العربي. ولم يعرف الأدب العربي أدب السيرة الذاتية كما نعرفه اليوم إلا مؤخراً ويعتبر سلامة موسي أول من استخدم مصطلح السيرة الذاتية في كتابه المعنون (تربية سلامه موسي). وقد تغير مفهوم السيرة الذاتية في الأدب العربي نتيجة التأثر بالنصوص الغربية. وإذا كانت السيرة الذاتية العربية قد استلهمت النوع الأدبي الغربي المشابه وتأثرت به إلا أن الكتاب العرب لم يستوردوا العقل الذي يقف خلف ذلك إن كان له وجود. لقد استلهموا الشكل السردي وتأثروا به. ويمكن القول أن الكتابة الذاتية العربية قد ارتبطت بالتطور الاجتماعي والثقافي في العالم العربي وليس بالثقافة الغربية التي لم تكن سوي عامل مساعد. ولم يكن للطفولة دور يذكر في السير الكلاسيكية في الأدب العربي القديم ولكن كان يتم التركيز عليها في النصوص الحديثة. أما مرحلة المراهقة فلم تحظ بالاهتمام سواء في الأدب العربي أو الغربي حيث يتم التركيز علي مرحلتي الطفولة والنضج وتغيب هذه المرحلة. وعند قراءة حصاد السيرة الذاتية العربية سرعان ما نلحظ أنها خرجت عن الصيغ المألوفة في التراث وكسرت ما هو مألوف وأصبحت السيرة تعبر عن أدب الاحتجاج الاجتماعي الملتزم وتعبر عن رؤية الكاتب للعالم المحيط به. وقد وضح في النصوص العربية الحديثة تأثير النصوص الأجنبية عليها ومحاكاتها في بعض الأحيان. ولذلك يشير بعض الكتاب لنصوص بعينها مثل اعترافات جان جاك روسو ومكسيم جوركي وتولستوي وسومرست موم وسارتر مما يشير إلي أن أثر الموروث في فن السيرة بدأ يتواري ليحل محله النماذج الغربية. وتغلب تجربة الطفولة علي عدد كبير من الأعمال كما تبرز الأيام لطه حسين في صدارة أعمال السيرة الذاتية وتعتبر مرجعاً أساسياً لكُتاب السيرة الذاتية العرب. وقد لوحظ أن أغلب السير الذاتية العربية تركز علي الجوانب العامة والسياسية ولا تملك الجرأة علي كشف مكنونات الواقع المجتمعي والحياة الخاصة بتشابكاتها وتعقيداتها وتناقضاتها التي لا تزال محكومة بقوة السلطة الاجتماعية التي تحول دون حرية البوح والإفصاح وسائر الصراعات بين الذات والآخر إذ أن جميع هذه الجوانب لا تزال مخبأة في صندوق أسود محكم الغلق لا يمكن الإفشاء به أو إعلانه مكتوباً ومدوناً ومعروضاً علي الرأي العام وهنا تبرز إشكالية حدود العام والخاص لدي كتاب السيرة الذاتية وقد لوحظ مثلاً أن سيرة انديرا غاندي لم تتعرض لحياتها الخاصة واقتصرت علي الجوانب السياسية فقط أما بابلونيرودا فقد غاص في دهاليز النفس والوجدان وحاول إخراج ما استطاع من أسرار وكوامن مذهلة في صدقها وتأثيرها وعندما حاول د. جلال أمين في سيرته الذاتية أن يعرض في اقتضاب بعض الجوانب الخاصة بقضية غرام والدته بابن خالها قبل زواجها من والده الدكتور أحمد أمين تعرض لنقد شديد من جانب الكثير من المثقفين مما يطرح بإلحاح تساؤلاً جديراً بالتأمل ما هي حدود الحرية المسموح بها لكاتب السيرة الذاتية في عالمنا العربي فهو يواجه بخطوط حمراء وضعها المجتمع العربي بموروثاته الدينية وتقاليده الثقافية والاجتماعية والتي يمكن أن تطيح بالقيمة المعرفية والأدبية لمضمون السيرة وكاتبها. كما تبرز عقبة أخري أمام كاتب السيرة تتمثل في عدم تأهيله منذ الصغر لكتابة ما يمر به في حياته من أحداث وأشخاص مما يؤثر سلباً علي الذاكرة بمرور الزمن وتوالي الأحداث فيأتي السرد منقوصاً ومفتقراً إلي الدقة والشمول. هذا ويلاحظ أن كاتبات السيرة الذاتية العربيات لم يبدأن في كتابة السيرة الذاتية كما هي معروفة حالياً إلا في وقت حديث نسبياً يرجع إلي أواخر الثلاثينات عندما كتبت بعض النساء مذكراتهن ولكن دون أي قصد أو هدف أدبي وعلي العكس من ذلك شهد الأدب العربي انفجاراً في كتابات المرأة العربية للسيرة الذاتية في السنوات الأخيرة. لقد تزاحمت في ذهني التساؤلات المحيرة قبل أن أفكر في كتابة هذه السيرة ما هو الهدف من كتابة السيرة الذاتية؟ هل هو السعي من أجل الحرية التي تتحقق من خلال الصراع مع أشكال السلطة المختلفة التي تتجسد أصلاً في الأسرة الأبوية ثم تترسخ في سائر مؤسسات المجتمع التربوية والسياسية والثقافية أم أن الهدف هو إلقاء الضوء بعيون الطفلة علي خفايا أهلي المهمشين في الصعيد؟ أم الكشف عن المستور في مسيرة رفاق الطريق من الرجال والنساء سواء الذين ساندوني أو الذين غدروا بي؟! وما أهمية الطفولة في السيرة الذاتية؟ وهل تمثل الطفولة بداية الوعي بالذات؟ أعلم أن الطفولة في مرحلة عمرية متقدمة هي محاولة لاستعادة زمن ولي ولا يمكن استعادته وان السيرة بكل أشكالها تعبر عن الأنا والآخر في كافة صوره. كما أن التذكر في كتابه السيرة ليس تسجيلاً سلبياً وإنما عملية خلق مستمرة. علي مدي العقدين الماضيين اربكني الحاح أساتذتي وأصدقائي وطلابي الذين لم ييأسوا من حثي علي الكتابة عن طفولتي في الصعيد وسائر الانحناءات والتعرجات التي أعترضت طريقي منذ أن اعترضت أمي علي مجيئي للحياة رفضاً منها للاستمرار مع أبي ومنذ أن بادرني خالي في إحدي زياراته للقرية وكنت في السادسة من عمري وقال لي (أنت لسه مارحتيش المدرسة لغاية دلوقتي يظهر إنك حتفضلي جاهلة شغلتك الخبيز وحلب البقر مثل عمتك حميدة). بدأت الفكرة تتبلور أثناء اعتقالي في سجن النساء عام 1981 واكتملت في اليابان 1991 خلال إحدي المؤتمرات التي شاركت فيها بعد حرب الخليج وشجعتني صديقتي سانا سوزوكي أستاذة الأدب المقارن بجامعة طوكيو علي كتابة سيرتي الذاتية قبل أن تلتهم آلة الزمن ذاكرتي فلا أستطيع أن أنقلها إلي أحفادي وأجيال الغد إذ قالت لي (لابد أن تخطي علي الورق تجربتك الحياتية مع الناس الذين عبروا بك وعبرت بهم خلال الطفولة والصبا والشباب هؤلاء الذين احببتهم وأنتميت إليهم وأولئك الذين سقطوا من حياتك هؤلاء الذين وثقوا بك واحتضنوا رعونتك وواصلوا معك الطريق وأولئك الذين يذرون الشك في ثنايا نفسك وأهانوا الطفل القابع بداخلك وأخيراً الذين قسوا عليك ، وأيقظوا روح التمرد والرفض ويسبق هؤلاء جميعاً أولئك الذين تعلمت منهم الكثير ولم يبخلوا عليك بعلمهم وحكمتهم). أقتنعت بما قالته لي الصديقة اليابانية سانا ولكن بعد عودتي للوطن استغرقتني مشاغل الحياة ودواماتها المربكة وتقلباتها التي لا ترحم خصوصاً عملي الأكاديمي الذي مارسته بالتزام يصل إلي حد الشغف سواء في التدريس أو البحث العلمي علاوة علي التزاماتي الاجتماعية والإنسانية تجاه أهلي في الصعيد ومشاركتي في العمل العام السياسي والاجتماعي من ندوات ومؤتمرات ومظاهرات احتجاج. حاولت أن ألقي الضوء علي طفولتي التي أمضيتها في قرية الزرابي التي يحتضنها الجبل الغربي جنوبأسيوط والمعروف أن الصعيد عموماً قد عاني من التهميش والتجهيل علي مدي عقود طويلة والكثيرة الغالبة من المثقفين والمنشغلين بالشأن العام لا يعلمون شيئاً عن دخائل الحياة وأسرارها ومآسيها في هذه البقعة من الوطن ويكتفون بالمعلومات السطحية المبتورة التي يستقونها من وسائل الإعلام والتي تقتصر علي الأنشطة الرسمية والإنجازات الوهمية للحكم المحلي ولا يقتربون من القري والنجوع التي تحفل بكم هائل من كفاح وصمود البشر المكبلين بالموروثات المعوقة لإرادة هؤلاء البشر وتطلعهم المشروع للنهوض وعلي الأخص ما تواجهه المرأة الصعيدية من قمع وحرمان من حقوقها الإنسانية يتواصل بثبات جيلاً بعد جيل. أردت أن أرصد ما تبقي في ذاكرتي داخل البيوت والدواوير التي شهدت طفولتي المبكرة واستندت إلي ما كانت ترويه جدتي الكفيفة صفصافة وأمي وخالاتي وعماتي عن خفايا وأسرار العلاقات المتشابكة والمصالح المتعارضة وجبروت التقاليد وقسوة وسطوة الرجال ولم أغفل علي الجانب الآخر الجوانب المضيئة والتي تتمثل في الأفراح القليلة والمواويل والأذكار والأغاني المشحونة بالشجن. حاولت أن أكشف عن روح الشهامة والنقاء والاستقامة الأخلاقية التي تكمن خلف أقنعة الجهامة والجمود التي تغلف وجوه أهلي في الصعيد. لقد قدر لي أن يتزامن مولدي مع نشوب الحرب العالمية الثانية وعاصرت حرب فلسطين من خلال حكايات أمي التي كانت تنقل لي ولشقيقي تفاصيل المعارك والمذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية ضد الأطفال والنساء الحوامل في فلسطين. كما شهدت مولد ثورة يوليو 1952 وأنتميت إلي المواقف الوطنية والسياسات الاجتماعية للزعيم جمال عبد الناصر كذلك اكتويت بإخفاقاتها وانكساراتها خصوصاً هزيمة يونيو 1967 . كما شغلت تجربة الاعتقال في سبتمبر 1981 موقعاً متميزاً في السيرة فلم اكتف بسرد وقائعها منذ وصولي بصحبة أبني إلي مطار القاهرة عائدة من مؤتمر دولي عقدته الأممالمتحدة ببرلين عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وفلسطين. وقمت بتسليم نفسي إلي شرطة المطار وذهب ابني مع أبيه ثم تم ترحيلي إلي سجن النساء بالقناطر الخيرية كي ألحق بالرفيقات اللواتي سبقوني وهناك عشت الحياة المشتركة في العنبر الذي ضم 10 معتقلات كانوا ينتمون إلي اليسار والجماعات الإسلامية وأمضيت مائة يوم ثم تم الإفراج عنا في 12 ديسمبر 1981 بعد اغتيال السادات وتولي حسني مبارك السلطة. وقد حرصت علي أن أضم إلي هذه الوقائع حزمة من الأوراق سطرتها فوق جردل مقلوب بجوار حمام العنبر في بعض الأمسيات ذات الضوء الخافت وقمت بتسريبها خارج السجن بمساعدة السجانات وبعض الأصدقاء. ولم تتوقف السيرة عند تجربة الانتخابات التي خضتها في جنوبأسيوط عام 1984 حيث أتاحت لي جولاتي الانتخابية في قري ونجوع الجبل الغربي فرصة نادرة للتعرف علي تفاصيل زاخرة بالمرارة والتهميش وقسوة الحياة التي يحياها الفقراء في صعيد مصر بل أضفت إليها في إيجاز غير مخل بعض جولاتي في قارات العالم الخمس حيث زرت 52 دولة في إطار المؤتمرات والدعوات العلمية واحتفالات الاستقلال الوطني. وتوطدت خلالها علاقاتي بزعماء التحرر الوطني الأفريقي مثل جوشوا نكوموا وسام نجوما ومانديلا وأوليفر تامبو ولومومبا وجومو كنياتا.