يعتبر البعض - وأنا منهم - أن قضية الحرية والمشاركة السياسية تعد رفاهية - غير مهمة أحيانا - إذا قورنت بما تمثله قضية الحالة الاقتصادية لجموع غفيرة من المصريين، الأمر الذى أدى وبسرعة لانقلاب الجماهير ولو عاطفيا على الثورة وأهدافها، والتى عندما وضعوا شعارها اهتموا بشدة أن يتقدم "العيش" على "الحرية" و"العدالة الاجتماعية". لا يعد ذلك انتقاصاً للشعب المصرى لأنه أولاً: طبقاً لجميع الدراسات النفسية يتصدر إشباع الحاجات الأساسية بقية الأولويات النفسية والاجتماعية، وثانيا: أننى أرى أن هذا يعد نتاجا طبيعيا لعقود طويلة من القهر والاستبداد والتى ليس فقط حرمت الملايين من أى صورة من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، بل أيضا استطاعت بصورة أو بأخرى أن تقنع الشعب أنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن بالفعل. بالطبع هناك الكثيرون ممن يقدسون الحرية ويعتبرونها أسمى مقصدا وأشرف من بقية المكتسبات التى تحققها الثورات والحركات الاجتماعية بل إنهم يعتبرون الحرية القاعدة التى تنطلق منها أية إنجازات سياسية أو اقتصادية بل علمية أيضا، ولكن دعونا نتحدث عن الأغلبية التى لم تعد ترى إلا العواقب السيئة لقيام الثورة. يجب علينا أن نعى أن الانهيار الاقتصادى الحالى ليس فقط نتيجة فشل الإدارة الاقتصادية للدولة بل لأمر أكثر خطورة، من الضرورى أن يوضع فى الاعتبار وهو أن الاقتصاد المصرى – ما بعد عبد الناصر- كان اقتصادا تبعيا اعتمد فيه النظام على منح وأموال الخارج، ليسد العجز المتزايد مع الزمن مقابل ما كان يقدمه النظام للغرب من تنازلات سياسية وفتحه للاقتصاد الغربى الباب على مصراعيه ليغرق الأسواق المحلية بإنتاجه المتضخم من السلع الاستهلاكية "د.جلال أمين، قصة الاقتصاد المصرى. "يعنى هذا أن حكومات ما بعد الثورة تسلمت اقتصادا متهالكا لا أقول غارقا فى الديون، وإنما ديون كله، اقتصاد مبنى على مشروعات استهلاكية وديون غير مبررة وحالة استسلامية فى السياسة الخارجية، بالإضافة إلى حالة عامة من عدم الاستقرار الناتج عن عمليات العنف المتواصل وعدم الاستقرار السياسى والفوضى الإعلامية أدى كل هذا إلى عزوف المستثمرين وفزع السائحين واستغلال الدبلوماسيين الغربيين موقف مصر المغرق فى الانهيار، وسيلة للضغط لتضمن تكون نظام سياسى واقتصادى معين يضمن مصالحها فى المنطقة. كل هذه التحديات من السخط الشعبى والاقتصاد المنهار والهجوم الإعلامى غير المبرر والضغوط الخارجية تفرض علينا أن نتخلص من تلك الطريقة السطحية فى التفكير والتى تنتهى بنا دائما إلى اتهامات قد تكون بريئة فى أهدافها، ولكنها ليست مطلقا منصفة فى منطقها. حقيقى أن الأمر أكبر من أى حزب سياسى أو فصيل أيديولوجى، إنه أكبر لأنه حصاد عقود من الاستبداد والتبعية تخللتها لحظات شديدة القصر من النمو والتحسن، ولكنا سرعان ما تذوب فى بحر التاريخ الشديد السواد. إنه من اليسير جدا أن نهتف "يسقط حكم المرشد" فعادة يعتبر اتهام المنافس السياسى من أمتع الأمور وأيسرها، إننى أطلب أن نكون أكثر واقعية فى إدراكنا للأمور، وأن ننظر بعين واسعة للظروف الدولية والتراكمات التاريخية والطبيعة النفسية للشعب المصرى لنتمكن من تقديم حلول وتفسيرات دقيقة ومنصفة وفعالة بدلا من تبادل الاتهامات الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع.