ربما لا توجد أدوات للتحكم والسيطرة علي العباد أكثر من المال والسلطة, ولذلك كثر الحديث عن العلاقة بينهما ومدي حدود كل منهما. ويكاد ينعقد الإجماع علي أنه ليس هناك ما هو أخطر من اجتماع المال والسلطة في يد واحدة, أو في تحالف مشترك. ولذلك فكما تتطلب الحرية تعددية في السياسة وتداولا في السلطة فإنها تتطلب أيضا حرية في الاقتصاد وتنافسية في العمل الاقتصادي بعيدا عن الاحتكار, وفضلا عن هذا وذاك تتطلب وضع الحدود والضوابط علي العلاقة بين المال والسلطة, لأن لكل منهما سطوة. فأما علاقة السلطة بالسيطرة والتحكم, فأمرها طبيعي. فالسلطة في جوهرها هي حق الأمر من صاحبها, وواجب الطاعة والانصياع من الآخرين. فالمجتمعات لا تقوم ما لم توجد بها سلطة تضبط الأمور وتوفر الخدمات العامة للأفراد وتحمي الأمن وتحافظ علي الحقوق. ولذلك فإن وجود السلطة ضرورة لا غني عنها, ولكن يخفف من غلوائها أن تكون سلطة شرعية تستند الي القبول العام, وإذا لم يتوافر في هذا القبول أو الرضاء الاختياري فإن السلطة تفقد مشروعيتها وتصبح سلطة مغتصبة. ولكن ما دامت السلطة شرعية تستند الي موافقة الشعب, فإن الخضوع والانصياع لها لا يمثل عدوانا علي الحقوق والحريات بل انه في الأغلب من الأحيان هو السبيل لحماية هذه الحقوق والحريات. وهذا هو مجال السياسة. ولكن إذا كان مجال السياسة هو السلطة وممارستها, فما هي المواصفات المطلوبة في السياسي؟ السياسة هي العمل من أجل الآخرين. إذا كانت السياسة هي علم السلطة, وهذه السلطة تفرض بالضرورة علي الآخرين, فينبغي أن يكون واضحا أن مظاهر هذه السلطة لم تقر كمزايا خاصة للحاكم بقدر ما هي وسائل لازمة لخدمة الآخرين. ولذلك فإن السياسي الحق هو المجبول علي خدمة الآخرين, فالسياسي شخص رهن نفسه لخدمة المصلحة العامة, بحيث تتراجع لديه فكرة المصلحة الخاصة إلي ما يقرب من العدم. فهناك تناقض أساسي ورئيسي بين العمل في السياسة والمصلحة الخاصة.. وإذا كانت السيطرة هي جوهر مفهوم السلطة فليس الأمر كذلك مع المال, فالأصل أن المال مخصص للحصول علي السلع والخدمات سواء في ذلك ما يشبع حاجات الفرد الاستهلاكية الأمر الذي يهم الغالبية العظمي من الأفراد أو ما يساعده في نشاطه الإنتاجي والاستثماري, وهو ما يهم الأقلية من رجال المال والأعمال. وهكذا فصاحب المال مشغول في الأصل بمصالحه الخاصة سواء في جانبها الاستهلاكي أو الإنتاجي. وهذه المصلحة الخاصة هي ما يوجه لحسن استخدام أمواله بالابتعاد عن التبذير أو الهدر ومحاولة تخفيض التكاليف قدر الإمكان وانتهاز الفرص لاكتشاف وسائل أكثر كفاءة لتحقيق أغراضه الاقتصاية. فالمصلحة الخاصة هي القوة الداخلية والنفسية التي تحفز كل فرد الي حسن استخدام أمواله. وقد تنبه آدم سميث لهذه القوة الداخلية الكامنة في كل فرد لتعظيم مكاسبه وتقليل تكاليفه, ورأي فيها ما يخدم المصلحة العامة في نفس الوقت, فيما عرف بنظرية اليد الخفية. فإذا كان كل فرد يسعي الي حسن استخدام أمواله موارده الاقتصادية فإن ذلك سوف يؤدي في النهاية الي حسن استخدام الموارد الاقتصادية القومية ويقلل الهدر والتبذير وتخفيض التكاليف من ناحية, مع زيادة الفرص لاكتشاف أفضل أساليب الإنتاج وتحقيق التجويد والإبداع والتطوير من ناحية أخري, وبما يحقق الخير العام, ومن هنا جاء آدم سميث مطالبا بالحرية الاقتصادية للأفراد, فهم أدري بمصالحهم, وبالتالي فإن إداراتهم لمواردهم الاقتصادية ستكون أكثر كفاءة وفاعلية. فرجل المال أو الأعمال الناجح هو تجسيد للمصلحة الشخصية, وهو يخدم المجتمع من خلال تعظيم ثروته وبالتالي ثروة البلد. وهذا لا يمنع من أن يكون رجل الأعمال نفسه إنسانا خيرا يقوم بأعمال البر والخير, بل إن هذا مطلوب, ولكنه في هذا يفصل بين عمله كرب عمل يدير أعماله وفقا للأساليب الاقتصادية, وبين تصرفه في دخله كفرد في المجتمع يشعر بمسئوليته الاجتماعية. ومن أجل هذه الكفاءة الاقتصادية لرجال المال والأعمال في إدارة أموالهم دعا آدم سميث الي مبدأ الحرية الاقتصادية. ولكن ما المقصود بالحرية الاقتصادية هل تمتد أيضا الي عملهم في الميدان السياسي. مادام هؤلاء قادرين وناجحين في إدارة أموالهم, أليس من المفيد أن نترك لهم إدارة سياسة البلد خاصة الإدارة الاقتصادية؟ أن المقصود بالحرية الاقتصادية, هو إلغاء القيود علي حرية رأس المال وتخليصه قدر الإمكان من الأعباء غير المبررة وترك المجال لحريته في الإبداع والتجديد وبما يحقق مصالحه الخاصة في حدود إدارة أمواله. وحرية رأس المال بإلغاء القيود علي تصرفاته لا تعني أن يفرض رأس المال سيطرته علي المجتمع. فهناك فارق بين حرية رأس المال وسيطرة رأس المال. فترك أصحاب الأموال للسيطرة علي السياسة ليس حرية اقتصادية, وإنما هو مجاوزة لذلك للسيطرة والتسلط علي الآخرين بقوة المال والسلطة معا. فالمال كما يشتري السلع والخدمات يمكن أن يشتري أيضا الذمم. بل كثيرا ما تؤدي سيطرة المال علي السياسة الي مزيد من التقييد للحرية الاقتصادية نفسها بدلا من أن تؤدي إلي التحرير الاقتصادي. فعندما نتحدث عن سيطرة المال علي السياسة فإن ذلك لا يعني أن كل صاحب مال قد أصبح رجلا سياسيا, وإنما يعني أن هناك قلة محدودة من رجال المال والأعمال تتحالف مع الحكم, وهي عادة تمثل مصالح محدودة, وغالبا لها أطماع احتكارية, ولذلك لم يكن غريبا أن تكون معظم السياسات المطالبة بفرض أنواع من الحماية الجمركية أو الدعم إنما هي نتيجة ضغوط المصالح المالية. كذلك كثيرا ما أدي تدخل المال في السياسة الي تدعيم الاحتكارات وتقييد المنافسة. وهكذا فليس صحيحا القول إن رجال المال يعملون دائما لصالح الحرية الاقتصادية بشكل عام, وإن كان من الصحيح أنهم يعملون دائما لمصالحهم الخاصة. كذلك ليس صحيحا دائما أن رجال المال والأعمال هم الأدري بما يصلح اقتصاد السوق. إنهم يعملون حقا في السوق ويعرفون مشاكلهم الخاصة, ولكن ليس من الضروري أن يعرفوا الحلول الناجحة لكفاءة نظام السوق. فالاحتكار مثلا في مصلحة المحتكر ولكنه قطعا عدو لنظام السوق. فالمنافسة ومنع الاحتكار وتوفير أكبر قدر من الشفافية وتشجيع التطوير التكنولوجي والالتزام بالمعايير الفنية في الإنتاج ومراعاة حقوق المستهلكين وأهم من هذا وذاك دفع الضرائب, هو ما يهم نظام السوق. وليس من الضروري أن تكون هذه الأشياء في مصلحة رجل المال والأعمال. والحقيقة أن رجال المال الناجحين بانتقالهم الي العمل السياسي يتسببون في خسارة مزدوجة للمجتمع, فهم بانتقالهم للعمل السياسي يفقدون المجتمع عنصرا ناجحا في العمل الاقتصادي, ونظرا لأنهم لا يتخلصون عادة بدرجة كافية من مصالحهم الخاصة, فإنهم يتسببون أيضا في الإضرار بالسياسة بإدخال عناصر المصلحة الخاصة في السياسة. فالطبع يغلب علي التطبع, ويصبح العمل السياسي لرجل الأعمال صفقة تجارية أخري. ولكن هل من الصحيح أن رجال المال الناجحين هم الذين ينتقلون الي العمل بالسياسة؟ يبدو أن هناك الكثيرين من رجال المال الأقل كفاءة ينتقلون الي العمل السياسي لكي يعوضوا عن طريق السلطة ما فاتهم عن طريق قدراتهم الخاصة فتصبح السياسة وسيلة للإثراء لمن لا يتمتع بالكفاءة الاقتصادية الكافية والمنافسة في هذا الميدان. وفي غير قليل من الأحوال تصبح السياسة دعما للنشاط الاقتصادي وليس العكس. ويقال إن ثروة بيرلوسكوني قد تضاعفت عدة مرات منذ توليه رئاسة الوزارة في إيطاليا. وتتعدد الأمثلة. ولكل ذلك فقد حرصت معظم الدول, خاصة الدول التي تأخذ بنظام الاقتصاد الحر, علي فرض القيود والضوابط علي تدخل المال في السياسة, وإذا نظرنا الي أوضاعنا في مصر خلال نصف القرن المنصرم نجد أننا نكاد ننتقل من نقيض الي آخر. فعندما قامت الثورة تضمنت في أحد مبادئها عدم الاستغلال ومنع سيطرة رأس المال. ولكن الثورة لم تكتف بمنع هذا الاستغلال أو تلك السيطرة بل تطرفت الي حد القضاء علي حرية رأس المال نفسه سواء مع التأميمات أو المصادرة أو الحراسات وأخيرا بالنظام الاشتراكي. ومع سياسة الانفتاح في منتصف السبعينيات بدأت إعادة الاعتبار للملكية الخاصة والاستثمارات الخاصة, وأصبح تشجيع الاستثمارات الخاصة أحد أهم مسئوليات الدولة. ومع ذلك فقد لاحظنا في الفترة الأخيرة أن الأمر قد جاوز تشجيع الاستثمار الخاص ومظاهر الحرية الاقتصادية الي أن وجدنا أن رجال الأعمال يحتلون وبشكل متزايد وأكثر ظهورا مواقع متقدمة في العمل السياسي, في الحكومة, وفي الحزب الوطني, وفي مجلس الشعب لا شك أننا في حاجة الي نظام حر لاقتصاد السوق, ونحتاج الي حرية أكبر لرجال الأعمال وسياسات تحررية في مختلف الميادين. ولكن اختلاط السياسة بالمال وتداخلهما ليس مظهرا للحرية الاقتصادية, بل قد يكون عبئا عليها وخطرا يتهددها. إننا في حاجة الي رجال أعمال لكي يقوموا بدورهم في الإنتاج والاستثمار. ولكن ليس في مصلحتهم أو مصلحة الوطن أن نخسر كفاءتهم في العمل الاقتصادي بانتقالهم الي العمل السياسي, كما أن تدخلهم في السياسة قد يكون مضرا بسلامة العمل السياسي نفسه بما في ذلك النشاط الاقتصادي. السياسة لها رجالها كما أن للصناعة والتجارة والمال رجالها, الخلط بين الأمرين مفسد لهم جميعا. وقديما كتب ابن خلدون مبحثا في مقدمته تحت عنوان في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة بالجباية فهل نتعظ ؟ الله أعلم. ------------------------------------- صحيفة الاهرام 17-10-2005