برلماني : كلمة الرئيس باحتفالية عيد تحرير سيناء كشفت تضحيات الوطن لاستردادها    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    برلماني: تنفيذ مخرجات الحوار دليل على جديته وقوته    سعر البيض الأحمر والدواجن اليوم في البورصة للمستهلك بعد الارتفاع المتتالي    برلماني: انقطاع الكهرباء يمتد لثلاث ساعات في القرى    بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة في الدقهلية    تنفيذ 15 حالة إزالة في مدينة العريش    رئيس COP28: على جميع الدول تعزيز طموحاتها واتخاذ إجراءات فعالة لإعداد خطط العمل المناخي الوطنية    بالفيديو.. اللقطات الأولى لحادث وزير الأمن القومي الإسرائيلى    شولتس يدعو لزيادة دعم أوكرانيا في مجال الدفاع الجوي    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    أخبار الأهلي : فيفا يكشف عن أمر هام بشأن مازيمبي قبل مواجهة الأهلي بساعات    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    النصر يتعادل مع اتحاد كلباء في الدوري الإماراتي    رياح مثيرة للأتربة تُعطل الحركة المرورية في سوهاج    كان بيستحمى بعد درس القمح.. مصرع شاب غرقًا في المنوفية    بالإنفوجراف والفيديو.. رصد أنشطة التضامن الاجتماعي في أسبوع    بعد صورتها المثيرة للجدل.. بدرية طلبة تنفي دعوتها للشاب حسن في زفاف ابنتها    دون سابق إنذار.. أنباء عن سقوط صاروخ داخل منزل بمستوطنة أفيفيم    شركة GSK تطرح لقاح شينجريكس للوقاية من الحزام الناري    الأوقاف تعلن أسماء القراء المشاركين في الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    تعرف على أعلى خمسة عشر سلعة تصديراً خلال عام 2023    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    بيراميدز يهزم الزمالك برباعية ويتوج بدوري الجمهورية    سيد رجب: شاركت كومبارس في أكثر من عمل    السينما الفلسطينية و«المسافة صفر»    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    نائبة تطالب العالم بإنقاذ 1.5 مليون فلسطيني من مجزرة حال اجتياح رفح    وكيل وزارة الصحة بأسيوط يفاجئ المستشفيات متابعاً حالات المرضى    ميار شريف تضرب موعدًا مع المصنفة الرابعة عالميًا في بطولة مدريد للتنس    مجلس أمناء العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    محافظ المنوفية: 25 فاعلية ثقافية وفنية خلال أبريل لتنمية المواهب الإبداعية    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    أسبوع الآلام.. الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل بختام الصوم الكبير 2024    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    يحيى الفخراني: «لولا أشرف عبدالغفور ماكنتش هكمل في الفن» (فيديو)    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    استقالة متحدثة أمريكية اعتراضًا على حرب إسرائيل في قطاع غزة    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    بداية من الغد.. «حياة كريمة» تعلن عن أماكن تواجد القوافل الطبية في 7 محافظات جديدة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل قامت ثورة في مصر حقا أم انقلاب عسكري...الجزء الاول‎
نشر في الواقع يوم 27 - 12 - 2011


بقلم د. عادل عامر
مقدمة :
تثور من حين لآخر تساؤلات ملحَّة عما يجرى في مصر: هل نحن إزاء ثورة؟ أم حالة ثورية؟ أم انتفاضة؟ أم هوجة؟ الخ.، ويتصل بهذا حديث عن نجاح الثورة باعتباره معيار كونها ثورة أصلا. ويتصل بهذا أيضا الحديث الخاص بطبيعتها وما إذا كانت ثورة اجتماعية أيضا بالإضافة إلى كونها ثورة سياسية. كما يتصل بهذا كذلك حديث الثوار أنفسهم عن ثورة أولى وثانية وثالثة وكأننا لسنا إزاء ثورة واحدة مستمرة بمختلف موجاتها ومراحلها بل إزاء ثورات متعددة بتعدد شعاراتها أو "مليونياتها" أو أهدافها المباشرة. وسأحاول الآن تفحُّص هذه الأسئلة وغيرها عن طبيعة ثورتنا وآفاقها والأخطار التي تُحْدِق بها.
تعنى الثورة ببساطة أن يثور شعبٌ على نطاق واسع وعلى زمن ممتدّ رافضا الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي القائم عاملا على إسقاطه أو تغييره تغييرا عميقا. وقد يثور شعب أو ينتفض فى سبيل أهداف محدودة ربما ردًّا على تطورات أو إجراءات سياسية أو اقتصادية، ويمكن أن ينجح فى تحقيق مطالبه أو أن ينجح النظام الحاكم في قمع انتفاضته وسحقها أو تهدئتها بالوعود الخادعة؛ ولعلّ انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 أن تكون مثالا جيدا على مثل هذه الانتفاضة الناجحة التي تكون على الأغلب قصيرة الأمد، رغم أهميتها التي لا جدال فيها بالنسبة لنضالات المستقبل. أما عندما يثور شعبٌ فى سبيل أهداف واسعة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وعلى مدى زمني ممتدّ يتجاوز الأسابيع إلى الشهور وربما الشهور إلى أعوام واضعا نصب عينيه إسقاط النظام كما تفعل الآن ثورات الشعوب العربية، التي ثارت بالفعل أو التي تنتظر الآن دورها، فإننا نكون إزاء ثورات شعبية سياسية. ولا ينبغى الشك فى أننا إزاء ثورات كاملة الأوصاف مهما كان نصيبها من النجاح ومهما عانت من نقاط ضعف قد تكون قاتلة في كثير من الأحيان. وإذا لم تكن ثوراتنا الراهنة ثورات رغم ضخامتها وشمولها واتساع الآفاق المفتوحة أمامها رغم الأخطار الهائلة المُحْدِقة بها فسوف يعنى هذا شيئا واحدا وهو أن العالم كله لم يشهد فى يوم من الأيام أىّ ثورات على الإطلاق؛ فأين كانت هناك ثورات أضخم أو أعمق أو أشمل أو أكثر نجاحا خاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن هذه الثورات ما تزال مستمرة وربما كانت ما تزال في مراحلها الأولى وما تزال لم تلحق بها شعوب عربية أخرى سواء شهدت إرهاصات وبدايات مهمة أو متعثرة لها أو لم تشهد. والثورة قد تنجح أو تفشل أو تجمع على الأغلب بين عناصر نجاح وعناصر فشل. ولا يعنى فشلها الكامل أو الجزئي أنها لم تحدث أصلا، وهى لا تفقد مغزاها ولا أهميتها لنضالات المستقبل حتى في حالة الفشل الكامل. ولهذا فإن معيار نجاح الثورة لا مبرر له، ولا يمكن اعتماده، لمجرد الاعتراف بأن ثورة ما قد حدثت. على أن مسألة نجاح أو فشل الثورة أعقد من كل هذا. ذلك أن معايير نجاح أو فشل ثورة تحتاج هي ذاتها إلى معايير لمعايرتها وقياسها: هل يُقاس النجاح بمعيار تحقيق أهداف تنطوي عليها العملية الفعلية لثورة ما أم بمعيار تحقيق أهداف من خارج تلك العملية؟ هل نتصور مثلا أهدافا اشتراكية لثورة غير اشتراكية ثم نستنتج من الفشل في تحقيق تلك الأهداف أنها لم تكن ثورة أصلا؟ والحقيقة أن التصور الأكثر موضوعية لطبيعة ثورة وللأهداف التي تنطوي عليها العملية الثورية الفعلية بصورة مُعلنة أو ضمنية هو الذي يمكن أن يقدِّم لنا المعيار الصحيح لقياس نجاحها من عدمه
. بداية الطريق ثورة سياسية
وثورتنا فى مصر والعالم العربي ما تزال على الأرجح فى بداية الطريق وقد حققت إلى الآن نجاحات مهمة للغاية، فلا معنى لقياس نجاحها بمعايير غريبة على طبيعتها وبالتالي إعلان أنها ليست ثورة بل مجرد كذا وكيت. والأهم أننا لسنا إزاء ثورة اشتراكية فنحن في الواقع إزاء ثورة سياسية تجرى في إطار واقع موضوعي يتمثل في التبعية الاستعمارية التي ما تزال مستمرة عندنا كما هي مستمرة في أغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وهى بلدان عالمنا الثالث الحالي، وما دامت الثورة متواصلة ومستمرة فلا ينبغي الحديث عن ثورة ثانية أو ثالثة أو رابعة، إلخ.، وكما هو واضح فإن المراحل أو الموجات أو المليونيات أو الإضرابات أو الاعتصامات الجديدة لاستكمال نفس الثورة الواحدة لا يمكن أن تشكِّل ثورات جديدة. ومثل هذا الحديث عن ثورات جديدة لا يؤدِّى إلا إلى الإرباك والارتباك وتقديم ذرائع للمماحكة إلى النظام القائم أو القوى السياسية المتربصة التي تعقد أو تسعى إلى عقد صفقات مع النظام، كما حدث بالفعل عند حديث قوى الثورة عما سمَّتْه بثورة الغضب الثانية، وهو تعبير غير موفَّق مع أن المقصود مفهوم وهو مواصلة الثورة. ولا شك في أن أي ثورات أو انقلابات عسكرية تطرح في مجراها إصلاحات اجتماعية واقتصادية وسياسية بدرجات مختلفة في عمقها ومدى استمراريتها ومدى قابليتها للحياة. وإذا كانت الثورة سياسية وليست في سياق ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح لهذه العبارة، فإن مثل تلك الإصلاحات تختلف تماما وبصورة جوهرية عن الثورة الاجتماعية. وهناك في مصر مَنْ يتحدثون عن ثورتنا على أنها ثورة اجتماعية، وهم في اعتقادي يخلطون خلطا لا يُغتفر بين الثورة الاجتماعية والإصلاحات الاجتماعية. ففي مجرى ثورة سياسية في سياق التبعية الاستعمارية، اى في غياب ثورة اجتماعية، يمكن بل من النموذجي إجراء إصلاحات اجتماعية تتعلق مثلا بإصلاح زراعي أو إصلاحات في الأجور أو الرعاية الصحية أو التعليم أو تقليص البطالة أو تخفيف مشكلة السكن أو غير ذلك، ولكن هذه الإصلاحات لا علاقة لها بالثورة الاجتماعية بالمعنى الصحيح إلا إذا كانت تتمّ في سياقها المحدَّد. وهناك مَنْ يجد تناقضا في الحديث عن ثورة لا تحقق في المجال الاجتماعي سوى إصلاحات بعيدا عن الإجراءات الثورية الجذرية الجديرة بثورة بعيدا عن منطق الإصلاحات والإصلاحية. غير أن المتأمل في الثورات التي حدثت فى العالم كله إلى الآن لن يجد أبدا حالة واحدة انتزعتْ فيها الطبقات العاملة والشعبية حقوقها بالكامل، وحتى فى الثورات التي سُمِّيَتْ بالاشتراكية لم تكن هناك سوى إصلاحات اجتماعية جزئية، بل إن مبدأ الثورات المسماة بالاشتراكية، مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب عمله"، وهو مبدأ المرحلة الاشتراكية بعد ثورة اجتماعية اشتراكية (وليس مبدأ "من كلٍّ حسب طاقته ولكلٍّ حسب حاجته"، اى مبدأ الشيوعية) ظل بعيدا تماما عن الممارسة الفعلية لصالح علاقات استغلالية جديدة. ولكي نفهم بصورة أوضح طبيعة ثورتنا السياسية وطبيعة نتائجها ينبغى أن نفكِّر جيدا فى سياقها أو إطارها التاريخي. وينبغي التمييز بين سياقيْن تاريخيَّيْن كبيرين للثورة السياسية فى عالمنا الحديث والمعاصر: الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية والثورة السياسية فى غير سياق الثورة الاجتماعية وبالأخص فى سياق التبعية الاستعمارية.
الانقسام الثنائي
لماذا هذا الانقسام إلى سياقيْن اثنين بالذات؟ لأن العالم انقسم ذات مرة إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى بوجه عام البلدان المتقدمة الآن من ناحية وبلدان كانت مستعمرات وأشباه مستعمرات لبعض هذه البلدان الرأسمالية الإمپريالية من ناحية أخرى، وانتهى هذا الانقسام في أعقاب مرحلة التحرر الوطني إلى استمرار نفس الانقسام ولكنْ إلى بلدان رأسمالية إمپريالية وهى البلدان الصناعية المتقدمة اليوم من ناحية وبلدان متخلفة وتابعة استعماريًّا وتمثل حظائر وأفنية وزرائب خلفية للرأسمالية العالمية من الناحية الأخرى، وهى البلدان غير الصناعية التى يجرى تدليلها باسم البلدان النامية وهى بلدان العالم الثالث التي فاتها قطار التحول إلى بلدان صناعية وبالتالي إلى الرأسمالية بالمعنى الحقيقي للكلمة فظلت تابعة لم تخرج من القفص الحديدي للثورة السكانية بدون الثورة الصناعية، هذه المعادلة الجهنمية التي فرضتها الكولونيالية منذ البداية على بلدان ما يسمى الآن بالعالم الثالث. وبالطبع هناك استثناءات: هناك بلدان كانت قد تخلفت عن رأسمالية أوروپا الغربية غير أنها لحقت بها وينطبق هذا في أوقات مختلفة على بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا والياپان، وهناك مستعمرات أو أشباه مستعمرات سابقة لحقتْ أو تلحق الآن بركْب الرأسمالية في ظروف تاريخية خاصة، رغم مشكلات سياسية واجتماعية وثقافية كبرى في هذه البلدان، وهى النمور الآسيوية الأصلية والصين. ولم تلحق معظم بلدان عالمنا الثالث بالرأسمالية فظلت ساحةً لاستغلال الرأسمالية العالمية ونهبها وسيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبقيت في حظيرة التبعية الاستعمارية، وصارت أفنية خلفية للإمپريالية العالمية، وإذا اعتبرناها رأسمالية تابعة فإن هذا يعنى أنها ليست صناعية وليست رأسمالية بالتالى فلا تكتسب الطابع الرأسمالي إلا باعتبارها ملحقة بالرأسمالية العالمية، بنظامها الرأسمالي العميل موضوعيًّا وذاتيًّا وبتبعيتها الاقتصادية بكل عناصرها الصناعية والزراعية والتجارية والخدمية والتكنولوچية وبالتالي بتبعيتها السياسية والثقافية بصورة لا فكاك منها رغم استقلالها السياسي الشكلي بمعنى الاستقلال وفقا للقانون الدولي فلا يتجاوز ذلك إلى الاستقلال الحقيقي. فما هى الثورة الاجتماعية؟ لقد استقرَّ فى الفكر السياسى التقدُّمى بالذات أن النظم الاجتماعية الاقتصادية وأنماط الإنتاج لا تنتقل من نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي آخر أو من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر إلا عن طريق ثورة اجتماعية، بل يتعرَّف هذا الفكر على الثورة الاجتماعية فى كل تجلياتها الاجتماعية المتمايزة وحتى المتناقضة ظاهريا من حيث التلاؤم مع إيحاءات وأصداء ومعظم دلالات تعبير "ثورة"، إذْ يتحدث الفكر السياسي عن الثورة العبودية والثورة الإقطاعية والثورة الرأسمالية باعتبارها جميعا ثورات على قدم المساواة من حيث كونها ثورات وفوق ذلك من حيث كونها ثورات اجتماعية؛ وإنْ كانت عهودا متعاقبة من العبودية. فالثورة الاجتماعية هي عملية التحول التدريجي من نمط إنتاج إلى نمط إنتاج آخر، وفى العصر الحديث والمعاصر استغرقت هذه العملية التدريجية التي كانت بالطبع عملية تحوُّلٍ من الإقطاع إلى الرأسمالية قرابة ثلاثة قرون في إنجلترا وزهاء قرنين في فرنسا وفترات أقصر نسبيا بعد ذلك نتيجةً لتطور الرأسمالية في غرب أوروپا وبالتالي نتيجةً لحرق مراحل في التحول الرأسمالي فى بلدان أوروپية أخرى وفى بلدان غير أوروپية كالياپان، بالاستفادة بمنجزات رأسمالية أوروپا الغربية صناعيًّا وعلميًّا وتكنولوچيًّا، وبتفادى جوانب من ويلات تراكماتها البدائية الأصلية، وبفضل مبدأ البدء من أعلى. ومنذ أواخر العهد الإقطاعى فى غرب أوروپا بدأت العملية التاريخية التدريجية الطويلة المدى للتحول إلى الرأسمالية مع التطور التدريجى للصناعة الحديثة مؤديًا إلى الثورة الصناعية والرأسمالية الزراعية وتطور السوق الرأسمالية العالمية والعلم النظرى والتطبيقى الحديث والتكنولوچيا الحديثة والثقافة العصرية والتحديث بكل نواحيه ومناحيه. وفى سياق هذه الثورة الاجتماعية التدريجية والطويلة الأمد جاءت ثورات سياسية، فماذا كانت وظيفتها، أو ماذا كانت ضرورتها، ما دامت عملية التحول الأكثر أهمية أىْ الثورة الاجتماعية جارية بالفعل قبل الثورات السياسية بوقت طويل وما دامت قادرة على الوصول إلى غاياتها حتى بدون ثورات سياسية؟
الفرق بين الثورة الاجتماعية والسياسية
: على أن الثورات السياسية التى تأتى فى سياق الثورات الاجتماعية هى الحالة النموذجية لهذا السياق، وقد تأتى فى سياق الثورة الاجتماعية ثورة أو ثورات سياسية، وإذا اعتبرنا أن الثورة الاجتماعية فى فرنسا دامت قرابة قرنين من الزمان من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791) ثم إلى وقت ما فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر مثلا فقد جاءت فى سياقها ثلاث ثورات: ثورة 1789-1794 العظمى وثورتا 1830 و 1848 فى فرنسا وبلدان أوروپية أخرى، فماذا كانت وظيفة هذه الثورات وبالأخص ثورة 1789؟ وما هى نتائجها المتصلة بالثورة الاجتماعية؟ والحقيقة أن الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية لها نتائج محدَّدة يمكن إيجازها فى ثلاث نتائج كبرى باعتبارها النتائج التاريخية والمنطقية لكل الثورات السياسية التى تأتى فى سياق ثورات اجتماعية أىْ فى سياق تحوُّلات رأسمالية جذرية، وكان هذا هو خط تطور البلدان الصناعية المتقدمة الحالية أىْ الرأسمالية الإمپريالية التى شهدها العصر الحديث والعالم المعاصر. وبالطبع فإن وظيفة الثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية تتجسَّد وتتجلَّى فى نتائجها كما تكشف نتائجها عن وظيفتها. والنتائج دائما وثيقة الارتباط بالأوضاع القائمة فيما قبل اندلاع الثورات السياسية مصداقا للقول المأثور "كل إناء ينضح بما فيه". ذلك أنه لا شيء يهبط من السماء التى لا تُمطر ذهبا ولا فضة فمقدمات الثورة وعواملها هى التى تفرز نتائجها، والحقيقة أن تلك المقدمات تتواصل إنْ جاز القول بأشكال جديدة فى أوضاع جديدة. وإذا أخذنا بتحليل أليكسى دو توكڤيل للعلاقة بين النظام القديم أىْ التراكمات الرأسمالية طوال أكثر من مائة سنة فى عهود الملكية المطلقة من جانب وثورة 1789 من الجانب الآخر ولرفض الشعب الفرنسى لهذا النظام وجدنا أن من المنطقى تماما كما كان من التاريخى تماما أن تكون هناك ثلاث نتائج كبرى: النتيجة الأولى هى استمرار التحول الرأسمالى الذى يأخذ دفعة تاريخية كبرى من إزالة الثورة السياسية للعراقيل والمعوقات التى كانت تقف فى طريق ذلك التحول الرأسمالى والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع والإقطاع الدينى الكنسى وامتيازات الأريستقراطية وبقايا القرون الوسطى رغم أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيًّا بل كان نظاما انتقاليًّا بفضل ما كان قد تحقق من تطور رأسمالى. وتمثلت النتيجة الثانية فى الانتقال الضرورى للسلطة السياسية إلى القوى الاجتماعية التى صعدت لتملك وتحكم ويتمثل الاستمرار هنا فى الحاجة الملحّة الكامنة فى صميم أهداف وتطلعات الرأسمالية الصاعدة إلى تنظيم وإدارة دولتها الجديدة وإلى القمع المزدوج لقوى الثورة المضادة من جانب ولجماهير الشعب من جانب آخر، ونلتقى هنا بهذه الضرورة التى تخلق الديكتاتورية من أعلى، وهكذا تنطلق من الثورة مرحلة عهد الإرهاب، و روبسپيير، وقمع الشعب، وغزو الشعوب الأخرى فى أوروپا بالإضافة إلى مصر وبعض جوارها، وصولا إلى الإمپراطورية وانقشاع أوهام المساواة التى حلّ محلها الاستغلال الرأسمالى وازدياد الأغنياء غنًى وازدياد الفقراء فقرا، وأوهام الحرية التى حلّ محلها الاستبداد والديكتاتورية، وأوهام الإخاء الذى حلّ محله استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وصراع الطبقات وحرب الكل ضد الكل. والنتيجة الثالثة استمرارٌ لرفض الشعب الفرنسى لكلٍّ من مظالم الأريستقراطية وبقايا الإقطاع وإقطاع الكنيسة وكل ما يعوق الحداثة من جانب ومن جانب آخر رفض استغلال النظام الرأسمالى الناشئ فى عهود النظام القديم والملكية المطلقة قبل انفجار الثورة الشعبية السياسية، وتتمثل هذه النتيجة الثالثة فى تحوُّل الفكر الفلسفى والاجتماعى والسياسى الرافض والممارسة الثورية الرافضة والثقافة الثورية الناشئة إلى ديمقراطية من أسفل تطورت بوجه خاص فى فرنسا القرن التاسع عشر من خلال نشأة الأحزاب والنقابات ومختلف الحركات الاجتماعية والفكرية والثقافية وكل أركان المجتمع المدنى فى سياق مقاومة الديكتاتورية من أعلى وفى مقاومة الاستغلال الرأسمالى. وعلى هذا النحو تقوم أوضاع اجتماعية وسياسية جديدة تمثلها نتائج الثورة السياسية الثلاث فى هذا السياق أىْ الرأسمالية كنتيجة أولى والديكتاتورية كنتيجة ثانية والديمقراطية من أسفل كنتيجة ثالثة. ويمكن بالطبع أن نتصور ثورات سياسية ليس فى سياق ثورات اجتماعية رأسمالية وحسب بل كذلك في ظل نظام رأسمالي راسخ، كما حدثت بالفعل ثورات سياسية ذات غايات كانت بالضرورة أضيق نطاقا بهدف تحقيق إصلاحات بعينها أو للتخلص من ديكتاتورية عاتية أو لتحقيق إصلاحات اقتصادية واجتماعية بالغة الإلحاح، كما تتعدد ثورات حداثية وعلمية وتكنولوچية وغير ذلك بحكم ضرورات الصراع فى ظل الرأسمالية المستقرة كنظام اجتماعي اقتصادي. *كما يمكن أن نتصور ثورة اجتماعية رأسمالية تؤدى إلى إقامة نظام رأسمالي كامل الأوصاف دون ثورة سياسية فيما يُعْرَف بالطريق الپروسى أو اليونكرى والمثال الأوضح هو الثورة الاجتماعية الياپانية التى جرت من فوق انطلاقا من ثورة (أو استعادة أو إحياء أو إصلاح) الميچى فى الفترة من 1868 إلى 1912 وليس انطلاقا من ثورة سياسية شعبية من أسفل. على أن الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية رأسمالية هى النموذج السائد والقاعدة العامة للتحول إلى الرأسمالية المتقدمة فى عالمنا الحديث والمعاصر، فيما تمثل الثورة الاجتماعية بدون ثورة سياسية الاستثناء، كما فى حالة الياپان. ويمكن إيجاز ما سبق فى أن الثورة الاجتماعية فى العصر الحديث، أىْ الثورة الاجتماعية البرچوازية أو الرأسمالية، ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن أسلوب الإنتاج الرأسمالىّ، وقد تأتى الثورات السياسية البرچوازية الشعبية مبكرا نسبيا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد تتكرَّر وقد لا تأتى بمعنى جوهرىّ أبدا فيتحقق التحوُّل من خلال ثورة اجتماعية تدريجية فوقية، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو على أشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو حتى على تشكُّلات جنينية أو غير مكتملة للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية. ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات ووحشيتها لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية وأهوال ما يسمَّى بالتراكم البدائى فى تاريخ كل البلدان الرأسمالية المتقدمة. والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير! وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية باستثناء الثورة الأمريكية من وجهة نظرها، فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها وعن الاستبداد الناشئ عن الثورات السياسية (باستثناء الثورة الاشتراكية من الناحية النظرية بطبيعة الحال) على أن الثورة الأمريكية لا تشكل أىّ استثناء حقيقى تتصوَّره هذه الفيلسوفة فهناك نجد نفس النتائج الثلاث الكبرى للثورات الاجتماعية أىْ الرأسمالية واستغلالها والديكتاتورية البرچوازية فى نهاية المطاف والديمقراطية من أسفل، كذلك فإن الاستثناء الماركسى للثورة الاشتراكية من الاستغلال والديكتاتورية يظل فى نطاق النظرية وما يزال تحقيقه فى رحم المستقبل فيما تجسَّدتْ الاشتراكية كما تحققت فى الواقع فى استغلال رأسمالية الدولة والدكتاتوريات الستالينية وما بعد الستالينية لأن الثورات المسماة بالاشتراكية طوال القرن العشرين كانت رأسمالية فى حقيقتها وكانت فى روسيا بالذات ثورة رأسمالية بقيادة شيوعيِّين مخلصين كانوا يتصورون أنهم يبنون الاشتراكية غير أن القول المأثور السابق الذكر "كل إناء ينضح بما فيه" كان ماثلا هنا أيضا إذْ إن "النظام القديم" السابق للثورة البلشڤية فى روسيا لم يكن إقطاعيا رغم بقايا الإقطاع ولم يكن قروسطيا رغم البقايا القروسطية وحتى التتارية بل كان نظاما انتقاليا يتجه بخطى بالغة السرعة صوب الرأسمالية وفقا لتحليلات لينين التفصيلية وتحليلات ماركس و إنجلس الموجزة من قبله.
التبعية الاستعمارية
وهكذا كانت الغلبة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فى روسيا على مطامح وغايات وأيديولوچيا القيادة الشيوعية المخلصة. وإذا كانت النتيجتان الرأسمالية والديكتاتورية للثورة السياسية ("البلشڤية")، فى سياق الثورة الاجتماعية الرأسمالية التى تواصلت منذ إلغاء الرق فى روسيا فى 1861 حتى نضج رأسمالية الدولة السوڤييتية عند منتصف أو بعد منتصف القرن العشرين، حاضرتيْن فى شخص رأسمالية الدولة وديكتاتورية ستالين العاتية، فقد تعقدت مسألة الديمقراطية من أسفل لأن الثورة ذاتها كانت ثورة ضرورة فى سياق الحرب العالمية الأولى والاحتلال الألمانى لأجزاء واسعة من روسيا كما ارتبطت بالدور الكاسح للدولة فى الاقتصاد وكل شيء آخر وكان تطور الثقافة فى روسيا فى الآداب والفنون والعلوم على نطاق واسع يمثل الديمقراطية من أسفل المحرومة من أدوات سياسية حقيقية. وبالطبع فإن الديمقراطية من أسفل يمكن أن تنشأ وتنمو وتتطور ليس فقط نتيجةً لثورات شعبية بل كذلك فى مواجهة أنظمة استغلالية واستبدادية وفاسدة كما كان الحال فى روسيا القيصرية وفى فرنسا فى عهود سابقة على ثورة 1789 السياسية وحتى فى ظل الاحتلال الكولونيالى كما حدث فى الهند ومصر وأماكن أخرى فى المستعمرات السابقة.
ثورة اجتماعية
وعلى العكس تماما من الثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية، ظلت الثورة الاجتماعية غائبة عن الثورات السياسية فى العالم الثالث، عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، وبالتالى عالم التبعية الاستعمارية، وبالتالى عالم الثورات السياسية فى سياق التبعية الاستعمارية. والتبعية كما يعرف الجميع هى النقيض المباشر للاستقلال، ومعنى هذا أن التحول الجذرى إلى بلدان صناعية حقيقية صار مفتاح التحرر من التبعية وتحقيق الاستقلال، كما صار الأساس الوحيد لتفادى المصير المفزع الذى يتهدَّد بلدان العالم الثالث التى تخلَّفت عن اللِّحاق بالرأسمالية. وقد شهد العالم الثالث ثورات سياسية شعبية أو انقلابات عسكرية أيدتها شعوب ضد النظام الاقتصادى والاجتماعى والسياسى القائم. وكانت النتائج فى أغلب الأحوال استمرار "النظام القديم" (النظام الاجتماعى-الاقتصادى السابق) أىْ التبعية الاستعمارية برأسماليتها التابعة مع إحلال ديكتاتورية جديدة محل القديمة، وكان "خلف كل قيصر يموت قيصر جديد"، وكانت الثورات الشعبية الناجحة تأتى أيضا بديمقراطية من أسفل (كما كان الحال فى النصف الأول من القرن العشرين فى أعقاب ثورة 1919) وهذا ما لم تكن تفعله الانقلابات العسكرية (كما كان الحال فى النصف الثانى من القرن العشرين فى أعقاب انقلاب 1952). فماذا كان ذلك "النظام القديم"؟ والحقيقة أن هذا "النظام القديم" السابق لثورات وانقلابات العالم الثالث كان يختلف بصورة جوهرية عن "النظام القديم" السابق للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال أىْ فى البلدان الرأسمالية الحالية. ذلك أن نجاح الثورات الرأسمالية فى الشمال كان يعنى انتصار ذلك "النظام القديم" لأنه كان يمثل المستقبل، وكان المزيد من نموه بفضل نتائج الثورة السياسية يعنى التحوُّل الراسخ إلى النظام الرأسمالى والحضارة الرأسمالية لأن "النظام القديم" كان يمثل الرأسمالية فى مرحلتها التأسيسية اقتصادا ومجتمعا وفكرا وأيديولوچيا وثقافة وسياسة. وكان "النظام القديم" هو الأب الشرعى للنظام الجديد، بل كان "النظام القديم" هو النظام الجديد بعد أن كبُر ونما ونضج ورسخ، وكان هو الطور الأحدث "للنظام القديم"، وكانت الثورة السياسية هى الداية التى قامت بتوليد المجتمع القديم الحامل بمجتمع جديد. وكما يكون الإنسان جنينا ثم وليدا ثم يستوى رجلا أو امرأة كان النظام الرأسمالى جنينا فى رحم الإقطاع ثم وليدا فى طور التكوين والتأسيس ("النظام القديم") ثم استوى رجلا أىْ نظاما رأسماليا كامل النضج. وعلى العكس من ذلك تماما كان "النظام القديم" السابق فى العالم الثالث للثورة السياسية الشعبية أو للحركة التى يُطْلِقها انقلاب عسكرى يؤيده الشعب هو النظام "الرأسمالى" التابع الذى نشأ فى ظل السيطرة الإمپريالية والاحتلال العسكرى الإمپريالى والإدارة الأجنبية الإمپريالية وكان من المنطقى ألا يتطور هذا النظام الرأسمالى التابع إلى رأسمالية صناعية حقيقية بل كان عليه أن يزداد تخلفا وتبعية على المدى الطويل بعيدا عن الاستقلال الحقيقى الذى لا يتفق مع التبعية الاقتصادية التى تجلب معها كل التبعيات الأخرى، وهكذا أعادت الإمپريالية خلق المستعمرات وأشباه المستعمرات على صورتها أىْ وفقا لمقتضيات مصالح الرأسمالية العالمية. وقد أطلق الاحتلال الإمپريالى ونشوء المستعمرات وأشباه المستعمرات فى أوقات مختلفة على أراضى العالم الثالث الحالى ثورة سكانية كانت نعمة فى البداية (مثلا فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين) وكانت نقمة بعد ذلك (مثلا فى مصر فى النصف الثانى من القرن العشرين وبعد ذلك إلى الآن)، والحقيقة أننا هنا إزاء "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية". وينظر بعض السُّذَّج إلى مثل هذا الحديث عن المسألة السكانية أو الديموجرافية على أنه حديث جغرافى وهذا خطأ كبير لأننا لا نتحدث عن البحار والجبال والأنهار ورمال الصحارى وعذرية الغابات العذراء فى حد ذاتها ولا عن البشر فى مراحلهم الأكثر أوَّلية قبل تكوين مجتمعات مشاعية متبلورة، بل نتحدث عن إعادة إنتاج البشر لأنفسهم فى إطار اجتماعى يرتبط فيه بشدة النموذج الديموجرافى بالنموذج الاجتماعى ونمط الإنتاج. ومهما يكن من شيء فإن ثمار الثورة الصناعية كانت قد صارت احتكارا للغرب ولم تكن للتوزيع السخىّ بأريحية على شعوب العالم، الأمر الذى وقف حاجزا منيعا أمام امتداد الثورة الصناعية إلى باقى العالم وبالذات عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات، فيما كانت أبسط إجراءات الرعاية الصحية التى جاءت مع الغزاة المحتلِّين مثل مكافحة الملاريا، إلى جانب أشياء أخرى، اقتصادية واجتماعية، كافية للحدّ من وفيات الأطفال وبالتالى زيادة معدلات النمو السكانى ثم بالتالى إطلاق الثورة السكانية والانفجار السكانى على المدى البعيد لتغدو الزيادة السكانية نقمة حقيقية بعد أن كانت نعمة حقيقية لفترة غير قصيرة. نستطيع أن نستنتج مما سبق أن مصير الثورات مرهون إلى أبعد حدّ بما قبلها، بما يسبقها، بمقدماتها وعواملها وتراكماتها الفعلية التدريجية الطويلة على الأرض. ذلك أن الثورة السياسية إنما تفتح الطريق بأعمالها وضرباتها المفاجئة الجريئة والقوية والعنيفة أمام إخراج محصلة تلك التراكمات إلى النور وإخراج الكتكوت من البيضة وإخراج الجنين المكتمل النمو من الرحم. وقد تكون هذه التراكمات مسارا إلى الأمام وإنْ تدريجيًّا وخطوة خطوة وببطء أحيانا وبسرعة أحيانا أخرى، كما رأينا فى التطورات السابقة للثورات الرأسمالية فى الغرب أو الشمال. غير أنها يمكن أن تكون تراكمات تُفاقم التبعية الاستعمارية الشاملة وتؤبِّدها، وتجعل تحقيق الاستقلال الحقيقى، الذى يساوى فى سياق حالة العالم اليوم التحوُّل الرأسمالى الحقيقى أىْ التقدم الصناعى الجذرى، أملا بعيد المنال إنْ لم يكن مستحيلا فى معظم الأحوال. وتكمن مشكلتنا الحقيقية فى أن ثوراتنا السياسية تجرى فى هذا السياق، سياق تفاقم التبعية الاستعمارية عبر ثوراتنا السياسية ورغم ثوراتنا السياسية، وهكذا فإن مصير ثوراتنا مرهون بهذا السياق، سياق الطابع السلبى لما قبلها من جميع النواحى باستثناء الجانب الإيجابى المتمثل فى الرفض الشعبى، ومن هنا كان العدو الأول لثوراتنا يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته. وهذه قصتنا فى مصر منذ ثورة 1919 السياسة الشعبية، الوطنية والديمقراطية، الاستقلالية والدستورية، العظمى، حيث تمرّ الثورات والانقلابات بنجاحاتها وانتصاراتها وإخفاقاتها ويبقى الوجه القبيح للتبعية الاستعمارية الشاملة والديكتاتورية. والآن تكتمل دورة من دورات تاريخنا الحديث فنجد أنفسنا أمام شعارىْ ثورة 1919: الاستقلال والدستور من جديد ولكنْ فى ظروف وأوضاع متغيِّرة. كان هناك احتلال بريطانى ونظام ملكى وفى سياقهما انفجرت تلك الثورة وشعاراتها وأهدافها، ومن هنا كان الاستقلال المطروح يهدف إلى الجلاء وتحرير البلاد من الاحتلال البريطانى فى المحل الأول. وكان أقصى ما تحقق يتمثل فى إلغاء الحماية البريطانية على مصر وفقا لتصريح 28 فبراير 1922 وتوقيع معاهدة 1936 حتى إلغائها فى 1951، وكذلك ديمقراطية دستور 1923. وكان طرح شعار الدستور دون شعار الجمهورية من جانب التيار السياسى السائد يعنى القبول بملكية دستورية. وفى هذا الإطار نشأت ديمقراطية الحريات النسبية من أحزاب ونقابات وصحافة حرة ونهضة ثقافية منطلقة من أدب وموسيقى وفن تشكيلى. غير أن الديكتاتورية من أعلى ظلت تقمع الحريات وتحكم البلاد ليس بالأغلبية الپرلمانية لحزب الوفد كقاعدة ملزمة للاحتلال البريطانى والقصر الملكى بل بالانقلابات الدستورية وحكومات الأقلية والسلطة الاستعمارية للاحتلال والسلطة الملكية. وهكذا كانت لثورة 1919، تلك الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية الكبرى، التى لا يجب التقليل منها لحساب امتداح الثورة الراهنة، ثلاث نتائج كبرى:
1: استمرار النظام: الاحتلال البريطانى، والقصر الملكى، والرأسمالية التابعة
2: الديكتاتورية من أعلى 3: الديمقراطية من أسفل فى شكل الحريات الحزبية والنقابية والصحفية التى عصف بها جميعا الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952.
ويبدو أن هذه هى قسمة الثورات والانقلابات التى "أيَّدها الشعب" كما يقال، فى العالم الثالث كله، حيث لا تبقى سوى نفس النتائج دائما أو فى أغلب الأحوال أىْ باستثناءات قليلة. وجاء الانقلاب العسكرى فى 1952 لتستمر نفس الرأسمالية التابعة متخذة شكل رأسمالية الدولة بعد التخلص من المحتل باتفاقية الجلاء ومن النظام الملكى بإحلال النظام الجمهورى محله وتأميم قناة السويس وبناء السد العالى كإنجازات بارزة، مع قيام ديكتاتوريات عاتية متعاقبة فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك، وهى ديكتاتوريات عسكرية وپوليسية، ديكتاتوريات السجن الحربى والقلعة وأبو زعبل والواحات ودولة المخابرات وما وراء الشمس فى عهد عبد الناصر، وديمقراطية الأسنان الحادة و"المفرمة" فى عهد السادات، وديمقراطية قانون الطوارئ والتعددية الصورية والتمديد والتوريث وصولا إلى ديمقراطية القتل بالجملة وديمقراطية موقعة الجمل، مع تفاقم التبعية الاستعمارية، والفشل كنظرية وكتطبيق الذى مُنِىَ به المشروع الاقتصادي الناصري للانقلاب المسمى بالثورة، بعيدا عن التحرر من التبعية الاستعمارية. وهكذا عصفت حركة 1952 بالحريات النسبية ولم تترك ديكتاتورياتها العاتية مجالا حقيقيا لأىّ ديمقراطية من أسفل. ولم يقتصر الأمر على أن العسكر لم يحققوا مبدأ "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، كما نادى بيان الانقلاب العسكرى، بل تمثَّل عملهم المباشر فى تصفية ديمقراطية من أسفل كانت قائمة بالفعل وتصفية كل حياة سياسية أو نقابية والقضاء على كل تعددية وإلحاق كل أدوات النضال الشعبى بما فى ذلك القضاء، الذى تمَّ تقويض استقلاله، بالدولة وإدماجها فيها وإقامة نظام إدماجى كورپوراتى نتيجة لكل ذلك، وكنا بالتالى إزاء خطوة كبرى إلى الوراء، فى تراجع متواصل قاد إلى هزيمة يونيو 1967 التى كانت هزيمة للنظام كله والتى كانت أساس التطورات اللاحقة فى مصر والعالم العربى بما فى ذلك معاهدة السلام مع إسرائيل التى كان على مصر أن تدفع فيها ثمن فاتورة هزيمة 1967 لا أن تحصل على جائزة فاتورة حرب اللانصر واللاهزيمة كما كانت تسمَّى حرب أكتوبر فى ذلك الحين فى الصحافة المصرية شبه الرسمية قبل أن نسمع عن نصر أكتوبر وبطل الحرب والسلام وبطل الضربة الجوية وغير ذلك، فلماذا لم تنشأ عن حركة 1952 ديمقراطية من أسفل كما تنشأ مع الثورات السياسية الشعبية بوجه عام؟ والإجابة هى أننا كنا إزاء انقلاب عسكرى ولم نكن إزاء ثورة شعبية مثل ثورة 1919 أو ثورة 25 يناير 2011. لقد كنا إزاء قيام انقلاب 1952 العسكري الناصري بتصفية المكاسب الديمقراطية لثورة 1919 الشعبية الكبرى، تلك الديمقراطية من أسفل التى نمت وازدادت صلابة وتواصلت، على مدى عقود العشرينات والثلاثينات والأربعينات وبداية الخمسينات، رغم الاحتلال البريطانى الإمپريالى ورغم استبداد القصر الملكى. وبعد قيام حكم العسكر فى عهد عبد الناصر بالتمصيرات ثم بالتأميمات الكبرى نشأت رأسمالية الدولة البيروقراطية التى نشأت منها كل عناصر فساد ذلك العهد وما تلاه بما فى ذلك رجال العهدين التالييْن الناشئين من أصلاب البيروقراطية للتحول من خلال رأسمالية الدولة ذاتها ثم من خلال الخصخصة وابتياع ممتلكات الدولة ونهبها وسرقتها بتراب الفلوس كما يقال إلى طبقة مالكة تستمد حقوق ملكيتها فى أكثر الأحيان من اللصوصية المباشرة، وظلت مع ذلك طبقة فى ذاتها وليس طبقة لذاتها حيث إنها لم تكن طبقة حاكمة من خلال حزب حقيقى بل كانت تدبر مصالحها الاقتصادية والسياسية ذاتها فى ظل حكم الشخص أىْ مبارك وأسرته والحلقة الضيقة من رجاله المقربين من خلال استرضاء ورشوة هؤلاء والتقرب إليهم والاستناد فى تكوين نفوذهم إلى النفوذ المطلق لهؤلاء. وفى العهود الثلاثة، جرى "تجريف" الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية، وكان من المنطقى أن يستفحل ويتفاقم كل هذا فى العهد الأخير، عهد مبارك، الذى وصل فيه الفساد والاستبداد إلى حدود لا يصدقها العقل، نتيجة أنانية مجنونة وشراهة عمياء فقدت كل صلة بأىّ حسابات سياسية متوازنة نسبيا وعقلانية نسبيا، وفى هذا السياق جاءت ثورة 25 يناير 2011، فما هى آفاق هذه الثورة، وماذا تستطيع أن تحقق، وهل يغدو من المحتَّم عليها أن تؤدِّى إلى استمرار النظام بدون رأسه وأسرته وحلقة ضيقة من رجاله، وهذا يعنى بالطبع وقبل كل شيء استمرار التبعية الاستعمارية بعيدا عن الاستقلال الحقيقى، مع تبلور نفس الديكتاتورية العسكرية المباشرة أو غير المباشرة، مع نشأة وتطور الديمقراطية من أسفل فى مجرى صراع لاهوادة فيه مع التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة ونظام الاستغلال والفساد والاستبداد والديكتاتورية العسكرية وحلفائها الجدد من إسلام سياسى وليبرالية متعاونة كما تعاونت مع نظام مبارك من قبل؟
يمكن أن نستنتج مما سبق أن المشكلتيْن الكُبْرَيَيْن اللتين تنطوى عليهما مصر تتمثلان فى عنوانيْن كبيرين هما الدستور والاستقلال. وتحت عنوان الدستور يندرج كل ما يتعلق بالديمقراطية من أسفل بحرياتها وصحافتها وأحزابها ونقاباتها ومختلف منظماتها واتحاداتها وبكل تأثيرها على المجتمع والدولة وإكراهها الذى تمارسه عليها خاصة فى فترات المدّ النضالى. ومن ناحيته يعنى الاستقلال التحرر من التبعية الاستعمارية الشاملة القائمة، هذا التحرر الذى لا يمكن بلوغه إلا عن طريق خلق بلد صناعى حديث متقدم وإنْ كان ذلك بالضرورة ضمن الإطار التاريخى للرأسمالية ما دامت الشروط التاريخية الموضوعية والذاتية للثورة الاشتراكية فى العالم المتقدم ومن باب أولى فى العالم الثالث وفى منطقتنا العربية ومصر بعيدة جدا عن أن تكون قائمة فى الوقت الحالى وفى المدى المرئى. على أن مناقشة هاتين القضيتين تقتضى إلقاء نظرة عامة على تطورات الثورة الراهنة، فى مرحلتها الأولى، ثم فى موجاتها اللاحقة وبالأخص موجة 8 يوليو 2011 وما تلاها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.