«زى النهارده».. محكمة العدل الدولية: «طابا مصرية» 29 سبتمبر 1988    تقديرًا لجهودها.. قرار جمهوري يجدد الثقة في الدكتورة جيهان عبدالفتاح عميدًا لكلية التربية للطفولة المبكرة    رئيس محكمة النقض يستقبل عميد حقوق الإسكندرية لتهنئته بالمنصب    وكيل تعليم الإسكندرية يكشف حقيقة صور المقاعد المتهالكة بمدرسة تجريبية    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. اليوم    أسعار الذهب اليوم في السعودية وعيار 21 الآن الإثنين 29 سبتمبر 2025    بنود يرفضها نتنياهو وحماس في مسودة خطة ترامب لوقف الحرب في غزة    زيلينسكي يعلن عن احتمال حدوث انقطاع للتيار الكهربائي في أوكرانيا    إعلام إسرائيلي: توقف مؤقت للرحلات الجوية في مطار بن جوريون    عاجل| إيران تؤكد: لا نسعى لتطوير أسلحة نووية وترفض مفاوضات تدخلنا في مشاكل جديدة    الدوري المصري الممتاز غيابات الأهلي والزمالك في مواجهة القمة: من سيتأثر أكثر؟    حسام غالي خارج القائمة.. محمد علي خير يكشف مفاجأة في قائمة الخطيب بشأن انتخابات الأهلي    فيريرا يصدم نجم الزمالك قبل ساعات من مباراة الأهلي    بعد مطاردة أمنية.. مصرع «صدام» صاحب فيديو فرض إتاوة في سوق أبو دياب بقنا    خروج عربات قطار بضائع عن القضبان في بني سويف    توقف حركة قطارات الصعيد عقب خروج قطار بضائع عن القضبان في بني سويف    أجواء خريفية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 29 سبتمبر    المؤبد لتاجر المخدرات الصغير.. بائع ملابس حول شبرا الخيمة إلى وكر للسموم    مهرجان هولندا لأفلام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يكشف عن جوائز دورته السادسة    142 يومًا تفصلنا عن شهر رمضان المبارك 2026    ارتفاع حصيلة الشهداء في غزة إلى 50 فلسطينيًا منذ فجر الأحد    الصين تعلن استعدادها لتعزيز التعاون مع كوريا الشمالية لمواجهة "الهيمنة"    حسين عيسى: انخفاض التضخم لا يعني تراجع الأسعار فورا    الإسكان: طرح 18 ألف قطعة أرض بمشروع «بيت الوطن».. والشائعات عن بُعد المواقع غير صحيحة    الأمانة العامة للصحة النفسية: إطلاق مبادرة لمواجهة إدمان الألعاب الإلكترونية.. الأمر لم يعد رفاهية    شراكة استراتيجية بين الحكومة وBYD لتصنيع السيارات الكهربائية    رئيس شعبة الدواجن: بيع الفراخ الحية في المحلات غير قانوني    منتخب المغرب يهزم إسبانيا في كأس العالم للشباب تحت 20 عاما    كونتي: أعجبني أداء الفريق رغم الخسارة من ميلان.. ونستقبل أهداف كثيرة    الحماية المدنية تنجح في إنزال جثمان مواطن ثقيل الوزن من شقته بالطابق الخامس    طالبا الدعم.. توصيات نتنياهو لمؤثرين أمريكيين تثير جدلا بمواقع التواصل    كل ما تريد معرفته عن قمة القاهرة بين الأهلي والزمالك بالدوري المصري    أحمد موسى: إخواني واخد أراضي كتير من بيت الوطن.. "واسطة ولا مين بيساعده"    كارولين عزمي تكشف عن مواصفات فتى أحلامها    ليفربول يحافظ على صدارة الدوري الإنجليزي رغم الهزيمة الأولى    وزير الزراعة: ارتفاع أسعار الطماطم مؤقت.. والأزمة تنتهي خلال أسبوعين    بمكون سحري.. طرق طبيعية لعلاج قرحة المعدة بدون أدوية    binge watching يهدد صحة القلب    7 أطعمة تؤدي للإصابة ب أمراض الكلى (تعرف عليها)    «المصري اليوم» ترصد شكاوى السائقين والمواطنين بموقف رمسيس الجديد بعد تشغيله جزئيًا    خالد جلال: مشكلة الزمالك فى الموارد المالية ومشكلة الأهلى أوضة اللبس    «عبدالصادق» يوجه بإنشاء فرع ل«اللغات» داخل الجامعة الأهلية    فيضانات في السودان بسبب سد النهضة.. عباس شراقي: كميات تغرق مصر لولا السد العالي    ليلى علوي في أحدث ظهور مع يسرا وهالة صدقي خلال حفل عمرو دياب    بشرط وحيد.. عبدالحكيم عبدالناصر: «الأمريكان عرضوا على والدي يرجعوا سيناء ورفض»    اختر كلماتك بعناية وحذر.. حظ برج الجدي اليوم 29 سبتمبر    أحمد السقا يطمئن جمهوره بعد حادث سير بسيارته: "الحمد لله بخير"    حكيم يطرح كليب "فظيعة فظاعة" بلمسة فرعونية وتقنيات الذكاء الاصطناعي    نجل عبد الناصر: قرار تنحي والدي بعد نكسة 67 لم يكن تمثيلية (فيديو)    «نهاياتهم مأساوية».. خالد الجندي يوضح حكم المجاهرة بالمعصية وتشجيع الفاحشة    هل يجوز تأجيل قضاء الصلوات الفائتة لليوم التالي؟.. أمينة الفتوى تجيب    تعرف علي مواقيت الصلاه غدا الاثنين 28-9-2025 في الدقهلية    وزير الزراعة: التوجه نحو الاقتصاد الأخضر ضرورة    الأربعاء.. مجلس النواب يبحث اعتراض رئيس الجمهورية على قانون الإجراءات الجنائية    إعلام فلسطيني: مستوطنون يحطمون مركبات المواطنين في بلدة حوارة تحت حماية قوات الاحتلال    إدخال 110 شاحنات تحمل 3 آلاف طن مساعدات للقطاع    الصداع النصفي ينهي حياة بلوجر ب«جلطة دماغية نادرة».. انتبه ل12 علامة تحذيرية    تعرف على مواقيت الصلاة غدا الاثنين 29سبتمبر2025 في المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليل كلفت يكتب: الحرب الأهلية فى ليبيا .. تحفر قبر نظام القذافي
نشر في الدستور الأصلي يوم 06 - 04 - 2011

1: صمد القذافى إلى الآن أمام الشعب الغاضب وقتا أطول من حسنى مبارك، ويوشك الآن على التفوق حتى على زين العابدين بن على، وربما استطاع أن يصمد وقتا أطول كثيرا استمرارا لنفس عوامل صموده إذا لم يكن الحظر الجوى المحتمل فعالا بما يكفى، والمهم أن هذا الخطر [خطر المزيد من صمود القذافى] بدأ يثير لدى أطراف متعددة متنوعة، مثل وكالة المخابرات المركزية من طرف وقوى الثورة العربية من طرف آخر، مخاوف من استعادة نظامه الديكتاتورى الدموى، الأمر الذى سيكون فى حالة حدوثه كارثة كبرى على الشعب الليبى، كما أنه سيمثل ضربة هائلة لتطلعات الشعوب العربية ولتواصُل وانتشار ثوراتها السياسية فى سبيل الحرية والعدالة والكرامة. وسأحاول فى هذا المقال أن أوضح أن أسوأ احتمالات مسار التطورات فى ليبيا، وأعنى احتمال نجاح القذافى فى إعادة "احتلال" ليبيا كلها، يشكل دون شك مستويات أكثر دموية من معاناة الشعب الليبى، غير أن ذلك لن يكون نهاية المطاف، فحتى فى هذه الحالة الكئيبة سوف تنتصر فى النهاية ثورة 17 فبراير الكبرى، لأن الوضع الجديد الناشئ فى حالة إعادة احتلال القذافى لليبيا سيكون من الناحية العسكرية البحتة فى صالح قوى الثورة وليس العكس، كما يصوِّر للقذافى وأبنائه وأعوانه جنونه وجنونهم.
2: ولا شك فى أن ليبيا، شأنها فى هذا شأن البلدان العربية النفطية الغنية والقليلة السكان، كان بمستطاعها أن تكون أنجح من البلدان العربية الأخرى فى التعامل مع الثورة، فهذه الشعوب التى لا تعانى شعوبها اتساع نطاق الجوع ولا الحياة تحت خط الفقر بنفس مستويات بلدان مثل مصر والسودان واليمن وغيرها، كانت فى وضع يسمح لها بتقديم تنازلات كبيرة فى مجال الحرية ومستويات المعيشة، وكان بوسعها أن تتحمل تبعات الديمقراطية مؤقتا، لو توفر لها قدر كاف من الحكمة والعقل، إدراكا منها لأرجحية أن يمتد الانفجار الثورى العربى الراهن ليشمل الجميع بلا استثناء، خاصة بعد أن شاهدت البلدان النفطية وغيرها السقوط المدوى لنظام بن على فى تونس، ثم لنظام مبارك فى مصر بلا إبطاء وبلا استراحة فاصلة بينهما، وبسرعة مفزعة. ولا شك فى أن انهيار هذين النظامين البشعين فى تونس ومصر كان يمثل بالنسبة لباقى الحكام العرب جميعا، ودون شك فى مناطق أخرى من العالم، كابوسا مخيفا لأنه كان قد أضحى المصير المحتمل بل المرجح للجميع منذ اللحظة الأولى. ولا شك فى أن كابوس الزلزال العربى بكل توابعه التى لا تقل عنفا كان يمثل إعصارا دماغيا لكل الحكام العرب ولكل حكام العالم، حيث صار حكام الغرب أو الشمال الإمپرياليون مهدَّدين بفقدان حلفاء أساسيين ومصالح كبرى، وحيث صار حكام العالم الثالث وحكام كل الديكتاتوريات ومنها الصين مهدَّدين مباشرة فى عقر دارهم.
3: غير أن الحكمة كانت مستعصية! وكان العقل مستعصيا! وكان خداع النفس يجعل كل إدراك مضللا لدى حكام البلدان العربية النفطية القليلة السكان، أىْ ليبيا وبلدان الخليج على وجه الحصر (لأن البلدين النفطيين الكثيفى السكان نسبيا، أىْ الجزائر والعراق، يختلفان بوضوح). وكانت الحسابات معقدة جدا لدى حكام تلك البلدان ومن عوامل الخطأ فى حساباتهم تصوُّرهم البائس أن الثورة فى تونس ومصر كانت ثورة جياع، كما كان متوقعا بسبب تأثير الأزمة المالية العالمية على بلدان العالم الثالث. ولهذا فإنهم لم يدركوا أن وجود عامل البطالة والفقر والجوع بلا جدال لا يستبعد أنها كانت بنفس القدر وربما بقدر أكبر ثورة فى سبيل الحرية والكرامة ضد ديكتاتوريات عاتية مثل كل الأنظمة العربية بلا استثناء تقريبا، لأنه لم يعد من الممكن استثناء ليبرالية لبنان، كما أنه لا يمكن استثناء الديمقراطية الأمريكية فى العراق. كان هناك إذن غرور مضلِّل لدى حكام النفط العربى أعماهم حتى عن إدراك أن الفقر نسبى عندما يؤخذ فى الاعتبار انعدام التوازن بين مستويات دخول مختلف طبقات مجتمعاتهم، وعن إدراك أنهم حكام أنظمة فاسدة حتى النخاع، وعن إدراك أن أنظمتهم تمثل أبشع صور الديكتاتورية والفساد والتخلف المطبوع بطابع القرون الوسطى. وهناك بالطبع عامل آخر عند هؤلاء الحكام، كما عند باقى الحكام العرب، كان وما يزال يحول دون تقديم تنازلات أمام شعوبهم لأن تقديراتهم التى لا تخلو من كثير من المنطق، رغم تناقض المبالغة فيها مع مصيرهم ذاته، تتمثل فى أن التنازلات ستبدو للشعوب ضعفا وأنها ستكون بالتالى عامل إشعال للثورة بدلا من أن تكون وسيلة فعالة لتفاديها أو القضاء عليها فى مهدها. وهناك أيضا تصوُّرهم جميعا أنهم محصَّنون باعتبارهم ملوكا وأمراء وسلاطين من الرفض الشعبى للتمديد والتوريث فى الجمهوريات العربية، لأن قاعدة حكمهم التى صارت مقدسة، رغم ندرتها فى عالم اليوم، هى قاعدة الحكم المقدس مدى الحياة والتوريث المقدس إلى أبد الآبدين. وهناك بالطبع يقينهم الذى يرسِّخه خداع النفس بأن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة فى بلدانهم اقتصاديا وعسكريا وأنها سوف تنجح فى حمايتهم من شعوبهم فى حالة الثورة. وبالطبع فإن القذافى يختلف عن حكام مجلس التعاون الخليجى فى أشياء كثيرة، غير أنه، وقد رفع نفسه فوق أصحاب الفخامة والجلالة والسمو جميعا محلِّقا فى سماء القائد الذى لا يحكم فى جماهيرية يحكم فيها الشعب بصورة مباشرة، يتفوق فى أوهامه عن نفسه، وعن أبنائه، وعن نظامه، وعن شعبه، على الجميع. وهكذا نرى الحقيقة غائبة، والعقل مُوهِما، والإدراك مضلِّلا، كما نرى فى حالة القذافى الذى أصابه خروج الشعب على يقينه الوهمى الراسخ بمزيد من الجنون، وكما نرى فى حالة البحرين حيث تهرع السعودية، تحت راية مجلس التعاون الخليجى، إلى النجدة العسكرية المباشرة، دون خشية من دخول إيران على الخط لحماية الأغلبية الشيعية فى البحرين، وذلك اعتمادا على تطمينات وضمانات أمريكية لا مناص من افتراضها، وكما نرى كذلك فى التعامل السعودى والكويتى مع بعض الإرهاصات الاحتجاجية، ولا أعرف ما إذا كان قابوس عمان قادرا على مواصلة التعقل الحالى. وبطبيعة الحال فإن الأنظمة العربية الملكية تخشى أن تطيح بها ثورات تتطلع إلى النظام الجمهورى، وألا تكتفى بملكيات دستورية تعنى أيضا من الناحية الفعلية أنها فقدت السلطة الحقيقية بنفس القدر، خاصة مع مطلب الملكية الدستورية فى الأردن وإلى حد ما فى البحرين وخدعة الملكية الدستورية فى المغرب. وبطبيعة الحال فإن المملكة العربية السعودية تأخذ فى حساباتها أيضا حقيقة اتساع قاعدتها الطبقية التى يمثل آلاف الأمراء السعوديِّين نواتها الأساسية، الأمر الذى يُشعرها بأنها ستكون قادرة، بعون الله والولايات المتحدة، على تحطيم الثورة فى كل بلدان مجلس التعاون الخليجى. ولا أريد أن أنسى أن هناك عامل عبادة المال والسلطة باعتبارهما فى تكاملهما واندماجهما إله العصر بلا منازع فى السماء أو الأرض بكل تلك الشراهة المروِّعة التى ظهرت عندما جرت تعرية شاملة لكثير من الأنظمة العربية إلى الآن. ولا شك فى أن هذه الشراهة بالثروات الطائلة بأرقامها الفلكية وبالسلطة المطلقة بوسائلها الشيطانية والرغبة فى الحفاظ على هذا الإنجاز الكابوسى التراكمى وإنقاذه تمثل عوامل وأسباب مهمة وراء السلوك اللصوصى والاستبدادى لهذه الأنظمة أثناء استقرارها قبل الثورة وأثناء الثورة المضادة الدموية المروعة عندما اندلعت الثورة. وقد يتساءل كثيرون عن مغزى كل هذا الحديث عن التصورات والأوهام والشهوات والشراهات وحتى عن الحقيقة والعقل والإدراك على حين أن الطبقات الحاكمة تضع سياساتها وتمارسها وفقا لمصالحها، والحقيقة أننا كنا نتعلم هذا فى الماضى، غير أن الطبقات الاجتماعية وإنْ كانت تحدد سياساتها وتمارسها مدفوعة بمصالحها فإنها تفعل ذلك فى الواقع وفقا لأفكارها وتصوراتها ونظرياتها وأوهامها عن مصالحها، وفى كثير من الأحيان تتوافق تصورات الطبقات عن مصالحها مع تلك المصالح غير أنها فى أحيان أخرى كثيرة لا تتوافق، فهل كان ما فعله هتلر وحلفاؤه فى الياپان وإيطاليا وغيرهما فى مصلحة الطبقة الإمپريالية الألمانية وطبقات تلك البلدان الإمپريالية الأخرى؟ وهل كان ما فعله صدام حسين فى مصلحة طبقته الحاكمة؟ وهل كانت الشراهة المفزعة للمال والسلطة لدى كل الحكام العرب فى مصلحة الأنظمة العربية لتكون نتيجتها هذه الثورة العربية العاصفة التى تهدف إلى الإطاحة بها جميعا؟ وهل كانت كل سياسات وممارسات حكام أمريكا أو الاتحاد السوڤييتى فى مصلحة الطبقتين الرأسماليتين الإمپرياليتين فى هاتين الدولتين؟
4: ونعود إلى القذافى، الذى ورطته أوهامه المشتركة مع بلدان مجلس التعاون الخليجى، وكذلك أوهامه الهائلة الخاصة، وورطه المزيد من الجنون نتيجة اصطدام كل أوهامه بالواقع الصلب للثورة. والآن، ما هى عوامل صموده إلى الآن، وصموده وحتى احتمال انتصاره المؤقت فى المستقبل خاصة إذا لم يكن الحظر الجوى المحتمل غير فعال بما يكفى؟ وما هى العوامل التى تؤكد أن القذافى قد انتهى مهما يفعل ومهما يكن مسار التطورات الراهنة؟ والحقيقة أنه كان هناك عامل لغير صالحه وبالتأكيد لصالح الثورة، ويتمثل هذا العامل فى ضيق قاعدته الطبقية الاجتماعية، فدولته خالية من أىّ مؤسسات ذات تاريخ، وينحصر نظامه فى شخصه وفى أولاده وأقرب المقربين منه، بالاستعانة برشوة بعض القوى وبتجنيد المرتزقة على نطاق واسع كمؤسسة يمكن الاعتماد عليها. وكان هذا العامل لصالح قوى الثورة التى صارت أكثر جذرية بالمقارنة مع تونس ومصر، حيث واجهت ديكتاتورا معزولا إلا من حاشيته المشار إليها وإلا من مرتزقته وإلا من خلفية قبلية غير حاسمة، الأمر الذى وحَّد الشعب الليبى، وجعل من الممكن أن يكون الجميع ضده وأن يشكلوا بالتالى مجلسا وطنيا انتقاليا "لكل ليبيا وعاصمتها طرابلس"، على النقيض من مصر بالذات، حيث القاعدة الطبقية الاستغلالية الفاسدة الواسعة، والمؤسسات البيروقراطية الضخمة، والمصالح الطبقية التى ما تزال تقف خلف المحاولات المسعورة لاستعادة نفس النظام مع التضحية برئيسه وبعدد من كباش الفداء من وزرائه والمقربين منه ومن مشاركيه فى الفساد مع ترك الجسم الضخم للفساد والاستبداد مختفيا مثل كتلة جبل الثلج. لقد اجتمعت إذن عوامل اتحاد الشعب الليبى، ومجلسه الانتقالى، وصلابته السياسية والعسكرية، والاستماتة البطولية فى سبيل النصر أو الموت، والانشقاق الواسع النطاق فى صفوف جيش كان قد جرى إضعافه لصالح قوى الأمن، تماما كما حدث فى تونس ومصر، وانشقلق العديد من المسئولين والقياديين والوزراء والدپلوماسيين، ... اجتمعت كل هذه العوامل وغيرها بفضل فظاعة الاستبداد القذافى والفساد القذافى، وبفضل الطابع الشخصى والعائلى لنظامه وحكمه.
5: أما الطبيعة الجغرافية لليبيا فقد لعبت دورا مزدوجا لصالح القذافى من جهة ولصالح الثورة من الجهة الأخرى. فهذه البلاد المترامية الأطراف صحراء تقطعها مدن ساحلية من الناحية الأساسية كما تقطعها واحات وقرى وكلها متفرقة متباعدة، ومن هنا فإن المناطق القاحلة أقامت بين المدن المأهولة بالسكان وحتى القليلة السكان للغاية مسافات كبيرة. وصار بوسع القذافى أن يلوذ بملاذ آمن مؤقتا فى معقل قوته بعيدا فى بيت العزيزية فى طرابلس منطلقا من هذا الحصن إلى إخضاع المدن الصغيرة نسبيا، القريبة من طرابلس والمعزولة عن باقى البلاد، ليقتطع لنفسه منطقة ربما كانت تحتوى على ثلاثة أرباع النفط الليبى، بحيث يكون قادرا على الصمود طويلا، واستجماع القوى واستعادة باقى البلاد إلى حظيرة الجماهيرية والكتاب الأخضر. واستبد به الجنون إلى حد استخدام كل أسلحة جيشه من طائرات وبوارج ودبابات ومدافع وصواريخ وغيرها بالإضافة إلى قوات أمنه ومرتزقته. وتكمن ميزة المرتزقة فى نظر القذافى فى أنهم سيضربون ويقتلون الشعب بلا رحمة، وأنهم لن ينشقوا لينضموا إلى الشعب، كما يفعل أفراد ومجموعات من الجيش. وقد تحقق للقذافى إلى الآن المزيد من النجاح فى الاحتفاظ بقلعته وغزو واحتلال المدن المحيطة بطرابلس، غير أن العيب الخطير فى هذا النجاح ذاته والذى يقلل من أهميته هو أن التدمير الدموى الجنونى للشعب ومقدراته يحفر بينه وبين الشعب هوة لا أمل فى عبورها ويجعله أكثر عزلة محليا وعربيا ودوليا. ومن المحتمل أنه يتجه الآن إلى بنغازى فيما يتجه مجلس الأمن إلى إقرار الحظر الجوى وإلا اضطر الغرب إلى فرض الحظر بدون مجلس الأمن والأمم المتحدة. وكانت هذه المدن والمناطق المتباعدة فى الجغرافيا عوامل مواتية للثورة التى كانت مدنها البعيدة عن معقل القذافى قادرة على إنضاج الثورة داخلها وحولها وفى المدن والمناطق القريبة منها وعلى تشجيع الانشقاق عن القذافى بتوفير ملاذات آمنة مؤقتة على أقل تقدير، بحيث تكون قادرة، كما فعلت بالفعل، على الزحف إلى المناطق القريبة من طرابلس المحتقنة والثائرة الصدور ولكنْ غير القادرة إلى الآن على الانفجار على نطاق واسع ومتواصل بحكم وجودها فى الجوار المباشر لمركز القمع الدموى المسعور. وهكذا كانت جغرافيا ليبيا مع القذافى وضده، ومع الثورة وضدها. على أن هذا الدور للجغرافيا يشمل مرحلة بعينها أو مراحل بعينها لأن تركيز قوات القذافى حاليا فى معقله وفى المدن والمناطق المجاورة بعيدا عن الانتشار الواسع أو الضرب الفورى لكل مكان، لن يظل قائما إلى النهاية، فهذا التركيز النسبى لوجود قواته يعطى فرصة فى نظره ونظر أشباله ومقربيه وخبرائه لبنغازى وغيرها للمزيد من التعبئة السياسية والعسكرية، وبالمزيد من نضج الثورة، ولا سبيل إلى هدف إخماد "الفتنة" فى مهدها، فى نظرهم، إلا بالانتشار شرقا بالذات، فى سباق محموم مع احتمالات الحظر الجوى. ولكنْ ما معنى الانتشار؟ إنه نفس التناقض بين التركيز والانتشار فى كل حرب وفى كل حرب أهلية كالتى تجرى فى ليبيا. فالانتشار سيؤدى بالضرورة إلى تفرُّق وتشتُّت قواته ومرتزقته ودباباته ومدرعاته وغير ذلك، وهذا ما يجعل الدبابة، على سبيل المثال، صيدا سهلا عند انتشارها بين الجموع، كما يجعل الأفراد أيضا صيدا سهلا، وهذا يعنى أن الثوار باستماتتهم وصلابتهم وعزيمتهم ومعنوياتهم المرتفعة سيحرقون الدبابات ومختلف المركبات ويقتلون أفراد قوات القذافى المنتشرين والمتفرقين الذين سيكونون قد فقدوا القوة التى كان يوفرها تركيزهم فى السابق. أما القذافى وأبناؤه وأسرته والمقربون منه فإنهم سيظلون مختبئين كالجرذان، كما هم الآن، فى بيت العزيزية خوفا من الاغتيال عند أىّ خروج أو ظهور، إلى أن تداهمهم الجماهير المنتصرة فى مخابئهم الحصينة. وربما كان أفضل خيار عسكرى للقذافى هو عدم الانتشار والاحتفاظ بتركيز قواته فى المدن الصغيرة والمناطق الأخرى المحيطة، تاركا استعادة باقى البلاد إلى زمن آخر. غير أن هذا الخيار وإنْ كان يمكن أن يطيل عمر نظامه، مع انكماشه فى طرابلس وما حولها، ينطوى على خطر لا يمكن استبعاده. فالمزيد من نضج الثورة فى الشرق سيتجه بها بالضرورة إلى الزحف إلى طرابلس الغرب، كما أن احتمال تزويد الثورة بالسلاح سيجعل هذا الزحف إلى الغرب احتمالا أكبر وفوق ذلك مدججا بالأسلحة الأكثر تطورا، على حين أن العالم أو الغرب لن يصبر على الاحتفاظ طويلا بحظر جوى ثقيل العبء وباهظ التكلفة، مما يجعل العالم أو الغرب ميالا إلى رفع كل تحفُّظ لديه الآن، أو كان لديه، على التسليح الفعال لقوى الثورة الليبية. وصحيح أن الغرب، خاصةً بعد تجربته فى العراق بالذات، يخشى من نظامٍ للإسلام السياسى فى ليبيا مع كل ما فى هذا الاعتقاد من مبالغة بعد أن تعرَّفنا من خلال الفضائيات لأول مرة على العشرات من النخبة الليبية المنفية، غير أن شعوب العالم لن تسمح لأمريكا بوضع أعصابها فى ثلاجة أمام المذبحة الدموية كما كان يمكنها أن تفعل بحكم عاداتها المقيتة.
6: ولا شك فى أن تدخلا مصريا (لا يؤثر بحدة على أوضاع القوات المسلحة المصرية من حيث قدراتها) وفى حدود فتح باب التطوع عبر الحدود المفتوحة بالإضافة إلى بطاريات دفاع جوى فعالة، كان من شأنه أن يحمى الثورة ويُغْنِيها عن سؤال اللئيم، كما كان من شأنه أن يؤدى إلى المزيد من تآخى الشعبين الشقيقين وضمان مستقبل أفضل للعلاقات بينهما، غير أن مصر الآن ليست فقط فى حالة ثورة، فهى أيضا، فيما يتعلق بحكام الأمر الواقع فيها، فى حالة ثورة مضادة عاتية، ولهذا فإنها تتردد حتى فى اتخاذ موقف إعلامى قوى، بل كانت مترددة حتى اللحظة الأخيرة فى الموافقة على مقترح الحظر الجوى الذى تفوقت به بلدان مجلس التعاون الخليجى، رغم فزعها من كابوس الثورة العربية، على مصر، وهو المقترح الغربى أصلا.
7: وليس بوسعنا أن نتجاهل هنا مخاوف كبيرة من الحظر الجوى الأوروپى الأمريكى على ليبيا فى العالم العربى، وفى مناطق أخرى كما فى موقف أردوغان تركيا بالإضافة إلى تحفظات روسيا والصين وغيرهما. وتتركز المخاوف على الخشية من أن يؤدى التدخل العسكرى إلى تحقيق الأطماع الأمريكية والأوروپية المتصلة بوضع أيدى أمريكا وأوروپا على النفط القريب والخفيف فى ليبيا. على أننا لسنا إزاء غزو شامل لليبيا، وليس هناك فى الغرب مجنون يمكن أن يفكر فى مثل هذا الغزو الذى سيكون إنْ حدث وبالا عليه، مفجرا المزيد من الثورة والغضب والعداء ضد أمريكا والغرب. إننا إزاء عملية لا تزيد عن حظر جوى نأمل فى أن يكون فعالا حتى ضد الطيران المنخفض بالمروحيات العسكرية. والغرب مضطر إلى اتخاذ هذا الموقف رغم أعبائه الثقيلة وتكلفته المالية الباهظة. فما الذى يدفعه؟ وبالطبع فإن ما يدفع أمريكا وأوروپا ليس حب الشعوب وليس الدفاع عنها ضد المذابح التى يرتكبها الطغاة ضد شعوبهم، فالجميع يعرفون التاريخ الدموى لأوروپا وأمريكا فى مجال القمع العسكرى الجنونى فى المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة فى العالم الثالث ثم بعد ذلك. إن ما يدفع الغرب يتمثل فى مصلحته الأكيدة فى علاقاته فى المستقبل مع ليبيا ما بعد القذافى ونفوذه المعنوى وغير المعنوى فيها بحكم المساعدة فى القضاء على حكم القذافى بكل جرائمه القديمة والجديدة، وذلك بالإضافة إلى أن قيام القذافى الآن بتدمير المنشآت النفطية وغيرها لا يهدد مصالح الشعب الليبى فقط بل يهدد مصالح أوسع فى منطقة البحر الأبيض المتوسط بالتلوث وانقطاع النفط الليبى عن أوروپا. وتجد أمريكا وأوروپا فى فرض الحظر الجوى فرصة مواتية لشيء من تحسين صورتهما فى العالم العربى والعالم، فوق البيعة، فوق بيعة حماية المصالح الغربية فى المنطقة.
8: ونستنتج مما سبق أن أىّ انتصار عسكرى جزئى أو شامل لقوات ومرتزقة القذافى سيكون مؤقتا، وأن الثورة هى التى سوف تنتصر فى نهاية المطاف فى هذه الحرب الأهلية التى تعصف بليبيا، والتى سيكون انتصار القذافى فيها عامل إحباط كبير للثورة العربية، فيما سيكون انتصار الثورة فيها عامل تعزيز وإلهام يقدمه شعب غزا السماء كما قيل عن كومونة پاريس، غير أنه سيكون قد نجح فى غزو السماء والأرض معا.
پيزا، إيطاليا، 16 مارس 2011 (والقسم 7 مضاف فى اليوم التالى)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.