عندما ضربت الانقسامات منطقة الشرق الأوسط، مع بداية الألفية الجديدة، إثر التفتت بين محور أسموه ب"المقاومة" وآخر وصفوه ب"الاعتدال"، باتت الفوضى هي المهيمن على الأوضاع الإقليمية الجمعية، فتشتت قضية فلسطين، بين الجغرافيا، عبر انقسام قاتل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وسياسيا، من خلال انقسام الكتلة الداعمة للقضية، في حين تسللت الفوضى بعد ذلك إلى داخل دول المنطقة، لتبلغ ذروتها إبان ما يسمى ب"الربيع العربي"، لتضع معظمها على حافة الحروب الأهلية، بينما سقط بعضها في مستنقع الصراع، لتعود سنوات إلى الوراء، لتستعيد المنطقة عافيتها تدريجيا بعدما استعادت مصر هويتها في 30 يونيو، لتكون نقطة الارتكاز التي استلهمتها دولا أخرى، خرجت شعوبها للإطاحة بالإرهاب من على مقاعد السلطة، بينما فتحت الأبواب أمام توافقات أخرى أكبر، لم تؤدي إلى تطابقات كاملة، وإنما أثمرت عن مشتركات، خلقت شراكات، ساهمت في خدمة المصالح الوطنية، عبر استعادة السيادة المفقودة ولو جزئيا في العديد من دول الإقليم، ومن ثم خدمة القضية المركزية، وهو ما بدا واضحا في الإدارة الإقليمية لأزمة غزة الأخيرة، والتي وإن أدت إلى دمار الإقليم واستشهاد آلاف البشر، فإنها حققت انتصارات دبلوماسية كبير، لا يمكن تجاهلها. الحرب الإقليمية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، لم تكن مجرد صراع بين دولها، أو حتى في نطاق أهلي، وإنما انطلقت من منطقة فكرية، تتبناها تنظيمات، ذات توجهات متطرفة، لتصبح المواجهة الحقيقية، ليست أمنية أو عسكرية، وإنما في واقع الأمر مواجهة فكرية، وهو الأمر الذي استكشفته القوى الإقليمية، وإن كان متأخرا، وهو ما يمثل تغييرا محوريا في إدارة المعركة التي خاضتها الدولة المصرية، سواء في إطار حربها على الإرهاب، أو حتى من خلال إدارتها للأزمات الإقليمية، ليتحقق إجماعا غير مسبوق منذ بداية القرن، على حزمة من الثوابت، توافق عليها معسكرين، كانا على طرفي نقيض طيلة ما يزيد عن عقدين من الزمان. وعند هذه النقطة تحديدًا، نجد أن ثمة حقيقة مفادها أن التطرف ولد في منطقتنا، في جزء كبير منه، جراء غياب السيادة، وهو ما نجم بطبيعة الحال عن استقطاب يحمل مسارين، أولهما إقليمي تبنته القوى الإقليمية، التي سعت لفرض نفوذها على مناطق التأثير باستخدام أذرع وميليشيات تحمل شعارات أيديولوجية، لا تعبر عن حقيقتها، وأخر دولي سعت من خلاله القوى الدولية الكبر إلى استغلال الخلل الناجم عن تلك الأيديولوجيات المزعومة لإعلان شكل جديد للصراع العالمي، في صورة صراع الحضارات، وهو الأمر الذي يتكرر حاليا في النصف الآخر من الكوكب والذي كان ينعم بالأمس القريب بالاستقرار، ولكنه بات يواجه نفس الخطر، في ضوء ظروف ليست متطابقة تماما ولكنها تتشابه في معطياتها، مع تصاعد النبرة ضد التنظيمات الإرهابية في أمريكا والغرب والأوروبي في الآونة الأخيرة. ولعل نقطة الانطلاق في الحرب ضد التطرف التي يخوضها الغرب، ليست في طبيعة الإجراءات، على أهميتها وحيويتها، ولكن في واقع الأمر ترتبط في تشخيص المعركة نفسها، فهي ليست حرب دينية ولا يمثل فيها الجانب الأمني سوى أحد أبعادها، إنما هي حرب سيادة، ليست بالمفهوم السائد، والمرتبط بالأرض والحدود، وإنما سيادة فكرية، يمكن من خلالها كل دولة فرض مبادئها وتقاليدها وإعادة إحياء إرثها، بعد سنوات من الاستقطاب متعدد الأوجه، تراوح بين التبعية لحليف واحد، ثم الذوبان في بوتقة الوحدة، على حساب الدولة الوطنية في كثير من الأحيان، ناهيك عن التداخل في آلية المعسكر الغربي وأطره وأنظمته ومؤسساته، وهي الأمور التي تشهد خللا هيكليا في اللحظة الراهنة جراء الانقسام والخلافات الكبيرة التي يشهدها الغرب، بالإضافة إلى بزوغ أزمة أوكرانيا، وما تحمله من تداعيات كبيرة أمنيا وسياسيا واقتصاديا تفتح الباب أمام ثغرات خطيرة يمكن استغلالها من قبل التنظيمات المتطرفة لتفتيت المجتمعات في لحظة معاناة حقيقية للمواطن. معركة استعادة السيادة تهدف في الأساس إلى إحياء الهوية الوطنية ومبادئ الدولة وأفكارها، لتكون تلك العناصر هي أدوات الشرعية لكافة الإجراءات الأخرى، التي تهدف إلى إضفاء حماية كاملة للحالة للأمن والاستقرار ووحدة الأرض، وهو الأمر الذي سبقت وأن حددته فرنسا عبر قوانين لملاحقة المتطرفين، وعلى رأسهم جماعة الإخوان، في السنوات الماضية، في إطار ما اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حماية مبادئ الجمهورية، بينما يساهم هذا النهج في تعزيز حالة الاتحاد، في الحالة الأوروبية، عبر التنسيق الأمني بين دول القارة، مع إعادة إحياء الهوية الوطنية، وما تحظى به كل دولة من خصوصية عبر انتهاج أسلوبها في مواجهة الأفكار المتطرفة، من جانب، وإدماج كافة الفئات المجتمعية في بوتقة الدولة من جانب آخر، بينما تمثل تلك الحالة في الوقت نفسه نقطة هامة لإعادة صياغة العلاقة مع الحليف الأمريكي عبر تحقيق قدر من التنسيق، من شأنه أحياء مشترك أمني جديد مع الولاياتالمتحدة، يمكنه خلق صيغة تفاوضية جديدة في إطار القضايا الخلافية الأخرى. فلو كانت مصر في الشرق الأوسط، قد أدارت المعركة الإقليمية ضد الإرهاب في الشرق الأوسط بكفاءة، عبر تقديم رؤيتها التي استلهمتها دولا ومازالت أخرى تحاول تطبيقها، فهناك العديد من القوى الأوروبية التي يمكنها القيام بالدور نفسه، منها على سبيل المثال فرنسا، باعتبارها قد اتخذت زمام المبادرة قبل سنوات، في إطار فكري، يعتمد مبادئ الجمهورية، والتي برزت في خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون كمرجعية وطنية، لا تتخلى في الوقت نفسه عن مبادئ أوروبا الموحدة، وهو الأمر الذي يساهم بصورة أو بأخرى في بناء حالة من التوافق، سواء في داخل القارة، يمكن البناء عليه في مواجهة الأزمة الأوكرانية، أو حتى في إطار أوسع فيما يتعلق بالعلاقة مع واشنطن، والتي أعلنت حربها على التطرف، وهو ما يخلق مصلحة مشتركة، في إطار أمني موحد، يتجلى في دحض التهديد الداخلي، وهو ما يمثل بعدا جديدا في العلاقات بين الجانبين، واللذين اعتمدا نهجا يقوم على مجابهة التهديدات الخارجية، تحت مظلة الناتو، وهو ما يعزز المشتركات في أكثر اللحظات التي تشهد فيه المصالح بين الجانبين تضاربا في العديد من الجبهات. وهنا يمكننا القول بأن درس العقدين الأخيرين، شرقًا وغربًا، هو أن الدولة الوطنية، بهويتها وحدودها وقرارها، ليست صيغة قديمة انتهى زمانها، بل الإطار الوحيد القادر على مواجهة فوضى العالم الجديد، وصناعة شراكات تقوم على الندية لا التبعية.