على مقربةٍ من الأهرامات، حيث تتلاقى الشمس بالحجر وتفوح رائحة الزمن من الرمال، تقف مصر اليوم أمام العالم لتقدّم أعظم هداياها للحضارة الإنسانية، المتحف المصري الكبير. إنه ليس مشروعًا عمرانيًا فحسب، بل ولادة جديدة لذاكرةٍ عمرها سبعة آلاف عام، ورسالة تقول إن الحاضر يمكن أن يكون امتدادًا نبيلاً للماضي، وإن مصر ما زالت قادرة على أن تُدهش العالم حين تفتح بابًا من أبوابها على الأبدية. صرح من نورٍ وحجر على مساحة تزيد عن نصف مليون متر مربع، شيّد المعماريون المصريون والأجانب معًا تحفةً معماريةً تعدّ الأكبر في العالم المكرّسة لحضارة واحدة. يمتدّ المتحف في مشهد بصري يأسر العين، متكئًا على هضبة الجيزة بواجهة حجريةٍ تلتقط ملامح الأهرامات في الأفق، وتعيد صياغتها بلغة معاصرة من الزجاج والضوء. وفي قلب البهو الفسيح، ينتصب تمثال رمسيس الثاني شامخًا، كما لو أنه يستقبل زوّاره بابتسامةٍ فرعونيةٍ تقول: "عدنا، لنروي الحكاية من جديد." المتحف الذي انتظره المصريون والعالم سنوات طويلة، أصبح اليوم رمزًا للتجديد الثقافي والمعماري، ومركزًا حضاريًا يعيد تعريف علاقة الإنسان بالتاريخ. حكاية بناءٍ وصبر بدأت فكرة المتحف المصري الكبير مطلع الألفية الجديدة، وتحوّلت مع مرور السنوات إلى مشروع وطني ضخم جمع آلاف الأيدي المصرية في ورشة واحدة للحلم. شارك في إنشائه مهندسون، وفنانون، وخبراء آثار من مختلف المحافظات، إضافةً إلى دعمٍ دولي تقني من اليابان وعدة دول أوروبية. وخلال عقدين من العمل، تم ترميم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، بعضها لم يُعرض من قبل، لتكون جاهزة لاستقبال الزوار ضمن أحدث أنظمة العرض المتحفي في العالم. الدهشة تمشي ببطء في الداخل، تسير الدهشة على مهل. خطوات الزائر تصطدم برائحة التاريخ في كل زاوية: تماثيل الآلهة، البرديات، الأواني الفخارية، تمائم الحماية، والجداريات التي ما زالت تحمل أثر اليد الأولى التي نقشتها قبل آلاف السنين. وفي قاعة الملك توت عنخ آمون، التي تُعرض فيها مقتنياته كاملة للمرة الأولى، يختلط البريق بالرهبة. الذهب يسطع تحت الأضواء، لكنه لا يخفي هشاشة الفتى الذي رحل في التاسعة عشرة من عمره، تاركًا خلفه سؤال الإنسان الأزلي عن الخلود. المرأة في حضن التاريخ من أجمل ما يقدّمه المتحف رؤيته الجديدة لدور المرأة في الحضارة المصرية. فهنا نرى الملكة حتشبسوت في أناقتها الملكية، والملكة نفرتيتي بابتسامتها الغامضة التي تحدّت قرون النسيان، كما تُعرض مشاهد النساء العاملات في الحقول والمشاغل، وصور الأمهات اللواتي قدّمن القرابين للآلهة كي تبقى الأرض خصبة والنيل طيّبًا. المتحف لا يعرض الجمال بوصفه زينة، بل باعتباره قيمة إنسانية كامنة في فكرة الحياة ذاتها. التاريخ في لغةٍ معاصرة
لم يكتفِ المتحف بعرض الآثار في قوالب تقليدية، بل اعتمد على التكنولوجيا التفاعلية لربط الماضي بالحاضر. فهنا يستطيع الزائر أن يرى قطعة أثرية من خلال عرضٍ ثلاثي الأبعاد، أو أن يستمع إلى حكاية اكتشافها عبر وسائط رقمية بلغات متعددة. كما يضم المتحف مركزًا للبحوث الأثرية، وقاعات للترميم، ومسرحًا ثقافيًا، ومكتبة عالمية، تجعل من المكان فضاءً حيًّا للمعرفة لا مجرد مخزنٍ للتاريخ. افتتاح بحضور الإنسانية
شهد حفل الافتتاح حضورًا رسميًا وشعبيًا كبيرًا، حيث وقف المصريون إلى جانب ضيوف من العالم كله يشهدون لحظةً طال انتظارها. كانت الأضواء تنعكس على الواجهات الحجرية، والموسيقى الفرعونية تمتزج بنبض القاهرة الحديثة، لتتحول الساحة إلى احتفالٍ بالهوية وبالإرادة. في كلمات الحفل، تكررت جملة بسيطة لكنها بليغة: "هذا المتحف ليس للمصريين وحدهم، بل للإنسانية جمعاء." المتحف كرمزٍ وطني المتحف المصري الكبير ليس فقط صرحًا أثريًا، بل بيانٌ عن قوة الحلم الوطني. فمنذ سنوات، تتجه مصر نحو مشروع ثقافي شامل يعيد تقديم ملامحها التاريخية بصورة حديثة، بدءًا من المتاحف الإقليمية، مرورًا بالمدن التراثية، وصولًا إلى تطوير القاهرة القديمة. في هذا السياق، يُعد المتحف المصري الكبير درّة التاج الثقافي الجديد، ودليلًا على أن مصر قادرة على أن تحافظ على ماضيها وتخطو بثقة نحو المستقبل. حوار بين النيل والأهرام
في محيط المتحف، تتلاقى رموز مصر الثلاثة: النيل، الأهرامات، والمتحف الجديد. إنه مثلثٌ من المعنى والجمال، حيث الماء والحجر والإنسان يصنعون معًا معادلة الخلود التي تميّز هذه الأرض منذ فجر التاريخ. هنا، يصبح الماضي جزءًا من الحاضر، وتتحول الزيارة إلى تجربة وجدانية تجعل الزائر يرى نفسه في مرآة التاريخ. خاتمة: حين يتحدث الحجر عند الغروب، حين تنسحب الشمس ببطء خلف الأهرامات، يكتسي المتحف بلونٍ ذهبيٍّ يشبه الحلم. تنعكس الأضواء على التماثيل، وتبدو كأنها تتحرك في صمتٍ مهيب، كأن رمسيس الثاني يودّع زائريه وهو يهمس: "إن من يعرف تاريخه لا يخاف المستقبل." المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرحٍ للعرض، بل رسالة مصر للعالم بأن الحضارة ليست ذكرى من الماضي، بل فعلٌ مستمرّ للحياة والإبداع. هنا، في قلب الجيزة، يتجلّى المعنى الأعمق للخلود: أن تبقى قادرًا على الحلم، وأن تصنع من الحجر قلبًا ينبض باسم الإنسانية.