قبل أن تضاء أنواره رسميًا وتُفتح أبوابه للعالم، يقف المتحف المصري الكبير شاهدًا على رحلة ملحمية بدأت قبل أكثر من عشرين عامًا، رحلة جمعت بين العلم والفن والإرادة المصرية الخالصة لتقديم أعظم مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين. خلف كل حجر من أحجاره قصة، وخلف كل جدار بصمة حلم، حتى صار المتحف اليوم جسرًا بين الماضي والمستقبل، حيث تتحدث الحجارة عن حضارةٍ كتبت التاريخ بيدها. «مطار سفنكس الدولي».. بوابة مصر الفرعونية إلى العالم * بداية الحلم: من فكرة إلى مشروع عالمي بدأت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير عام 2002، حين قررت مصر أن تقدم للعالم متحفًا على مستوى عبقرية حضارتها، يكون امتدادًا طبيعيًا لأهرامات الجيزة التي تقف شامخة منذ آلاف السنين. ومنذ اللحظة الأولى، لم يكن المشروع مجرد بناء حجري، بل حلمًا حضاريًا متكاملًا يهدف إلى إعادة عرض التراث المصري القديم برؤية حديثة تليق بمكانته الإنسانية العالمية. - المرحلة الأولى – التحضير للموقع (2002–2005) بدأت أعمال التحضير على مساحة تزيد عن 480 ألف متر مربع على الهضبة المقابلة لأهرامات الجيزة، كانت المهمة الأولى تسوية الأرض وإزالة الرمال بعناية شديدة دون المساس بالطبيعة الأثرية أو المشهد البصري الذي يربط المتحف بالأهرامات، ومنذ ذلك الحين، تم تحديد محور بصري هندسي يجعل المتحف وكأنه ينظر مباشرة نحو الأهرامات، في حوار معماري فريد بين الماضي والحاضر. - المرحلة الثانية – الهيكل الأساسي (2005–2010) بدأت مرحلة إنشاء الهيكل الخرساني الضخم الذي يمثل عصب المتحف، تم استخدام أكثر من 200 ألف متر مكعب من الخرسانة المسلحة و60 ألف طن من الحديد، لتشييد أعمدة ضخمة وسقف يمتد على مساحات هائلة. اعتمد التصميم المعماري على فلسفة المثلث الذهبي الذي يتجه بصريًا نحو الأهرامات، مما يجعل المتحف جزءًا من المشهد الطبيعي للحضارة المصرية القديمة دون أن ينافسها، بل يحتضنها. - المرحلة الثالثة – الواجهة والمعمار الخارجي (2010–2018) تُعد الواجهة من أبرز عناصر المتحف وأكثرها تميزًا. بطول 600 متر وارتفاع أكثر من 45 مترًا، صُممت بالكامل من الحجر الجيري المصري المستخرج من محاجر طرة، بلون رملي يتغير مع ضوء الشمس، ليحاكي ألوان الصحراء الذهبية حول الأهرامات، الواجهة ليست مجرد جدار، بل ستارة حجرية شفافة تتخللها الإضاءة لتشكل مشهدًا بصريًا يخطف الأنظار عند الغروب، حين يتماهى لون المتحف مع الأفق الفرعوني الخالد. - المرحلة الرابعة – القاعات الداخلية والتقنيات الحديثة (2018–2022) في هذه المرحلة، بدأ المتحف يتخذ روحه الحقيقية. تم تجهيز قاعات العرض الكبرى بأحدث أنظمة الإضاءة الذكية والتحكم البيئي للحفاظ على القطع الأثرية، مع استخدام تقنيات العرض التفاعلي والواقع المعزز (AR) والواقع الافتراضي (VR). كل قاعة تحكي قصة حضارة من حياة المصري القديم إلى معتقداته وفنونه، لتجعل الزائر يعيش تجربة حسية متكاملة تجمع بين العلم والجمال والإبهار البصري. كما تم تصميم البهو العظيم ليستقبل الزوار بتمثال الملك رمسيس الثاني الذي يقف شامخًا في منتصفه، محاطًا بتماثيل فرعونية ضخمة تروي مجد مصر القديمة. - المرحلة الخامسة – اللمسات النهائية والاستعداد للافتتاح (2022–2025) مع اقتراب لحظة الافتتاح، دخل المشروع مرحلته الأخيرة، التي شملت تجهيز مداخل الزوار والممرات الخضراء والساحات المكشوفة، إضافة إلى المناطق التجارية والمطاعم الراقية ومراكز الزوار. كما تم تزويد المتحف بأنظمة رقمية ذكية لتوجيه الزائرين وتقديم المعلومات عن القطع الأثرية بطريقة تفاعلية، في تجربة تجمع بين التراث والتكنولوجيا، وفي هذه المرحلة أيضًا اكتمل متحف مراكب خوفو، وقاعة الملك الذهبي توت عنخ آمون، التي تضم أكثر من 5 آلاف قطعة تُعرض لأول مرة معًا منذ اكتشافها. - رحلة النقل والترميم: إنقاذ التاريخ بأيادٍ مصرية منذ عام 2018، بدأت عملية نقل أكثر من 55 ألف قطعة أثرية من متاحف ومخازن مختلفة إلى المتحف المصري الكبير. كانت كل قطعة تُنقل داخل صناديق خاصة بدرجات حرارة ورطوبة محسوبة بدقة بالغة، وفي معامل الترميم المركزية بالمتحف وهي الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط عمل خبراء مصريون على ترميم المومياوات والتماثيل والأقنعة والبرديات، ليعيدوا للحضارة المصرية بريقها بأيديهم، اليوم، أصبح المتحف ليس فقط مكان عرض، بل مركزًا عالميًا لحفظ وصيانة التراث الإنساني. - وراء كل حجر... قصة إنسان وراء كل عمود وواجهة وتمثال، هناك آلاف الأيدي والعقول التي عملت بصمت على مدى عقدين كاملين. مهندسون، أثريون، ترميميون، عمال، ومصممون كلهم ساهموا في كتابة أجمل فصول الحلم المصري. منذ أن وُضع حجر الأساس وحتى اليوم، لم يكن المشروع مجرد بناء، بل رحلة وطنية لإنقاذ الذاكرة الإنسانية وإعادة تقديم مصر للعالم بحلتها الجديدة. - مصر تفتح بوابة المجد من جديد واليوم، مع اقتراب لحظة الافتتاح الرسمي بعد ساعات ، يقف المتحف المصري الكبير على أعتاب التاريخ، لا كمجرد صرح معماري، بل كرمز لإرادة أمة تُعيد كتابة مجدها بحروف من نور، إنه أكثر من متحف... إنه وعدٌ بالخلود، وحكاية حضارة تُضيء المستقبل كما أنارت الماضي.