تسدل الحرب على غزة أستارها، مع انطلاق قمة شرم الشيخ للسلام، بمشاركة عدد من قادة العالم، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، لتكون النهاية متماهية مع كافة المراحل التي مر بها العدوان، منذ اندلاعه في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، حيث كانت أرض مصر محطة فارقة، لإدارة الأزمة، بدءً من قمة القاهرة للسلام، مرورا بالعديد من الزيارات التي قام بها العديد من قادة العالم إلى أرضها، وخاصة إلى معبر رفح، للاطلاع على الجهود الجبارة المبذولة هناك، ومنها أعلن العديد من القادة انتصارهم للرؤية المصرية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وأعلنوا اعتزامهم الاعتراف بالدولة المنشودة، لتحقيق الشرعية الدولية، وحتى القمة العربية الطارئة في مارس 2025، لتمرير خطة إعادة إعمار القطاع، وانتهاءً بقمة شرم الشيخ المرتقبة. والملاحظ في المحطات سالفة الذكر، نجد أن ثمة أبعادا متعددة ارتكزت عليها الإدارة المصرية في تعاملها مع الأحداث، أولها صناعة التوافقات، عبر قمة "القاهرة للسلام"، بين معسكرين يبدوان على طرفي النقيض، فنجحت في تعزيز الثوابت، وأهمها التمسك بالشرعية الدولية، ورفض التهجير، وضرورة دخول المساعدات الإنسانية، لتغلق الباب أمام إسرائيل لزعزعتها، عبر دعوات التهجير، بينما تحركت بعد ذلك نحو ما يمكننا تسميته ب"إدارة التوافقات"، حيث تمكنت من توسيع مناطق الاتفاق بينها ومن ورائها القوى العربية والإسلامية، من جانب، والفريق الآخر المؤيد للاحتلال، فتحول الأخير من قاعدة الدفاع المطلق عن حكومة بنيامين نتنياهو، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، إلى بيانات الإدانة لما يرتكب من انتهاكات، ثم بعد ذلك إلى سلسلة متواترة من الاعترافات بالدولة الفلسطينية، في إنجاز تاقت إليه قلوب العرب منذ عقود طويلة، رغم ما أصابها من ألم جراء ما يحدث لأهل القطاع من قتل وتشريد وانتهاكات تندى لها الأجبان. والحديث عن "إدارة التوافقات" ليس مألوفا إلى حد كبير في العلاقات الدولية، فالمعروف هو "إدارة الصراع"، إلا أن الدبلوماسية المصرية، وبدون أدنى مبالغة، تمكنت من إرساء مفهوم جديد، خاصة في زمن الأزمات، والصراعات الدولية، حيث اعتمدت في الأساس على وجود أرضية مشتركة، يمكن البناء عليها، تجلت بوضوح في مسارات متوازية، أولها سياسي، يقوم في الأساس على تجديد الالتزام بالشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وآخر إنساني، يعتمد على الضغط على نتنياهو وحكومته لتمرير المساعدات الإنسانية، وثالث ميداني، يدور في جوهره حول عدم استهداف المدنيين قصفا أو تجويعا، وهي الآثام الثلاثة التي سقطت فيها حكومة تل أبيب، لتسقط معها ما بنته من حماية دولية، عززت مواقفها لعقود طويلة من الزمن، بينما أسقطت في الوقت نفسه محاولاتها لتصفية القضية. المثال الأبرز، فيما يتعلق ب"إدارة التوافقات"، يدور بوضوح في التباينات بين الموقف بين القاهرة وواشنطن، خلال مراحل عدة من الأزمة، منذ الاستخدام المتواتر للفيتو من قبل الولاياتالمتحدة ضد قرارات وقف إطلاق النار، ثم الرفض الأمريكي لمنح فلسطين العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، وحتى ملف التهجير، إلا أن إنهاء الحرب كان هدفا مشتركا، في ضوء تطلع الرئيس ترامب إلى صناعة السلام، ليعلن خطته مستلهما في جزء كبير منها الرؤية المصرية فيما يتعلق بإعادة الإعمار، بينما أعاد توجيه بوصلة الموقف تجاه مسألة إجبار الفلسطينيين على ترك أراضيهم، في موقف يحمل الكثير من المرونة الدبلوماسية، وحتى الإعلان الأخير عن قبوله لدعوة الرئيس السيسي بالحضور إلى شرم الشيخ ليكون راعيا للاتفاق المبرم حول إنهاء الحرب، وهو ما يمثل نموذجا للتدرج في مراحل صناعة التوافق، عبر البناء على المشتركات، ثم تعزيزها وتوسيعها تدريجيا، حتى التلاقي عند نقطة معينة، وهي السلام في صورته المستدامة، والانطلاق منه إلى آفاق أبعد ترتبط بالأساس بمستقبل القضية برمتها. وبالنظر إلى الحضور في القمة، نجد أن ثمة دولا عربية وغربية، بالإضافة إلى الرئيس ترامب، وهو ما يعني أن الاتفاق يبرم برعاية دولية، بينما يحظى بدعم مصري أمريكي، وبالتالي فيبقى انتهاك أي مرحلة من مراحله محل إدانة دولية وإقليمية واسعة النطاق، ومن شأنه مزيد من التباعد بين الدولة العبرية وحلفائها، بل وبين الإدارة الحاكمة في تل أبيب وشعبها، وهو ما يعني أن القمة المنعقدة في شرم الشيخ، ليست مجرد محفل لإلقاء الكلمات وتبادل التهاني بما تحقق، وإنما منصة للبناء عليه في المستقبل، عبر تهيئة البيئة الإقليمية والدولية لرفض أي سيناريو يخالف ما تم التوصل إليه، وهو ما يتماهى مع هدف الاستدامة. إدارة القاهرة للأزمة في غزة، إن أردنا تقسيمها إلى مراحل، نجد أن ثمة مراحل ثلاثة، أولها تحويل التباينات إلى توافقات، انطلاقا من المشتركات، وعلى رأسها مبادئ الشرعية الدولية، ثم في مرحلة لاحقة، توسيع نطاق التوافقات، بينما تقوم المرحلة الأخيرة على تحويل تلك التوافقات إلى "استدامة"، من شأنها تثبيت حالة الاستقرار والأمن، تمهيدا لمفاوضات الحل النهائي المرتبطة بالقضية بأسرها، وهو ما يقدم أبعادا جديدة لمفاهيم القوة والنفوذ، تتجاوز مجرد فرض الرؤى والإملاءات، نحو القدرة على توسيع نطاق التوافقات، وهو ما يتماهى مع طبيعة النظام العالمي في مرحلته الراهنة، في ظل تصاعد نهج الشراكات كبديل محوري للتحالفات. وهنا يمكننا القول بأن قمة شرم الشيخ تعد تتويجا لمسار كامل من "إدارة التوافقات" التي رسختها الدبلوماسية المصرية، لا بوصفها مجرد نهجٍ لإخماد الأزمات، بل كفلسفة جديدة في إدارة النظام الدولي، فالقاهرة، التي نجحت في جمع الأضداد على طاولة واحدة، لا تسعى لقيادة بالهيمنة، بل لشراكة بالمسؤولية، قوامها احترام الشرعية الدولية وإعلاء صوت الإنسانية فوق ضجيج السلاح، حيث برزت مصر كقوة أخلاقية هادئة، تعيد تعريف النفوذ، لا بمنطق الإملاء، بل بقدرتها على بناء التوافق وصيانته، لتؤكد أن الاستقرار الحقيقي لا يصنع في ميادين الحرب، وإنما في عقول الساعين إلى السلام.