.. تبدو نهجا ناجعا، في تحقيق التوافقات، حول القضايا الدولية المثارة، سواء كانت محدودة النطاق، في إطار ثنائي أو ثلاثي، بهدف تنسيق المواقف، أو على نطاق أوسع، إقليميا أو دوليا، بهدف الخروج بمواقف يمكن البناء عليها، على غرار قمة القاهرة للسلام، أو القمة العربية الطارئة التي عقدت بالعاصمة الإدارية في مارس الماضي، أو القمم العربية الإسلامية المتواترة التي عقدت بين الرياضوجدة وأخيرا الدوحة، والهدف منها هو إضفاء الزخم على المواقف المشتركة، والعمل على تدارك الخلافات إن وجدت، إلا أن ثمة مشتركات بين الحضور، تدور حول عدة ثوابت أساسية، من شأنها الوصول إلى تعميق التوافق فيما يتعلق بالنقاط الخلافية، غالبا ما ترتبط في الأساس بالمبادئ الأخلاقية، واحترام الشرعية الدولية، ناهيك عن نبذ الانتهاكات أيا كان مصدرها. المشتركات سالفة الذكر، وإن كانت بديهية، فهي تمثل الأساس الذي يمكنه أن يجمع القادة معا على مائدة واحدة، وهو ما بدا على سبيل المثال في قمة القاهرة للسلام، والتي جاءت بعد أيام معدودة من أحداث السابع من أكتوبر، لتجمع قادة من الشرق، مع نظرائهم من الغرب، على مائدة واحدة في قلب العاصمة المصرية، مما أضفى انطباعا حينها، على الأقل لدى المتابع العادي للأحداث، أن فجوة الخلاف كبيرة بين الحضور، في إطار كونها اجتماعا لمعسكرين متضادين، أحدهما مؤيد للاحتلال بذريعة الدفاع عن النفس (الولاياتالمتحدة وحلفائها الغربيين)، بينما كان الآخر داعما لحقوق الفلسطينيين، محملا استمرار الاحتلال مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، وما أسفرت عنه من تهديد صريح لأمن المنطقة، وفي القلب منها إسرائيل نفسها. إلا أن الواقع أن ثمة ثوابت جمعت بينهم، تجلت في مسارات متعددة، أولها إنساني، يدور حول ضرورة تمرير المساعدات الإنسانية لسكان غزة، والرفض المطلق لاستهداف المدنيين ومنشآتهم، في إطار ما يسمى ب"الشرعية الأخلاقية"، بينما دارت في مسار آخر، في إطار سياسي، يتجلى في التمسك بحل الدولتين، وحماية حق الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدسالشرقية، في ضوء "الشرعية الدولية"، بالإضافة إلى مسار أمني، إثر التداعيات الكبيرة للحرب على الاستقرار الإقليمي، ومسار اقتصادي، جراء الأوضاع العالمية المرتبكة على خلفية تواتر الأزمات الدولية بين الشرق والغرب، سواء في غزة أو أوكرانيا، في الوقت الذي مازال لم يتعافى فيه العالم من تداعيات وباء كورونا والذي اندلع في أواخر العقد الماضي، وبدايات الحالي. المسارات الأربعة (الإنساني والسياسي والأمني والاقتصادي)، والتي مثلت مشتركات مهمة بين الحضور، خلقت توافقات بين معسكرين، يبدوان للوهلة الأولى على طرفي نقيض، منها على سبيل المثال رفض دعوات الاحتلال الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، وهي الخطة الرئيسية التي سعى بنيامين نتنياهو وحكومته إلى تنفيذها، منذ اللحظة الأولى للعدوان، باعتبارها تقويضا لحل الدولتين، وانتهاكا للشرعية الدولية، ناهيك عن الدعوة إلى ضرورة وقف إطلاق النار، رغم الخلاف حينها، حول ما إذا كانت هذه الخطوة ينبغي أن تتخذ فورا، أم في وقت لاحق، بعدما تتمكن قوات الاحتلال من القضاء على الفصائل، والتي تنظر إليها باعتبارها التهديد المباشر، وربما الوجودي لها، بحسب ما تروج الحكومة الإسرائيلية، لتتعمق التوافقات بعد ذلك بمرور الوقت، لتتحول إلى ما شهدته مدينة نيويورك في الساعات الماضية من اعترافات متواترة بالدولة الفلسطينية، من قبل دول عرفت بانحيازاتها التاريخية لدولة الاحتلال. وجود حد أدنى من التوافقات ليس في واقع الأمر مستجدا على الساحة الدولية، وإنما تأتي في إطار البديهيات، فنجاح القمم يعتمد بالأساس على وجود ثوابت مشتركة، يمكن البناء عليها، وهو الأمر الذي احتفظ للولايات المتحدة، على مدار عقود، بدورها في القضية الفلسطينية، وكذلك احتفظ بقيادتها للمعسكر الغربي، منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعني أن غياب المشتركات يمثل فشلا ذريعا لدبلوماسية القمم، لتتحول ببساطة إلى استعراض زعامة، أو محاولة لفرض رؤية بعينها على الآخر، فالقمم تتجاوز أهميتها المسائل البروتوكولية أو مجرد استعراض القيادة الدولية، نحو نتائج ملموسة من شأنها تحقيق الاستقرار، والسلم، وهو ما إذا تحقق فسوف يمثل انعكاسا لنفوذ القوى الداعية إلى القمة وريادتها. فلو نظرنا إلى القمم التي عقدها الرئيس دونالد ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، في ولايته الثانية، نجد أن معظمها، غابت فيه المشتركات بوضوح، سواء فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، خاصة خلال اجتماعاته مع الحلفاء الأوروبيين، أو حتى فيما يتعلق بقمته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أو لقاءاته مع رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلنيسكي، حيث لم تحقق في مجملها نتائج ملموسة على الأرض، والأمر نفسه ينطبق على لقاءات ترامب مع القادة الأفارقة، أو غالبية لقاءاته المرتبطة بالحرب في غزة. والملفت في القمم التي عقدها الرئيس ترامب، خلال الشهور الماضية، هو الحرص الشديد على استعراض القوة، في مواجهة الأطراف الأخرى، وهو ما ظهر جليا في لقاءه الأول مع زيلنيسكي، والذي بدا فيه سيد البيت الأبيض، مستقويا على ضيفه بوجود حاشيته، وعلى رأسهم نائب الرئيس الذي تعمد إهانة الرئيس الأوكراني، بينما ظهر الأمر بصور أخرى في لقاءاته مع القادة الأفارقة والأوروبيين، والتي بدت أشبه بمحاضرة يلقيها رئيس لمرؤوسيه في أحد الشركات، في كسر صريح للبروتوكولات المتعارف عليها، بينما تبقى النتيجة النهائية هي "الصفر". استعراض القوة الأمريكي تمادى إلى حد التدخل في عمل المنظمات الدولية، المتواجدة على الأراضي الأمريكية، وهو ما بدا في منع إصدار تأشيرات لوفد فلسطين المخول له المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، انتصارا لإسرائيل، لكن المحصلة كانت صادمة لواشنطن وتل أبيب معًا، حيث اعترفت عدة دول غربية بالدولة الفلسطينية في غضون ساعات معدودة، في صفعة قوية للاحتلال وداعميه. وهنا يمكننا القول بأن دبلوماسية القمم ليست مجرد مناسبة بروتوكولية، وإنما انعكاس لطبيعة النظام الدولي ذاته؛ فهي تنجح متى توفرت المشتركات الأخلاقية والسياسية والإنسانية، وتفشل متى تحولت إلى استعراض للقوة وفرض للرؤى الأحادية، وفي اللحظة الراهنة، بينما تثمر القمم التوافقية اعترافات متزايدة بالدولة الفلسطينية، تكشف قمما أخرى أن الغياب التام للمشتركات والتخلى الكامل عن الثوابت، لا يقود إلا إلى عزلة متصاعدة، حتى بين أقرب الحلفاء.