انقضت القمة العربية الإسلامية الطارئة فى قطر، وستكون مجالا لأحاديث أطول من زمن انعقادها، وأعلى صخبا مما دار فى كواليسها، وما أسفر عنه بيانها الختامى الصادر أمس، وسواء رآها البعض دون التوقعات، أو حققت الحد الأدنى من المطلوب والمتوقع، فالمشكلة الأساسية أن كثيرين علّقوا عليها آمالا شديدة الرومانسية، وانتظروا منها ما لا يتناسب مع طبيعتها المركبة، وتوازناتها شديدة التعقيد والاختلال، ما يجعل المواقف وردود الفعل اللاحقة تخص أصحابها، بأكثر مما تتصل بالحدث وتنوعات قادته المشاركين، والغائبين أيضا. المحتفظون بقدر من التعقل والموضوعية، كانوا يعرفون بالخبرة واليقين آخر ما يمكن أن تصيبه القمة فى طرحها ورسائلها، وأن اللغة المشتركة بين تلك القائمة الطويلة من الدول، تكفى بالكاد للتلاقى فى نقاط وسيطة، تظل مهمة وإن لم تكن مشبعة عاطفيا، أو مقنعة لمن تسؤوهم الوقائع وتمتلئ صدورهم بالقلق والارتياب. إنها رسالة للتعبير عن الغضب، وليست تلويحا بالانفجار، ولا يمكن أن تكون للأسف. ذلك أن المنخرطين فى الأزمة الراهنة يعرفون جريرة التصعيد غير المحسوب، والوافدين من وراء الحدود لا ينشغل أكثرهم بحرب لا تخصهم أو تتقاطع معهم. وغابة الصلات الخفية والظاهرة والأوزان والمواءمات، تفرض كلها على الأغلبية قدرا من الرشد فى الخطاب، وتُخرج الورشة الجماعية من نطاق السعى الفاعل، إلى البحث عن كوابح لدى الآخرين، ومظلة تسمح بالامتعاض دون الاصطدام. ورثت المنطقة أوضاعا كانت شريكة فى صنع القليل منها، وضحية للخارج فى الكثير، وباتت الحصة الأكبر من عواصمها ملزمة بمراعاة ما اختارته أو فُرض عليها. وما يصح بشأن الأسرة العربية، ينطبق على العائلة الإسلامية الكبيرة أيضا. ولدى كل فرد منها تاريخ وتجارب وإحن شخصية، وهموم لا أول لها من آخر، واعتبارات يغذيها الدين والعرق، وتخنقها معادلات القوة والترتيبات الجيوسياسية الساقطة من أعلى دوما، مع إخفاق قديم فى الاشتباك معها، تحول مع الزمن إلى عجز عن التصويب، وتسليم بالمستقر، وعدم رغبة أصلا فى التجربة والخطأ. ولم يعد سرا أن الاجتماع التحضيرى لوزراء الخارجية لم يكن سلسا تماما، وشهد جدلا ومشاحنات وافتراقا فى الرؤى، تسبب فى إرجاء النقاش لساعات، ثم تجسد عمليا فى مسوّدة البيان الختامى التى أقرها الحضور لاحقا، وذاعت فى وسائل الإعلام قبل أن تحط طائرات القادة فى الدوحة. وإن كنا لا نعرف جوهر المداولات وخريطة مواقف الدول ممثلة فى رموز دبلوماسيتها الحضور، فالمُشترك الناتج عن الورشة الصعبة يغنى عن أى افتراض ورجم بالغيب، ويؤكد أن رؤية تثبيت صيغة التعاطى انتصرت على مساعى تحريكها للأمام، لتفرز فى النهاية قمة مطابقة لسابقاتها تقريبا، ومُجدّدة للإجرائى المعتاد من تلك الفعاليات، رغم تبدل الظروف واختلاف البواعث عن سالف الجولات. ومنطق الأمور أن قطر أول المعنيين باللحظة التى دعت إليها، واختارت أن تكون وسيلتها الأساسية للرد على العدوان الإسرائيلى. وقد صرّحت عقب قصف عاصمتها بأنها تعرضت للخيانة، ودعت لاتخاذ مواقف جادة بخطوات عملية ملموسة. وفيما تسرّب أنها تعيد تقييم علاقتها مع الولاياتالمتحدة، عادت للرد رسميا بأن الرابطة بين واشنطن وتل أبيب استراتيجية مستقرة، ومهمة لحكومتى البلدين ومصالحهما، وإزاء الغطاء الأمريكى لسياسات تل أبيب، وممارسات نتنياهو وعصابته المنفلتة بحق الإمارة وغيرها، فإن إبعاد البيت الأبيض من الملامة كان ينسحب بالتبعية على حلفائه الصهاينة. هذا ما لم تتقصّده الإمارة قطعا، لكنه انتقل بالإشارة والتأويل إلى شركاء المشهد ومراقبيه إقليميا ودوليا. ومع افتراض أن العدوان كان يتجاوز قادة حماس إلى أهداف أبعد، أهمها الإخطار باستباحة كل الساحات دون رادع، والعمل على تحييد الوساطة القطرية لإفساد صفقة غزة، وإدامة الحرب بوصفها أهم أوراق نتنياهو حاليا. فقد كان الاستهجان الناعم من جانب ترامب كافيا لحلفائه فى المنطقة، والتعهد بعدم التكرار ضمانة مقنعة وقتيا فيما يبدو. يتحلّق العرب والمسلمون حول أمير قطر، للردّ على عدوان إسرائيلى تبرّأت منه الولايات المُتحدة نظريًّا، بينما أرسلت وزير خارجيتها، ماركو روبيو، إلى تل أبيب بالتزامن مع فعالية الدوحة، تأكيدًا للشراكة فى الضربة محل البحث، وفيما هو أكبر منها، وتحدّيًا لأى موقف جماعىٍّ مُحتَمَل، مع علمها باستحالة بنائه من الأساس، ناهيك عن أن يكون لطيفًا أو مُزعجًا. ومع تأكيد الدوحة أنها لن تتخلى عن دورها فى التهدئة، فمن الطبيعى أن تبرد مشاعر الغضب، وتصفو اللغة بحسابٍ لا يُطبّع مع التبجح العبرى، ولا يمنحه ذريعة الانقضاض على مداولات التهدئة والبحث عن حلول سلمية. ما يعنى أن القمة كانت مخرجا من حال الضعف والانكشاف، ولم يُرَد منها أن تكون مدخلا للتصعيد على الإطلاق. أما البُعد الأهم فى المسألة، فيخص التوافقات البينية فى الدائرتين العربية والإسلامية، ونظرة كل بلد منهما للصراع بتناقضاته الأساسية والثانوية، وحدود التفاهمات المقبولة أولا، ثم إمكانية السير فيها تاليا. والمؤكد أن كثيرين يملؤهم الضيق مما يحدث فى قطاع غزة، وآخرين يتضررون منه مباشرة فى الأمن والاقتصاد، ولا يخلو الجراب من طرف ثالث يتألم إنسانيا وضميريا، لكنه ينظر سياسيا من زاوية الحياد، ولا يعتبر أنه مُلزم بشىء تجاه القضية وفصائلها المتصارعة، ولا المشاحنات الفرعية المتولدة عنها داخل فلسطين وعلى طول المنطقة. وقد يتمنّاها الغاضبون حربا، ويتحاشى العقلاء مغبة التسخين مع فارق القوى وانسحاق القانون، وكلاهما لا يقر الآخر على رؤيته قطعا، وإن دعا داعى القتال فلن تجد أحدا إلا المعنيين بالمسألة فعلا، وقد تضاءلت أعدادهم حتى ليَسهُل حصرهم فى أصبع أو اثنين من راحة اليد. لقد حملت جلسة الأممالمتحدة قبل أيام ثلاثة من القمة صورة لا تسر الناظرين، ولو اقتنص «إعلان نيويورك» أغلبية الحضور انتصارا لحل الدولتين على محاولات طرحه عن الطاولة أو طمره تحت الركام. 142 صوتا لصالح القرار، مقابل اثنين وعشرين بين رفض أو امتناع عن التصويب، وأكثر منهم غابوا عن الحضور أصلا. والمفارقة أن خمس دول عربية وإسلامية كانت على الجانب المضاد، بالامتناع أو الغياب، بنسبة تقارب 10% من المجتمعين فى قمة الدوحة أمس. والإفادة أنهم بين رفض الفكرة نفسها، أو التعالى على المتاح لفلسطين من بقايا الحصة المقررة فى قرار التقسيم، وثالث الاحتمالات أنهم يعترضون على تسليم سلاح حماس للسلطة الوطنية، وتنحية الحركة عن مشهد اليوم التالى فى القطاع. وكلها خيارات تتجاوز السياسة دون طرح البديل، لأنها فى الوقت نفسه لا تمتشق السلاح أو تطلق نفير الحرب. وهو ما لا ينُمّ عن غياب الرؤية وافتقاد العقلانية فحسب، بل عن نزعة تطهرية تُزايد ضمنا على بقية صور النضال، فيما تعجز عن إسناد الصورة الوحيدة المقترحة والمقبولة من جانبها، وتتمسك بالوقفية الإسلامية بين النهر والبحر دون خطة واقعية، ودون رغبة فى اختبار المأساة من موقع الشريك لا الرقيب. وإذا كان العدوان على الدوحة فرعا عن الانسداد فى فلسطين أصلا، فإن الزاهدين فى اقتراف القضية من منطقة عملانية تراعى الظرف والاحتياجات، لن ينتظروا لمسألة قطر الحالية إلا باعتبارها منصة للقدح فى البدائل السياسية، ووسيلة لاستدعاء الخيارات الخشنة التى يكتفون بتردادها دون الانخراط فيها، ما يعنى أنهم يأخذون موقفا ضدا من الحالة عندما يقول القطريون إنهم ينصرفوا عن الوساطة، أو يصوتون لصالح إعلان حل الدولتين بما ينطوى عليه من موقف بشأن الأصولية الحماسية وشركائها. لا سيما أن خطاب الإمارة يقول إنه احتضن قادة الحركة بطلب من الولاياتالمتحدة أصلا، وتفاهمات مع إسرائيل، ويصح للمُتأففين هنا أن يروا فى ذلك موقفا براجماتيا يتعارض مع الاستقامة النضالية، أو أن يعدّه آخرون تصريحا مؤقتا يحق لمانحيه أن ينزعوه، ما يعنى التمهيد لطرد الوفد المفاوض، طالما سحبت واشنطن وتل أبيب تأشيراتهما الممنوحة له سابقا. مرّت قطر بلحظة خذلان قاسية، واستئساد صهيونى يخرق تقاليد السياسة والدبلوماسية، ويتعارض مع حصانة الوسيط لدى طرفى الصراع. الاصطفاف بجانبها والدفاع عنها واجب لا مكرمة، وبالطريقة التى تراها مُحقّقة لأهدافها ولا تتعارض مع مصالحها. هى من تعرّضت للعدوان، وطلبت انعقاد القمّة، ولها أن تختار صيغة المؤازرة التى لا تُحمّلها أعباء فوق أعبائها، ولا تخصم من استقلالها وتصوّرها عن أدوارها الإقليمية أيضًا. وحتى مع فروض الدبلوماسية التى اضطرّتها لتنحية علاقتها مع واشنطن عن جدل الضربة، فإن احتماءها بالأشقاء والأصدقاء، عربًا ومسلمين، إنما ينطبع أساسًا بالرهبة والذهول، وبافتقاد الثقة فى واشنطن رغم تعقّد العلاقة وتشابك محاورها. ولو أرادت التصعيد اقتصاديا لكانت قد اكتفت بمجلس التعاون الخليجى بما لديه من ثِقَل مالى وتجارى، ولو عَنّ لها التلويح بالخشونة لسعت إلى قمّة عربية تبحث تفعيل آلية الأمن الجماعى، وتؤسس لقوّة إقليمية على قاعدة اتفاقية الدفاع المُشترك الموقعة قبل ثلاثة أرباع القرن. الذهاب إلى الصيغة الموسّعة التى رأيناها أمس، يعنى أنها بحثت عن أوسع حزام داعم، دون رغبة فى التأجيج أو التوريط، وبحيث تتكفّل تنوّعات الحضور وتناقضاتهم بموازنة صراعات المحاور والتوجهات، وتصفية الرسالة من الشرر. أرادت صورة ثريّة بالوجوه والألوان، من دون ضغوط عليها أو على الضيوف المشاركين. وسواء كان البيان مُرضيًا للجمهور أم أقل من تطلعاتهم، فإنه يُلبّى الحاجة التى انطلقت منها الدوحة وأرادت الوصول إليها. ولولا أنها تقصّدت ذلك، ما سارت فى القمّة أو منحتها صِفتَها العمومية المشار إليها. إنه البحث عن الدفء لا الإحراق، وعن المواساة لا المُكايدة أو التحريض، وكل الذين بَنوا تصوّرات خيالية أو افترضوا الذهاب إلى مدى أبعد، كانوا يفكّرون بالتمنّى، وينظرون فى المحنة القطرية من منظورهم الخاص، وبما يتعارض مع إرادة الإمارة وإدارتها للأزمة. يُمثّل البيان الدولة التى سعَت فى استصداره، ورغبت فى أن يصدر بكل تلك التوقيعات، لا بطيف منها. والمؤكد أنها تعرف بالاختبار والممارسة حدود ما يقبله كل طرف حاضر، وما يرفضه أو يستنكفه، كما تعرف العدوّ من الحبيب، ولو أبدت العكس، أو اضطرتها المواءمة إلى تمرير المرارة وابتلاع الغُصّة. وكأى بلد طبيعى يُقدّم مصالحه على كل اعتبار، فإنها تعرف أن لدى أقرب الأشقاء اعتبارات تخصّهم أيضًا، ولن تقودهم بعيدًا عن حيِّز الدبلوماسية والحدّ الأدنى من التضامن، مهما بلغت الوشائج وسوابق التفاهمات مبلغًا من القُرب والشراكة الفاعلية فى ملفات أُخرى. رسالة نتنياهو كانت تتجاوز حى كتارا، وتُعرِّض بمنظومة الأمن الإقليمى عموما، وبالخليج الذى تتجاذبه مؤامرات المُمانعة وأطماع الصهاينة. ورغم ذلك، فإن بعض دول المنطقة لن تقفز على أدوارها المُختارَة أو المرسومة لها، ولو لأجل الشقيقة القريبة على ساحل الخليج. وما يُقال عن الأسرة الصغيرة، ينطبق على الأوسع والأوسع، ويجب ألا يُلام أحد على خيارٍ يجرى وفق الأعراف الراسخة، وبعدما تقطّعت السُّبل اختيارًا وصار الإقليم جُزرًا مُنعزلة بإرادته، قبل مكائد الآخرين. دعا رئيس الوزراء العراقى مؤخّرًا إلى تشكيل «حلف إسلامى عسكرى» لمواجهة إسرائيل، لكن بغداد كانت بين الغائبين عن جلسة «حل الدولتين» فى الأممالمتحدة. وكلا الموقفين ينبعان من حسابات دقيقة بين القوى الفاعلة فى بلاد الرافدين، وامتدادات بعضها العابرة للحدود إلى قلب الجمهورية الإسلامية. إيران غابت أيضًا، ولا تُقصّر عن التصريح فى كل مناسبة برفضها للخيار من الأساس، وسبق أن قال وزير خارجيتها الراحل، حسين أمير عبد اللهيان، إن تلك النقطة تحديدًا هى ما يجمعها فى خانة التوافق الوحيدة مع إسرائيل. كانت الدوحة عُرضة لضربة من طهران قبل أحد عشر أسبوعا فقط. وقتها توصّلت تفاهمات الكواليس إلى إطلاق عِدّة صواريخ على قاعدة العُديد، لتكون إعلانا بإنهاء المواجهة التى بدأت بين إسرائيل وإيران، وانتهت ثلاثية بدخول الولاياتالمتحدة على الخط. حُسِبَت قطر على واشنطن فقُصِفَت من الجانب الآخر للخليج العربى، وحسبها الصهاينة على المُمانَعة فقصفوا عاصمتها بدعوى مطاردة قادة حماس واقتفاء أثرهم، وهكذا تحوّل الوسيط من دون قصد أو ضرورة إلى خصم مباشر للطرفين المُتصارِعَين. خاضت الشيعية المُسلّحة مواجهة واسعة مع الدولة العبرية منذ الطوفان، تمدّدت فى ثلاث ساحات رديفة إلى أن وصلت لعمق الهضبة الفارسية. والثأر العالق قد يُحفّز إيران على تجديد الاشتباك مع تل أبيب من أية قناة مُتاحة، ولو كانت القمة العربية الإسلامية. لكن صِدقيّة الدعوة تتضادّ مع سابقة الموقف، ولعلّ جرأة إسرائيل على المساس بأطراف الخليج العربية ما تعاظمت إلا بعد القصف السابق. وأى خيار ساخن اليوم يقدح فيه الصمت على الأمس، وأى دَفع باتجاه إجراءات أعلى سينعكس إحراجًا على الأصدقاء الذين نالوا من أصدقائهم، أو تشظية للإجماع الذى يحمى بالهوى والانتقائية. تعبُر قطر على حبل دقيق، بين المكانة والدور وقيود الحجم جغرافيا وديموغرافيا. والدول الساعية إلى هالة حضور تتخطّى إمكاناتها الطبيعية، عليها أن تكون داعية توافق لا شقاق، وأن تُلاعب الجميع بالسياسة وتناورهم بالدبلوماسية. لن تقطع حبالها مع المقاومة، ولن تُخاصم الاعتدال، والأهم أنها لن تكون على طرف نقيض صريح مع واشنطن، بل وتل أبيب نفسها رغم التجرّؤ والعدوان. والتموضع الإقليمى والدولى الذى اختارته، أو انتدبتها له الظروف والحسابات، إنما تنبع توازناته من الخارج لا الداخل، وتحتكم إليها، وقد تقع فى تناقضات عارضة بين وقت وآخر، وعليها أن تظلّ قادرة على المواءمة والبقاء فوق الحبل المشدود، وألا تسقط عنه لجهة صديق أو عدوّ. صحيح أن المواقف المبدئية لا تقبل البراجماتية أحيانًا، لكنها تُصان بوسائل شتّى، من أول الدعاية والتمويل، وإلى الاعتماد على قنوات خلفية وفواعل من غير الدول، تتشابك كلها لتُؤمِّن العبور فى غابة المخاطر والتناقضات. أمّا مُطالبة القمة العربية الإسلامية بأن تكون على قلب رجل واحد، ومن دون النظر إلى بقيّة الاعتبارات الحاكمة لها والمُرهقة لكواهل دولها بالضغوط، فخيال أقرب إلى التلفيق من التدقيق، وهو ضارّ فى حقيقة بأكثر من نفعه. وذلك، لأنه فى رحلة البحث عن إجماع مُصطَنع تجاه الآخر، يسحق المُناكفات البينية ويتعالى عليها، ويقفز على الصراعات الصغيرة لصالح تصوّرات كُلّية تُمنح صيغة مُقدّسة لِمَا ليس مُقدّسًا، لا سيما أن بين كثير منها إحنًا ومُنازعات تتجاوز ما يقع مع الغريب، وأزمة المنطقة أصلاً ناشئة عن مناكفات الشيعية الصفوية والعثمانية الجديدة، وكلاهما يختصم فى الخرائط ولحمها الحى، ويُنغّص على أهلها أضعاف ما يُرعب تل أبيب أو يُهدد أهدافها المُعلنة والمُضمَرة. مُفارقة لا تختلف عن موقف حزب الله من نزع سلاحه، مُشترطًا على الدولة أن تُحرّر الأرض المُحتلة وتُعيد إعمار الجنوب، فيما ذخيرته كانت ذريعة الاحتلال أصلاً، وقرار الدويلة موصول بالخارج أكثر من بيروت. وعليه، فإنه يُغذّى سرديّة نتنياهو، ثم يختصم به أشقاء الداخل، فيُفتّشون عن حلول وطنية، فيرفضها، وتتجدد الذرائع. ولا يُعرَف العدوّ من الصديق هُنا، وهل يليق انتقاد جبروت إسرائيل دون رأس المُمانعة، أو التفريق بين سلاح وسلاح، فيما كلاهما يتواطأن معًا فى مهمّة واحدة. ورغم كل ما فات، فليس المطلوب أن نخاصم دأب المحاولات أو نقلع عن الأمل. وكل الفعاليات الساعية لوصل المُنقطع، أو تقريب الرؤى ووجهات النظر، ينبغى ألا يُنظَر إليها على أنها رفاهية، أو التعالى عليها مهما بدت قليلة الأثر ظاهرًا، أو تطرق المطروق، وتُجدّد رسائلها القديمة بلا تحريك وتحوير أو تدفيع إلى الأمام. حتى المريض الميؤوس من شفائه يجب ألا يتوقف عن الذهاب للطبيب، وتجربة كل الوصفات الممكنة، والتعلق بأى خيط من الأمل، ولو بدا واهيا. ومنظومة العمل المشترك عربيا وإسلاميا فى حاجة للمراجعة من دون شك، لكن ذلك لا يعنى تجميدها أو تجنيبها لحين توافر شروط الإصلاح، أو الوصول إلى الصورة المثالية المتخيلة، لا سيما أنها لن تتحقق بالكيفية التى يتمناها دعاة القومية والأممية، إذ ينطلقون فى الغالب من خيال ماضوى تجاوزه الزمن، ولم تعد تحالفاته القديمة صالحة لإعادة الإنتاج اليوم، فيما المصالح رافعة العلاقات والخصامات أيضا، وما يجمع عناصر الدائرتين ببعضهم أقل كثيرا مما يربطهم مع آخرين، ربما يُحسبون بمنطق الأيديولوجيا على جانب العداء. نعيش لحظة تاريخية ضاغطة، وشديد الوطأة، على فلسطين والمنطقة والعالم بكاملها. القديم يموت والجديد لم يُولَد بعد، على ما قال جرامشى، وفى الأول لم نكُن فاعلين، ولا نعرف طريقًا للفعل فى البديل الغامض. والظرف يتطلّب مُقاربات أكثر جدّية واختلافًا وخروجا على المُعتاد. القمّة من منظور المأساة الجارية وانفلات إسرائيل لا يمكن أن تُقنع أحدًا، ومن ناحية الإبقاء على المتاح وعدم التفريط فيه تُمثّل غاية المُمكن، والحدّ الأدنى من الدفاع عن الوجود وعدم الذوبان فى المجهول. ويظل الاختبار مفتوحًا، وعلى كل الأطراف أن تُعيد الكَرّة بلا يأس أو ملَل، وتترقّى فى الراهن للتجاوب مع الأسوأ الذى لم يأتِ بعد. غدًا سيكون علينا الاضطلاع بمهام أكبر، ولن يصبح ما كُنّا نملكه اليوم نافعًا أو قادرًا على التغيير. والنقدُ هُنا ضرورة حيويّة للتشخيص ووصف العلاج، مع عدم الدوس على الأعصاب العارية والجسد المُتفسّخ، حتى لا تتفكك أعضاؤه من بعضها بأكثر مِمّا هى عليه من تفكك أصلاً. القمة انعكاس لأوضاع بائسة فى قاع الإقليم، والإصلاح من القاعدة أيضًا. أكانت حماس أم مُشايعيها، أم الشعوب التى تُزايد على غيرها، وتُسلِّم قيادها لآخرين يختصمون هذا الغير والمنطقة. الصورة واضحة تمامًا، لكن الرؤية بالهوى تُبقيها مُغبّشة وتحت رحمة الغموض، أو الجنون، ولكليهما ذات الأثر للأسف.