لم تعد الحروب اليوم تُقاس بمساحات الأرض التي تُحتل أو الثروات التي تُنهب بل أصبحت العقول نفسها هي الميدان الحقيقي للصراع. لقد انتقل العالم من صراع الجيوش والدبابات إلى صراع الأفكار والصور والمعلومات ، وصار الوعي الإنساني هو الغنيمة الكبرى التي تتنافس عليها القوى والدول والشركات العابرة للقارات. نحن أمام مرحلة تاريخية مختلفة تماما حيث تُدار المعارك في هواتفنا المحمولة، وتُشن الحملات على شاشاتنا الصغيرة، وتُعاد صياغة الحقائق داخل أدمغتنا من خلال ومضات عابرة وصور سريعة أكثر تأثيرًا من أي خطاب سياسي. في زمن الفوضى الرقمية لم يعد السؤال كيف نعرف، بل كيف نُعرّف. من يُملي علينا صورة الواقع؟ ومن يقرر أي خبر يصل إلينا وأي خبر يُحجب؟ لم يعد العقل يتعامل مع المعلومة بوصفها مجالا للتأمل والتحليل بل صارت المعلومة سلعة مصنعة تُقدم جاهزة محملة برسائل خفية ومغلفة بلغة عاطفية تسحر المتلقي وتغلق أمامه أبواب التفكير النقدي. هنا تكمن الخطورة: أن نفقد القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، بين الواقع المصوَّر والواقع الحقيقي. لقد تحول الإنسان في العصر الرقمي إلى مجرد "مستهلك للانتباه"، يُباع وقته ونظره ووعيه في أسواق خفية تديرها خوارزميات معقدة. لم نعد نحن المنتجين بل أصبحنا البضاعة المعروضة. كل لحظة نقضيها أمام شاشة تُترجم إلى بيانات وكل ضغطة زر تتحول إلى خريطة دقيقة لعقولنا وميولنا تُستخدم لتوجيه اختياراتنا السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. وهكذا صار الوعي الجمعي سلعة قابلة للتسعير وصار الحفاظ عليه جزءا من معركة السيادة الوطنية بل ربما أهم من حماية الحدود ذاتها. والأخطر من ذلك أن العالم الرقمي أذاب الحدود بين الحقيقة والزيف حتى صار التلاعب بالصور والمقاطع المفبركة قادرا على إشعال نزاعات أو تغيير موازين انتخابات. لم يعد الاستبداد بحاجة إلى جيوش لقمع الشعوب يكفي أن تُغذى العقول بمحتوى مزيف يجعل الناس يظنون أنهم يختارون بينما هم في الحقيقة يُقادون. إنها ديمقراطية موهومة تصنعها الشركات العملاقة لا صناديق الاقتراع. لم يعد السلاح بندقية أو دبابة بل خوارزمية تضعك في فقاعة فكرية، تُظهر لك ما ترغب أن تراه، وتخفي عنك ما قد يجعلك تفكر بشكل مختلف. وهكذا تتعمق الفجوات داخل المجتمعات ويتحول المختلف إلى خصم ويزداد الاستقطاب حتى يتفتت النسيج الوطني إلى جزر متباعدة لا يجمعها سوى فضاء افتراضي هش. إنها حرب ناعمة في ظاهرها لكنها أشد ضراوة من أي مواجهة عسكرية. وفي قلب هذا المشهد العالمي تقف مصر أمام اختبار بالغ الأهمية. فهي الدولة التي اعتادت عبر التاريخ أن تكون قلبًا نابضًا للحضارة وجسرا بين الشرق والغرب وصوتا واثقا وسط العواصف. لكن المعركة الجديدة لا تُدار على الأرض بل في العقول. والرهان الأكبر اليوم هو الحفاظ على وعي الشعب المصري من التشويه والتزييف ، وصون قدرته على التمييز بين ما يُبث عبر المنصات وما هو واقع فعلي. المصريون بطبعهم ميالون للفهم والتحليل لكن لا يمكن إنكار أن الضغوط الرقمية العابرة للحدود قادرة على اختراق أي مجتمع مهما كانت حصانته. وهنا تظهر أهمية الإعلام المستنير الذي لا يكتفي بالرد على الشائعات ، بل يرفع الوعي ويمكّن العقول من إدراك جوهر اللعبة. فالقضية ليست فقط كشف الخبر الكاذب بل بناء عقلية جماعية تستطيع أن تزن وتفكك وتعيد ترتيب الأولويات. النجاة ليست في الانسحاب من الفضاء الرقمي فهذا غير ممكن بل في بناء وعي مضاد يُعيد للإنسان مكانته كفاعل لا كمستهلك. وعي يستند إلى قيم راسخة إلى معرفة حقيقية بالتاريخ والهوية إلى تعليم يفتح باب النقد والتفكير بدلا من التلقين والانبهار. ففي النهاية ما يحمينا ليس عدد الحواجز التي نقيمها بل قوة الفكرة التي نحملها وعمق الإيمان بأن المعركة على العقل أخطر من أي معركة على الأرض. إننا نعيش زمنا تُصنع فيه العقول كما تُصنع السلع وتُبرمج الأذهان كما تُبرمج الآلات. وإذا لم ندرك حجم هذا التحدي فسوف نصحو على مجتمعات مشوهة الوعي فاقدة القدرة على الاختيار متنازلة عن حقها في صياغة المستقبل. إنها معركة لا تُدار في ميدان حرب بل في داخل كل شاشة وهاتف وفي عمق كل عقل. والمنتصر فيها لن يكون من يملك السلاح الأقوى بل من يملك الوعي الأعمق.