باتت المعركة بين قوى الخير والشر تدور رحاها في ميدان غير مرئي ميدان الوعي، ففي عصر تتكاثر فيه الشائعات كالفطريات السامة، وتصاغ فيه الأكاذيب بأدوات احترافية وتنتج فيه الحقائق البديلة تبعًا للأهواء والمصالح والنزاعات، أضحت الحقيقة عملة نادرة، وأصبح الوعي درعًا وجوديًا لا غنى عنه للفرد والمجتمع على حد سواء، ولقد تجاوزت الحرب الحديثة أسلحتها التقليدية، فغدت المعلومة المزيفة قنبلة مؤجلة، والكلمة المحرفة سلاحًا مسمومًا، والتشكيك الممنهج أداة لزعزعة الثقة بين المواطن ومؤسساته. وتتجلى خطورة المعركة المعرفية التي تستهدف العقول وتراهن على إضعاف الوعي كمدخل لانهيار منظومة القيم والانتماء والهوية، وفي مواجهة هذا المد من التضليل والتشويش، يصبح الوعي الحصيف هو السياج الذي يحول دون سقوط الإنسان فريسة لخطابات الفوضى أو مشاريع الهدم، فهو البوصلة التي تهدي في متاهة الأصوات المتضاربة، والضوء الذي يكشف زيف الشعارات البراقة، والحصن الذي يحفظ الكيان الجمعي من الانقسام. ويعد بناء الوعي الجمعي المسؤول أضحي ضرورة وجودية واستراتيجية وطنية، تتطلب تضافر الجهود التربوية والإعلامية والثقافية والدينية، لإعادة تشكيل العقل الجمعي على أسس من التفكير النقدي، والتحليل المتزن، والقدرة على التمييز بين المعلومة والتضليل، بين النقد الهادف والهدم الممنهج، وبين حرية التعبير وفوضى التخريب، وبالتالي تصبح المعركة من أجل الوعي هي المعركة من أجل البقاء، وهي الفاصل الحقيقي بين شعوب تنهض بثقة على أسس الوعي واليقظة، وأخرى تقاد إلى مصيرها بأوهام وشعارات خادعة. ولقد انتقلت الحروب إلى ساحات جديدة تتجاوز الميدان العسكري التقليدي، لتبلغ ذروة الخطورة في ميادين الإعلام، والمحتوى الرقمي، وهندسة الرأي العام، والتلاعب النفسي بالعقول، فهي حرب تشن بالصور والرسائل والمقاطع والتغريدات، وتصاغ باحترافية عالية، لتعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتوجيه السلوك وإنتاج القناعات وفق أجندات خفية، تتقن استخدام التقنية والتأثير السيكولوجي. وتتعمد الحرب الناعمة تشويه الرموز الوطنية وخلخلة الثوابت وزرع بذور الشك والريبة في عقول الشعوب تجاه مؤسساتها وتاريخها ومستقبلها، ومع التسارع الهائل في تدفق المعلومات، أصبح الإنسان المعاصر يعيش حالة من التخمة المعرفية وضعف الوعي، فلا وقت للتفكر ولا قدرة على التمييز بين الصحيح والزائف، مما يجعله فريسة سهلة وأكثر عرضة للانقياد خلف العناوين والمضامين الزائفة والرسائل المضللة والمثيرة. وتحولت الشائعة من مجرد خبر كاذب إلى أداة نفسية - اجتماعية خطيرة وفعالة، تحمل أثر القنبلة الصامتة التي تخلف دمارًا بالغًا في منظومة القيم والثقة العامة واستقرار الأوطان، فهي تضعف مناعة الوعي الجمعي، وتربك العلاقة بين الشعوب ومؤسساتها، وتحدث تصدعات خفية في نسيج الانتماء الوطني، يصعب ترميمها ما لم تكتشف مبكرًا وتواجه بوعي يقظ، فالشائعة رسالة متداولة بلا مصدر موثوق، تبث عمدًا بهدف زعزعة الاستقرار، ونشر الفوضى الذهنية، وتوفير مناخ من البلبلة والارتياب، وهي بذلك تشكل جزءًا من منظومة حرب إدراكية أوسع، تستهدف التأثير على العقول وزعزعة الثوابت وضعف الثقة بالمؤسسات والرموز. وتستلزم مواجهة هذه الحرب وعيًا نوعيًا متجددًا، وتربية إعلامية ومعلوماتية تنمي الحس النقدي، وتقوي مناعة الوعي ضد الانفعالات اللحظية والمحتوى الموجه والرسائل الخفية التي تتسلل من خلف الشاشة لتعيد تشكيل القناعات، ومن ثم أضحي تنمية الوعي والإدراك ضرورة أمنية وثقافية ووطنية، فهو السبيل إلى بناء مواطن قادر على التمييز، والمقاومة وإعادة البناء، مواطن يدرك أن المعركة اليوم هي معركة وعي وإدراك وحرب روايات وتصورات، وأن من يملك وعيه يملك حريته ويملك القدرة على الصمود والتصحيح، والبناء وصون وطنه. ولقد أصبحت الشائعة في عصر الاتصال الرقمي تنتشر بسرعة الضوء، مستندة إلى منصات تفتقر أحيانًا إلى الضوابط، وتتحول إلى ساحات مفتوحة لنشر الفتن، والتلاعب بالعواطف الجماعية، وتغذية الانفعالات على حساب الوعي النقدي، وأضحي الأمر سلاحًا يدار بذكاء في الأزمات، السياسية منها أو الاقتصادية أو حتى الكوارث الطبيعية، حيث تستغل بعض الجهات تلك اللحظات والأزمات لنشر الشائعات التي تستهدف صلابة المجتمعات وثقتها بذاتها ومؤسساتها، في محاولة لخلخلة الوجدان الجمعي من الداخل. وبرزت في السنوات الأخيرة موجة أكثر خطورة وعمقًا عرفت بالتزييف المعرفي؛ ذلك الشكل الخفي من التضليل الذي ينشر الأكاذيب ويصوغ معرفة بديلة موجهة بعناية، تعيد كتابة الوقائع وصياغة الحقائق لتخدم أجندات خفية أو مصالح مشبوهة ويقدم هذا النوع من التزييف في قوالب شديدة الاحترافية، كدراسات ظاهرها علمي، ومقالات تحليلية ذات طابع خادع، ومحتوى بصري جذاب ومقنع، يجعل من الكذب المعرفي مادة سهلة التصديق وأكثر تأثيرًا من الشائعة العادية. والأخطر أن التزييف المعرفي يتسلل من خلال أنصاف الحقائق، فيمزج بين الواقع والتأويل، ويعتمد على الاقتطاع والتوظيف والمبالغة، ليعيد إنتاج معارف زائفة تهندس وعيًا مغشوشًا، يقوم على أرضية مهتزة من الشك والتشويش وفقدان البوصلة، وهكذا تتحول المعركة من صراع حول الخبر وتحريف الوقائع إلى صراع حول المعرفة وإعادة صياغة الإدراك، وهذا الواقع يفرض مسؤولية مضاعفة على النخب الواعية والمؤسسات الإعلامية والتربوية، في التصدي للشائعة وكشف التزييف ومواجهة أدواته وبناء وعي صامد ناقد، قادر على التمييز بين الحقيقة والتضليل، وبين العلم الحقيقي والمعرفة المؤدلجة. ولمواجهة هذه الفوضى الإدراكية تتجلي أهمية الوعي كقيمة وجودية واستراتيجية أمن قومي، فالوعي هو وعي نقدي قادر على التمييز، والتحليل، والربط بين المعطيات وسياقاتها، وطرح الأسئلة الصحيحة، ويستحضر البعد الوطني والإنساني في كل قراءة للحدث، ولا بد أن ننتقل لثقافة الفرز الواعي، لتشكل حائط صد دفاعي يحمي الذاكرة الجمعية من الاختراق، ويحبط محاولات التشويه المنهجي للرموز والثوابت. وتضطلع مؤسسات التنشئة الأساسية (الأسرة، المدرسة، الإعلام، المساجد، والجامعات) بدور محوري في بناء مناعة فكرية راسخة لدى الفرد، تمكنه من مواجهة سيل المعلومات والمضامين الإعلامية الموجهة، وتتحقق هذه المناعة من خلال تنمية عقل نقدي متبصر، قادر على التحليل والتأمل والنقد، والتمييز بين المعلومة الموثوقة والمحتوى المضلل، بحيث يكون المتلقي قادر على التعامل مع المعطى الإعلامي بوعي بحيث يفحص، ويفكر، ويستبصر. وتدرك الدول المصرية أهمية المعركة المعرفية، وأعطت للوعي أولوية في استراتيجياتها، فالوعي السيادي يعني امتلاك القدرة على تفسير الأحداث من منظور وطني مستقل وقد نجحت الدولة بالسنوات الأخيرة في تعزيز أدوات الوعي الجماهيري من خلال تكثيف الحملات الإعلامية التوعوية وإطلاق مشروعات قومية تعيد ربط المواطن ببلده وتاريخه وهويته ومستقبله ودعم منصات معرفية تحصن الأجيال من الوقوع في شراك الفوضى المعرفية، ويعكس هذا التوجه إدراكًا عميقًا بأن حماية الدولة واجب عبر الحدود والعقول. ونؤكد أن معركة الوعي معركة أخلاقية بامتياز؛ لأنها تتعلق بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه الحقيقة، والمواطن الواعي هو الحصن الأخير يكتسب الوعي ويصقله عبر القراءة، والحوار، والتفاعل الواعي مع الشأن العام، ووسط زحام الأصوات وتضارب الروايات، تبقى البوصلة الوحيدة هي الإخلاص للحقيقة والانحياز للثوابت واليقظة في مواجهة التشويه، فالمعركة ليست سهلة، لكنها ممكنة طالما كان هناك عقل يفكر، ومواطن يتحقق، ودولة ترعى وتحصن، ومؤسسات تنهض بدورها في صناعة جيلٍ لا يستدرج، ولا يخدع، ولا يستقطب في زمن الشائعات والتزييف، فالوعي واجب وطني ومصيري.