في خضم التحديات المتلاحقة التي تعصف بالعالم من كل صوب، لم يعد مقبولًا أن تبقى العقول مكشوفة أمام سيل الموجات الفكرية الجارفة، التي تتسلل عبر الإعلام والثقافة الرقمية والتدفقات المعلوماتية العابرة للحدود، حاملة في طياتها أنماطًا من التوجيه والتشويش والاستقطاب، تستهدف زعزعة الثوابت، وتقويض المرجعيات، وتفكيك الهوية، وبث الشك في منظومات القيم والانتماء، وكما تحرص الدولة الواعية على حماية جسد الأمة من الأوبئة والمخاطر الصحية، فإن الواجب يقتضي منها، بالقدر ذاته من الجدية والمسؤولية، أن تصون عقلها الجمعي، وتحصنه من الاختراق والتزييف، ومن أشكال الغزو الناعم التي تتسلل عبر أدوات التأثير الخفي، لتهدد الأمن الثقافي، وتربك الوعي، وتعيد تشكيل المفاهيم بصورة تخدم الأجندات الداخلية والخارجية. وقد أضحت الحاجة ملحة لإطلاق مشروع وطني شامل للمناعة الفكرية، ينفذ إلى عمق الوعي الإنساني، ليعيد تشكيله من الداخل، ويرتقي بمستوى التفكير، وينمي قدرات الإنسان على التمييز والنقد والمشاركة الواعية، مشروع يستند إلى رؤية متكاملة، تعيد الاعتبار للعقل، وتحصين الوعي، وتعلي من شأن التفكير الحر، من خلال منظومة متوازنة من القيم والمعارف والانتماء والسيادة العقلية والتربية على التأمل والنقد، فالمناعة الفكرية ضرورة لحماية الهوية، وترسيخ الوعي، وبناء مواطنة مسؤولة تقوم على الإدراك والتبصر، والتربية الواعية، والتعليم النقدي، والإعلام المسؤول، والثقافة الحية التي تستحضر تراثها وتعي تحديات الحاضر وتستشرف آفاق المستقبل. وتتعلق المناعة الفكرية بمصير الأمم وهويتها واستقلال قرارها والقدرة على التمييز الواعي، ومقاومة التضليل، وقراءة الواقع قراءة نقدية دون السقوط في فخ الهدم أو التيه، فالمجتمع الذي يفتقر لها يصبح ضعيف، سريع التأثر، قابل للاختراق، غارقًا في فوضى التأويلات والاصطفافات، لا يستطيع الصمود أمام حملات التشكيك والتزييف، كما إن أعتى الهزائم تبدأ من ضعف الداخل، وتزيف الوعي، ومن انبهار الفرد بما هو وافد، واستقالته من مسؤوليته في التفكير والمساءلة والاختيار؛ لذا فالمناعة الفكرية شرطًا للسلام الداخلي ودعامة للأمن القومي، وجدار صد حضاري ومكون رئيسي في معادلة التنمية المستدامة. ولتأسيس مشروع وطني راسخ للمناعة الفكرية، لا بد من بلورة رؤية شاملة ومتكاملة، تستوعب تداخل العوامل الثقافية والتعليمية والدينية والإعلامية، وتنطلق من أن المناعة الفكرية منظومة وعي تبنى عبر الأجيال، وترسيخ العقل النقدي، وتعزيز قدرة الإنسان على المقاومة الفكرية الواعية ، فلا مناعة فكرية دون تعليم يحرر العقل ويطلق الملكات الإبداعية وينمي مهارات التفكير التحليلي والناقد، ويصقل القدرة على التمييز بين المعرفة والحقيقة والوهم، كما لا مناعة دون إعلام مسؤول يكون منبرًا للثقافة والوعي، كما لا تزدهر بيئة ثقافية حاضنة إلا في مجتمع يقدر قيمة السؤال، ويعلي من شأن الحوار، ويعيد الاعتبار للمعرفة بوصفها أداة للتحرر من الجهل، ورافعة للوعي ومحركًا جوهريًا للتغيير الحضاري الشامل. ويعد بناء المناعة الفكرية استثمار في الإنسان عقله ووعيه وضميره، مما يستدعي تكاملًا مؤسسيًا واستراتيجية وطنية تستنفر قوى المجتمع ومؤسساته لحماية الوعي الجمعي، ويقوم هذا المشروع على مرتكزات فلسفية وتربوية، في مقدمتها إعلاء قيمة العقل بوصفه أداة للفهم ومعيارًا للحكم، فهو الحصن الأول للمناعة الفكرية، وبه تبنى مدارك الإنسان وتتسع آفاق وعيه، ويكتسب التفكير النقدي مكانته كمهارة حياتية مركزية، تمكن الفرد من الفهم والتحليل والتمييز بين الحقيقة والمغالطة، وتزوّده بالأدوات اللازمة للتفاعل الواعي مع طوفان المعلومات واختلال المفاهيم. كما يستند المشروع إلى إعادة بناء العلاقة مع التراث على نحوٍ متوازن، تقوم على الفهم والتحليل تستلهم من التراث ما يرسخ الهوية، ويحصن الذات من الذوبان وتفتح المجال أمام الاجتهاد والتجديد فالتراث بما فيه من ذخائر فكرية وروحية، يعد منطلقًا للنهضة، ومن المرتكزات كذلك تحرير وتجديد الخطاب الديني، على أسس عقلانية راشدة، تعلي من قيمة الفهم والاجتهاد، وتُربي الضمير الحي، وتتصدى للغلو والخرافة والانغلاق، بوعي مقاصدي وأخلاقي وروحي ووجداني يربط الدين بالحياة ويقدمه بوصفه قوة دافعة نحو البناء والتزكية والتعايش، والتوازن الوجودي، فالدين قوة للارتقاء الأخلاقي، ومصدرٍ للتماسك الاجتماعي، وجسر للتلاقي الإنساني. ويكتمل مشروع المناعة الفكرية بتفعيل القوى المجتمعية الفاعلة، وتحريرها من الروتين والبيروقراطية والتهميش، لتمكينها من أداء دورها في بناء الوعي والمشاركة الثقافية، ولكي ينهض هذا المشروع بدوره الحيوي، لا بد أن يصاغ بلغة أهداف واضحة، ومؤشرات قابلة للقياس، وتقييم دوري، وتأهيل مستمر للعاملين عليه، في بيئة مؤسسية داعمة ومتكاملة. فكما تُبنى القلاع على أسس راسخة، تُبنى العقول على خطط واعية ترسخ الوعي، والسيادة العقلية. وتتمثل متطلبات نجاح مشروع المناعة الفكرية، في شراكة فاعلة وتكامل مؤسسي حقيقي، وفق رؤية استراتيجية طويلة المدى، تبدأ من الطفولة وتخترق مفاصل المجتمع كافة، فوزارة التربية والتعليم مطالبة بمراجعة المناهج وأساليب التدريس والتقويم، لتحويل المدرسة إلى مختبر للعقول، يعزز الإبداع، والتفكير النقدي وقيم التعدد والانفتاح، أما وزارة الثقافة، فعليها أن تستعيد الفضاء الثقافي العام من السطحية والتسليع، وتعيد توجيهه نحو التثقيف والتوعية، بوصفه فضاءً للتفكير الحر وتذوق الجمال ومقاومة الرداءة الفكرية والفنية، والإعلام بدوره فاعل محوري في معركة الوعي، لما له من تأثير في تشكيل الرأي العام؛ لذا يجب إعادة صياغة رسالته التثقيفية ليصبح منبرًا للحوار، ونافذة على التنوع، وأداة لبناء الوعي الجمعي. ولكي يحقق المشروع أهدافه لابد ان يدمج في السياسات العامة للدولة بوصفه جزءًا من أمنها القومي الشامل، وأداة استراتيجية لبناء مواطن يمتلك قراره الفكري بحرية ومسؤولية، بعيدًا عن التبعية الفكرية والهيمنة الإعلامية، فالمواطن الواعي لا يستدرج إلى فوضى الشائعات ولا يستغل بالشعارات، بل يقرأ ويحلل ويختار، ويقاوم التطرف والإرهاب بالمعرفة، والضلال بالبصيرة، وهكذا نحمي الحاضر ونبني مستقبلًا أكثر، وعيًا، وإنسانية، وسيادة. ونؤكد أن المجتمع الذي يمتلك سيادة عقلية جامعة هو مجتمع آمن، متماسك، قادر على التجدد ومحصن ضد التفكك والتطرف، فحين يكرَّم العقل، يُثمر أمنًا، وينتج وعيًا، ويصنع نهضة، فبناء مناعة فكرية حقيقية يتجاوز حدود السياسات والإجراءات ويتطلب عقدًا وطنيًا على الفكر، تلتقي فيه إرادة الدولة، وضمير النخب، ووعي المجتمع، على قناعة بأن العقل هو الثروة الكبرى، وأن التربية على الفهم والتمييز والتأمل هي السبيل الأصيل لبناء الإنسان وصناعة المستقبل، فالعقول تحرر بالفكر، وتوقظ بالتساؤل، وتحصن بالمعرفة، وتقوى بالحوار، وتوجه بالقيم ويعد الاستثمار في المناعة الفكرية استثمارًا في بقاء الأمة حرة في قرارها، منيعة في وعيها، ناهضة في مسارها، وصاحبة سيادة على مصيرها.