في عالم تتسارع فيه التحولات المعرفية والقيمية بشكل غير تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف الغايات التربوية بما يتجاوز حدود التعليم التقليدي، ليصبح هدفها الأسمى بناء الإنسان الواعي القادر على فهم ذاته والعالم بعمق ومسؤولية، وتسعى هذه الرؤية إلى تأصيل مفهوم الذكاء الواعي بوصفه جوهر العملية التربوية، حيث تلتقي القدرات العقلية مع النضج الوجداني والأخلاقي، ليتشكل نموذج الإنسان المتزن القادر على التفكير النقدي، والتفاعل الإنساني، والمشاركة الفاعلة في بناء مجتمعه وعالمه بروح منفتحة وضمير حي، إن هذه الرؤية تدعو إلى تربية تتنفس فيها الحرية الفكرية، ويتقد فيها شغف الاكتشاف وتترسخ فيها القيم؛ بحيث يصبح التعلم رحلة نحو الفهم الحقيقي للذات والآخر، وممارسة حية للمسؤولية الإنسانية في عالم متعدد الثقافات ومتجدد التحديات. وجدير بالذكر أن الذكاء الواعي بات مفهومًا مركبًا يعكس العمق الإنساني للقدرات العقلية والوجدانية والسلوكية، ليشمل الوعي بالذات والعالم، والقدرة على التفاعل الأخلاقي مع الآخرين، بما يتطلب حضورًا ذهنيًا دائمًا ونضجًا داخليًا يُمكن الإنسان من قراءة الحياة بطريقة مسؤولة، تأخذ بعين الاعتبار أثر الأفعال على الآخرين، والبيئة، ومستقبل البشرية، وهنا يبرز الذكاء الواعي كأحد أرقى أشكال الإدراك الإنساني، حيث يجمع بين التفكير التحليلي والبصيرة الأخلاقية، الوجدان والعقل؛ ليشكل نموذجًا للإنسان الذي يرى المعرفة أداة لفهم الذات، والفهم منطلقًا للتغيير والبناء، فهو لا ينفصل عن البعد القيمي والروحي للوجود، بل يحول المعرفة إلى التزام حي بالمسؤولية الإنسانية، مما يصنع نضجًا داخليًا متكاملًا. ويتجلى الذكاء الواعي في أبهى صوره من خلال قدرة الإنسان على التكيّف مع التحولات العالمية دون أن يفقد بوصلته الأخلاقية أو يذوب في التيارات الطارئة؛ فالإنسان الذي يمتلك هذا النوع من الذكاء يظل متجذرًا في هويته، متزنًا في وعيه متسلحًا بمنظومة قيمية داخلية توجهه وسط عالم مضطرب سريع التغير وهو بذلك لا يستسلم لضغوط الواقع أو يستلب أمام الحداثة العابرة، بل يوازن بين الانفتاح على العالم والحفاظ على أصالته، فيعيش التحول كفرصة للنمو الواعي. وحين يتكامل الذكاء الواعي مع الهوية، تتبلور شخصية قادرة على تجاوز الانغلاق والتقليد، لتصوغ لنفسها وجودًا إنسانيًا أصيلًا ومتجددًا؛ إذ لا تنفصل الهوية هنا عن الوعي، ولا تُختزل في شعارات سطحية، بل تُبنى على إدراك عميق للجذور وفهم نقدي للذات واستعداد دائم للحوار مع الآخر دون تفريط في الثوابت أو الانغلاق على الذات، فالفرد ذو الهوية الواعية لا يتخلى عن انتمائه، بل يعيد اكتشافه في ضوء القيم الإنسانية المشتركة، وهنا تصبح الهوية قوة للتكامل وأداة لبناء الجسور. ويغدو الذكاء الواعي، في هذا السياق، حجر الأساس لبناء المواطنة الأصيلة والفاعلة؛ حيث يتحول الوعي من مجرد إدراك نظري إلى التزام عملي تجاه قضايا الإنسان وحقوقه وكرامته، فالمواطن الواعي لا يكتفي بمعرفة حقوقه، بل يتجسد وعيه في ممارساته اليومية، حيث يتبنى قيم العدل، والحرية، والاحترام، ويعي أن مسؤوليته لا تقف عند حدود وطنه، بل تمتد إلى الإنسانية جمعاء، وحين يتكامل الذكاء الواعي مع هوية متماسكة الجذور، يصبح الإنسان أكثر قدرة على تحقيق التوازن بين الأصالة والانتماء الواعي لموروثه الثقافي، والانخراط المسؤول في عالم متعدد الثقافات؛ حيث يعتز بجذوره دون تعصب، ويحتفي بالتنوع دون انصهار، ويرى في التفاعل مع القضايا الإنسانية كالعدالة، والسلام، والكرامة الإنسانية واجبًا أخلاقيًا والتزامًا لا يمكن التنصل منه. وفي ضوء ما سبق تصبح التربية على الذكاء الواعي هدفًا تربويًا رئيسًا؛ حيث تُعنى بإعداد الإنسان الفاعل، الواعي بأثره في العالم، محصن بقيمه ومنفتح على الآخر، قادر على اتخاذ قرارات نابعة من منظومة متكاملة من الوعي والقيم والمبدأ والمسؤولية، فلم تعد التربية الحديثة تكتفي بتخريج أفراد يحسنون الإجابة عن الأسئلة، بل تطمح إلى بناء أفراد يمتلكون القدرة على طرح الأسئلة العميقة، والتأمل في المعاني، واستنباط الطرق الذاتية للحياة الرشيدة. وتُمثل التربية الحاضنة الأولى لتنمية الذكاء الواعي، وتركز علي بناء الإنسان المتكامل، فالتربية الحقيقية فهي التي تراهن على عقل المتعلم ووجدانه وضميره، وتغرس فيه التأمل والنقد والإبداع، وعندما تعي المؤسسات التربوية هذه الرسالة، تتحول إلى فضاءات خصبة تُشجع التساؤل والاكتشاف، وتُرسخ قيم الحرية الفكرية والتفكير النقدي والتعلم الذاتي، وليتم ذلك لابد من بناء بيئة تربوية قادرة على تنمية الذكاء الواعي؛ حيث تصبح المناهج الدراسية أكثر اتصالًا بحياة المتعلمين، وأكثر استجابة لتحدياتهم وطموحاتهم، فالمناهج الفاعلة هي التي تدمج بين المعرفة النظرية والخبرة الحياتية، فيشعر الطالب بأن ما يتعلمه له أثر في واقعه، وأن التعلم رحلة إنسانية نحو الفهم والتغيير. وللقدوة التربوية دور محوري في بناء الذكاء الواعي، إذ يُنتظر من المربين أن يكونوا نماذج حية للوعي، من خلال سلوكهم، ولغتهم، وطريقتهم في إدارة الحوار، حيث تُمارس القيم وتُعاش بطريقة أكثر عمقًا في الحياة اليومية التربوية بطريقة صادقة وعميقة، ؛ لهذا دعت الحاجة التربوية إلى إعادة بناء المناهج التعليمية، لتكون انعكاسًا حيًا لواقع المتعلمين وتطلعاتهم، تمنحهم فرصًا حقيقية للتأمل والاكتشاف، وتشجعهم على خوض تجارب ذات مغزى، سواء من خلال الأنشطة المجتمعية أو الفنية أو الثقافية، باعتبارها مسارات موازية لصقل الوعي وتنمية القيم. ونؤكد أن بناء الإنسان المتكامل يبدأ من الإيمان العميق بأن التربية لا تقتصر على تزويد المتعلمين بالمعارف أو تنمية مهارات عقلية مجردة، بل هي فعل وجودي يُعنى ببناء روح قادرة على التفكير النقدي، والاختيار الأخلاقي، والعمل المسؤول، لذا فإن الذكاء الواعي لا يُعد ترفًا تربويًا، بل يمثل ضرورة وجودية لإنسان هذا العصر؛ فالتربية التي تسعى لتنميته تجعل من غايتها الكبرى إعداد إنسان يُدرك، يُحلل، يُبدع، ويُسهم بوعي ومسؤولية في بناء عالم أكثر عدلًا، وإنسانية، وسلامًا. _______ أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر