يواجه العالم الآن ولسنوات مقبلة مجموعة معقدة من التحديات المرتبطة بمسائل معنية باستمرار الهجرة الجماعية، والبطالة، وعدم المساواة وتزايد الفقر والفقر المدقع وتفاقم ظواهر التغير المناخي والتحديات البيئية، والتغيرات السياسية المتسارعة وتراجع النمو الاقتصادي وتداعيات الأوبئة وتأثيرها على صحة الانسان وتزايد النزاعات المسلحة والاحتلال والاستيطان وذلك بالاضافة الى تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية من نقص في سلة الغذاء واضطراب في أسعار الغاز والطاقة، وتزايد حدة ازدواجية المعايير الدولية واستخدام التقنيات والتكنولوجيا الحديثة وخاصة الأجيال الجديدة من الذكاء الاصطناعي غير الانساني والاخلاقي، كل هذه التحديات الضخمة سوف تجد سبيلاً للتفاقم وبناء أنظمة جديدة ذات توجه أحادي الرؤية تزيد من الانقسامات والنزاعات في ظل عوالم متعددة الأبعاد تحكمها المصالح والأهداف المشتركة، وسوف تتفاقم تلك التوجهات ما لم يكن هناك عقل جمعي أخلاقي وإنساني يستطيع ان يساهم ويقود لعالم أفضل ويلتزم بما أقرته الشعوب من مبادئ العيش المشترك على هذا الكوكب ووضع الاستراتيجيات والسياسات التي من شأنها أن تساهم وتساعد على التصدي لهذه التحديات معاً ولتساهم في الحد من النزاعات وانتشارها والتوجه للعمل الأممي لمواجهة من يدير دفة السيطرة على الاقتصاد العالمي والذي يلقي بأثاره الكارثية على الدول الأقل نمواً. كيف نشكل حائط صد للبناء والتطوير ومواجهة التحديات الخارجية والداخلية؟ تشكل التنمية والتمكين الاجتماعي حائط صد منيع للشعوب والدول في امتلاك القدرة والارادة على مواجهة التحديات من خلال الاعتماد على التنظيمات الحيوية والنشطة للقيام بمهامها وأدوارها في الدفعة القوية للمجتمعات، بحيث تحدث تغيرات جوهرية ترتبط بشكل رئيسي بمبدأ العدالة وتترجم لدى المواطنين بحالة من الرضا، ولا يتأتى ذلك إلا بتهيئة القوى الاجتماعية والتنظيمات الاجتماعية لدفع أبناء المجتمع على التغيير والانتقال الى وضع اكثر تطورا وإرساء القيم والممارسات الجيدة والمشاركة في حل المشكلات والتحديات المجتمعية، وهنا لابد من إحداث شراكة حقيقية وفاعلة مع كافة اصحاب المصلحة وهم المواطنين فكلما كانت هناك استراتيجيات واضحة وشفافة للتنمية المستدامة متضمنة أدوات وآليات لتمكين المواطن، يصبح العائد والاستثمار من التمويل الاجتماعي اقوى واكثر تأثيرا بين البشر من التمويل النقدي بشرط أن يضمن التمويل النقدي تمكين الانسان من تعليم وتعلم وتدريب لكي يقوم بأدواره في تطوير الذات والمجتمع، التمويل الاجتماعي هو كرة الثلج التي تمكن من إيجاد طرائق متنوعة من التفكير غير النمطي وزيادة الروابط والتعاون والاحساس بالمسئولية وروح القيادة والابداع والاهم هو استدامة التنمية للإنسان، وقد تتسع دوائر الحركة لكرة الثلج لتصل إلى الأسرة والأقارب والمجتمع المحيط لتبني وتعمر وترسخ الاستدامة على المستوى القومي والانساني. وتشكل التوجهات الاستراتيجية للتنمية الاجتماعية المتوسطة وطويلة المدى مسارا هاما لتطوير السياسات والبرامج الفاعلة والنشطة باتجاه تمكين الإنسان من امتلاك القدرة على الاختيار من مسارات متعددة للتمكين الاجتماعي وفي مقدمتها التعليم والتعلم المستمر والتدريب واكتساب المهارات والخبرات، والتي تعتمد على التواصل الافضل مع التراث الإنساني التربوي والثقافي والمعرفي، وإنتاج معرفة جديدة والاستثمار الأخلاقي للتقنيات والتكنولوجيا سريعة التطور لخدمة البشرية كما يتلازم مع تلك الرؤية الفعل الممارس من حركة واعية وناشطة مستجيبة لاستجلاء قوة التعليم وتعلم الكبار لتمكين الكبار وفي المقدمة منها الشباب والمرأة من الدمج الكامل والشامل مع قطاعات التنمية البشرية والمستدامة ترسخ أبعادها لبناء مجتمعات آمنة ومنتجة وفاعلة، مجتمعات التعلم والمعرفة والمهارات المتجددة. أصبح من الواضح بما لا يدعو إلى الشك ان آليات التمكين الاجتماعي تفضي الى استدامة التنمية التي تقوم على علاقات أكثر عدلاً وشمولا للإنسان ومجتمعه، وإحداث التغيير الإيجابي وتحقيق التكامل بين أهداف وأبعاد التنمية المستدامة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وضمان عدم اقتصار التنمية على السعي الى تحقيق النمو الاقتصادي الذي لاينعكس على تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة ومتكاملة للبشر والمجتمعات معا. فالتنمية الاجتماعية والبناء الإنساني يعظم من رأس المال الاجتماعي ويمثل العمود الفقري للتمكين واستدامة التنمية الشاملة والمتكاملة من خلال الإعداد البشري الجيد من تعاليم ومعارف ومهارات وتدريب كذلك تفتح مسارات لبناء وتعميم السمات الثقافية والسلوكية القيمية الجيدة، وبناء الوعي الناقد وتحدث حراك فاعل بالمجتمعات، وترسيخ اليات التمكين التي تفضي الى التغيير الايجابي في البنية الاجتماعية فلابد من الرصد وتحليل المؤسسات الاجتماعية القائمة من حيث أدوارها وقوة تأثيرها فى الدفع لمسارات متنوعة وحيوية ترتبط بشكل رئيسي بالعدالة وعدم التمييز والتهميش والحد من الفجوات على كافة المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية. ومن الملاحظ أن جميع الظواهر الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الآن ناتجة عن ضعف وتراجع لدور المؤسسات الاجتماعية التي أصابها النمطية والسكون وانعدام التخطيط العلمي لتطويرها وتدريبها حتى تقوم بأدوارها وينطبق ذلك على كافة المؤسسات من مؤسسة الأسرة التي أنهكت بالأعباء الاجتماعية والاقتصادية الضخمة مرورا بمؤسسات التنمية والتطوير الاجتماعي من تعليم وصحة وفنون وثقافة وإبداع وتنوير، وقد تزامن ذلك مع توقعات خبراء الاجتماع حول خريطة الأفول الاجتماعي في المستقبل لأدوار المؤسسات الاجتماعية الأسرة، المدرسة، الرقابة الاجتماعية، "حيث تزاح المعايير الاجتماعية التقليدية لصالح القيم الثقافية والانسانية"، كما وثق ذلك آلان تورين عالم الاجتماع الفرنسي في كتابه نهاية المجتمعات. السؤال المطروح هو كيف تتشكل القيم الثقافية والانسانية القادمة في غياب وضعف مؤسسات التعليم والتنوير والمعرفة؟ إن اعتبار المعرفة والتعليم والمهارات هي للمنفعة والصالح العام المشترك بما تتضمن من ابتكار المعرفة واكتسابها وإقرار صلاحيتها واستعمالها فهي تشكل القواسم المشتركة لجميع البشر، " فالتعليم والتعلم مسعى مجتمعي جماعي يراعي تنوع السياقات والنظم فهو جزء من التراث الإنساني المشترك لأي مجتمع والمستلهم من قيمة التضامن المتأصلة في انسانيتنا وان حقيقة المجتمع تكمن في ثقافته كما ونوعا، جمودا وفاعلية "، وذلك وفق ما أشار إليه المفكر التربوي المصري أ.د/ سعيد اسماعيل. هذه المرحلة التاريخية تحتاج الى رؤية مجددة لتنمية مستدامة انسانية واجتماعية منصفة وقابلة للتطبيق تراعي الأبعاد الاجتماعية والبيئية والاقتصادية ومختلف أوجه الارتباط بهذه الأبعاد بالتربية والتعليم والتعلم وتواصل الأجيال حيث التنشئة من أجل التمكين تبني الموارد البشرية التي تحتاج إليها لتكون منتجة وتستمر في التعلم وتحل المشكلات لتستطيع العيش معا، فحين تضمن الدول انتفاع التربية للجميع بهدف التنشئة تصبح التربية هى المحرك للتنمية فيكون المجتمع فاعل ونشط وحيوي يبني الحاضر ويدفع ايجابيا للمستقبل ويستفيد من دروس الماضي. وقد عبر إعلان برلين بشأن التعليم من أجل التنمية المستدامة بعدة رسائل عن قدرة التعليم والتعلم وحركتها الفاعلة للتنمية المستدامة: • تسخير القدرة الكامنة في التعليم من أجل التنمية المستدامة لاعادة بلورة معالم مجتمعاتنا وتشجيع الانتفاع بالمعارف العلمية وتبادل البيانات لاجراء البحوث ورسم السياسات القائمة على البيانات العلمية المدققة واتخاذ القرارات بطريقة ديمقراطية ووضع نظم التقويم والتقييم. • تمكين الشباب بكونهم عوامل لاحداث التغيير من أجل تحقيق استدامة التنمية من خلال فرص التعليم والتعلم والتدريب وفرص المشاركة في الحياة المدنية واتساع فرص العمل. • تعبئة التعليم من التنمية المستدامة لمكافحة الفقر وذلك بتزويد المتعلمين بالكفاءات المناسبة من تعليم وتدريب تقني ومهني وتنمية المهارات التي تكفل الكرامة الانسانية والحق في العيش الكريم. • تعزيز التعاون المتعدد القطاعات والمتعدد التخصصات للتعليم والتنمية المستدامة على جميع مستويات الحكم والأخذ بالنهج الشامل للحكومة وتعزيز التعاون مع كافة أصحاب المصلحة من منظمات غير حكومية والأوساط الأكاديمية وقطاع الاعمال والشباب وكافة الفئات المتفاعلة مع العملية التعليمية. • تخصيص موارد كافية وحماية مصادر التمويل المحلية والدولية لتمكين الشباب وتعزيز قدرة التعليم على إرساء العدل والاستدامة. يمكن التعليم والتعلم أن يشكل حركة مجتمعية وشعبية واسعة المجال للتمكين واستدامة التنمية حيث ان كرة الثلج واسعة الانتشار والحركة بمجال التطوير والمساهمات المجتمعية لكافة أصحاب المصلحة إذا تم تمكينهم الأدوات التي تساهم على التعليم والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي.