عندما نتحدث عن التعليم والتعلم كقاطرة وبوابة رئيسية للنهوض والتغيير الاجتماعى والتنمية الاقتصادية فإننا نحتاج إلى طرح مقاربة تنموية تشاركية مستدامة تعتمد على الخرائط الديموجرافية للتعليم والتعلم على المستوى الوطنى، تركز هذه الخرائط على محاور أساسية تمثل ثلاثة أضلاع المثلث، قاعدة المثلث هى الاستدامة التنموية، أما الضلعان فهما التخطيط الاجتماعى التشاركى وسياسات الخصائص السكانية. لم يحظ هذا المثلث بالاهتمام الواجب فى عمليات التخطيط التربوى إلا بمرحلة المشروع الوطنى فى حقبة الستينيات والتى كانت أكثر فترات التأثير والارتباط لمؤسسة المدرسة بالفكر التنموى الاجتماعى والاقتصادى وساهمت المدرسة والجامعة بشكل حاسم فى عملية الهندسة الاجتماعية حيث رصد المفكر التربوى الدكتور محمد مدبولى أن الفكر الديموجرافى كان حاضرا بقوة فى خطط الدولة فى تلك الفترة، وجاءت بيانات التعداد السكانى العام وقراءة مؤشراته فى صدارة عمليات التخطيط التربوى خاصة فى الريف حيث ثورة كهربة الريف المصرى والمجتمعات السكانية الجديدة فى مديرية التحرير والوادى الجديد وأسوان. تأتى أهمية رسم الخرائط الديموجرافية للتعليم والتعلم بجميع محافظات ومراكز وقرى الجمهورية إلى: *** إن التعليم النظامى الرسمى يمثل أكبر قوة بشرية منتظمة فى هياكل مؤسسية يومية وهى تقدر وفق الإحصاء الاجمالى لوزارة التربية والتعليم لعام 2021 /2022 بنحو «25062294» خمسة وعشرين مليون طالب وطالبة ما يقرب من 25 % من إجمالى عدد سكان مصر منهم 2.5 مليون تقريبا بالمدارس الخاصة موزعين على 58807 مدارس بواقع 539980 فصلا دراسيا بينما وصل عدد المعلمين المعنيين والمتعاقدين إلى 991969 معلما !!! يضاف إلى ذلك اجمالى عدد طلاب بالتعليم العالى وفق إحصاء وزارة التعليم العالى 2021 ب3.4 مليون طالب وطالبة لتمثل هذه القوى البشرية نحو 28.5 % من قوة عدد السكان فى مصر. فكيف يتم تحليل هذه الأرقام من خلال المحاور الثلاثة الأساسية لأضلاع رسم الخرائط الديموجرافية للتعليم فى مصر؟ *** اتساع قنوات ومسارات التعلم من خلال المؤسسات النظامية واللانظامية وهى معنية ببرامج التكنولوجيا السريعة والمتطورة، وأساليب التقنيات المتقدمة، ومتطلبات المهارات الاجتماعية وبناء القدرات الجديدة، والتدريب المستمر...إلخ، وهى من المتطلبات الحيوية للتأقلم مع تقدم المجتمع وتطور الذات وتحقيق التغير الاجتماعى والاقتصادى على المدى السريع والمتوسط، ويحظى التعليم الجامعى ببرامج التعليم المستمر والتعلم مدى الحياة ولكنه يتم فى سياق ثابت غير مرن حيث من الأهمية النظر للبعد التنموى من خلال الأدوار التى تمارسها الجامعات وتأثيرها على المناطق مستفيدة من البرامج الديموجرافية بأبعادها الثلاثة على المستوى الجغرافى. *** حصر ورصد وتوثيق البرامج والمبادرات الايجابية بمجال التعليم والتعلم من المنظور التنموى التشاركى المراعى للخصائص السكانية والمحقق لنتائج وتأثيرات ايجابية بالمجتمعات المحلية حيث كانت المنظمات والجمعيات الأهلية الأسبق فى برامجها النظامية وغير النظامية إلى إدراك العلاقة التكاملية والتنسيقية بين التعليم والتشارك لتحقيق التنمية من خلال التخطيط بالمشاركة المجتمعية مع جميع أصحاب المصلحة مع المؤسسة التعليمية والمجتمع المحلى المحيط. *** أهمية التحليل الديموجرافى للتركيبة السكانية فى مصر الآن حيث تشير المؤشرات إلى: تنامى قطاع الشباب، تزايد الهجرة من الريف إلى الحضر، ارتفاع نسبة الإعالة خاصة بالأسر الفقيرة، انخفاض نسبة قوة العمل، كذلك تحليل تزايد الظواهر مثل تزايد العنف بجميع أشكاله ومن فئات متنوعة بالمجتمع، وعناصر تماسك وتفكك الأسرة المصرية واسبابها، وتأثير كل تلك الظواهر على طلاب المؤسسات التعليمية والتى تشكل 28.5 % من إجمالى سكان مصر. يمكن للتعليم والتعلم أن يشكل المستقبل من خلال مقاربة التخطيط التنموى التشاركى الإنسانى والمستدام والذى يعزز العيش المشترك ليصبح التعليم والتعلم مدخلا وبوابة لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة تهدف لتحقيق التالى: أولا: بناء مجتمعات المعرفة والثقافة والوعى هى تعتمد على بناء القدرة على التغيير من خلال إطار يعزز المهارات الأساسية بحيث يقيم مهارات إنسانية يشارك فيها الجميع لتأسيس المواطنة الإيجابية المستنيرة من خلال حرية الرأى والتعبير، الاحترام المتبادل، المبادرة، العمل التشاركى، التعاون، المسئولية، الكفاءة، سيادة القانون، العدالة، التسامح، التفكير الناقد، التفكير العلمى، الابداع. وتسعى مجتمعات المعرفة إلى الحوار والبحث وإثارة الوعى للتجديد والتطوير كذلك إلى التغيير بإيقاظ الوعى وتغيير نمط التفكير ليصبح اكثر تفاعلا فى تحديد العلاقة بين الذات والواقع. ولا تقتصر المعرفة على الجانب العلمى والتكنولوجى والمهارات الرقمية فقط ولكنها تشمل الآداب والعلوم الاجتماعية والفنون والثقافة، مجتمع يسعى إلى استخدام وإنتاج والاستثمار فى المعرفة وتوظيفها، يمكن أفراد المجتمع ومجموعاته من سمات سلوكية وثقافية تهيئ للتطوير والإبداع والتنوير، وأهمية العمل على تعزيز الاستثمار الجيد فى التكنولوجيا واكتساب المعرفة والمهارات التقنية كأداة متميزة للتواصل والاتصال وتطوير مفاصل الحياة والتى تشكل تدعيم المهارات الاجتماعية والوجدانية والنفسية المعززة للتماسك الاجتماعى للفرد والأسرة والمجتمع. ثانيا: بناء مجتمعات التمكين والتنمية المستدامة التعليم والتعلم يعزز تحقيق أهداف التنمية المستدامة وذلك بإكساب الدارسين الصغار والكبار ما يلزمهم من معارف ومهارات ومواقف وقيم لبناء مستقبل مستدام ولا يقتصر الارتباط الوثيق لتحقيق الهدف الرابع «هدف التعليم» من أهداف التنمية المستدامة مع الأهداف السبعة فقط « القضاء على الفقر(1) الصحة (3)، المساواة بين الجنسين (5)، العمل اللائق(8)، الاستهلاك المسئول (12)، التغيير المناخى (14) والسلام والعدل ومؤسسات قوية (16) ولكنه أيضا يندمج أو يتشابك أو يتقاطع مع جميع أهداف التنمية المستدامة القائمة على منظومة القيم والممارسات الحاضرة والمستقبلية المخططة. إن دمج التعليم والتعلم فى جميع أهداف التنمية المستدامة يفضى إلى التمكين من الآليات والأدوات والموارد الاجتماعية والاقتصادية المؤهلة لإدارة مجتمعات تتسم بالتفاعل النشط والمنتج والقادر على حل المشكلات والتحديات عبر العمل التعاونى والتشاركى المحققة لمصلحة الفرد والجماعة والقادرة على معالجة التحديات المحلية بما فيها تحديات ذات السمة العالمية مثل التغيير المناخى وتداعياته المستقبلية. ثالثا: بناء مجتمعات التعلم تعتمد تلك المجتمعات على نسق قيمى ومعتقدات مشتركة وتنخرط تلك المجتمعات فى أنشطة التعليم والتعلم المتنوعة التقليدية منها والحديثة وتتحدد فاعلية تلك المجتمعات على أربعة شروط وهى عضوية الجماعة المجتمعية والتفاعل بين أفراد الجماعة وإشباع الحاجات الفردية من التمكين الاجتماعى والاقتصادى لتطوير الفرد وأخيرا المشاركة فى الأحداث والروابط الوجدانية أن تعزز المجتمع بحيث تعكس المصالح والمنافع المتفق عليها الفردية منها والجماعية بمجتمع التعلم. رابعا: بناء مجتمعات تواصل الأجيال يوجد أهمية لسياسات تدرك فلسفة تواصل الأجيال والمعنية باستمرار الحياة عبر تراكم تاريخى وإنسانى وأخلاقى وتعليمى للخبرات والمواقف والأحداث لتصبح فى ذاكرة التاريخ وتمثل عبق وأصالة وحضارة مثلما يؤكد ذلك المفكر والرائد التربوى الدكتور سعيد إسماعيل ولتنتقل بأدوات وقنوات للتعليم والتعلم والثقافة إلى الحاضر عبر أجيال متعاقبة لتشكل رأس المال الاجتماعى الحاضر والفاعل والنشط. كذلك توجد أهمية لإدراك السياسات والمجتمعات لأهمية العمل المشترك نحو تشكيل ملامح المستقبل يشارك ويساهم ويقودها أجيال جديدة قادرة على إدارة بوصلة العمل والتطوير والتنمية ويأتى ذلك فى ظل تحدى خطير من اتساع الفجوة بين الأجيال من حيث تجذرها وعمقها واتساعها فى ظل عولمة تقتحم جميع الكيانات والهياكل المؤسسية وخاصة المؤسسات الاجتماعية ذات السمة الحمائية والرقابية، كذلك تحدى عدم القدرة على التواصل الجيد مع تطلعات وآمال الشباب والاستماع إلى رؤيته وأفكاره عن تطوير الحاضر وتشكيل المستقبل وإرساء لمنظومة الحقوق الإنسانية الجامعة والمشتركة والثابتة بين الأجيال من التسامح للعيش المشترك والإنصاف والعدالة وإلغاء جميع أشكال التمييز والأقصاء والاستبعاد بين الأجيال لتحقيق تماسك أبناء الوطن الواحد وامتلاك نتائج ثمار التنمية لجميع فئات وأجيال المجتمع لتحقيق المواطنة والانتماء وتطوير آليات المشاركة الفعالة. وهنا تبرز أهمية تجسير الفجوة بتواصل الأجيال والدفع بأدوات وقنوات تفضى إلى البناء الاجتماعى المتماسك الضامن لجميع المكونات المتنوعة للمجتمع وفى القلب منه الأجيال الشابة. وقد يرسخ هذا الفهم لوجود آليات ومسارات تعليمية ومهارية وتدريبية تسعى لبناء تواصل للأجيال وتدعم حق هذه الأجيال فى الاختيار والدفاع عن حقه من التمكين ومن الممارسة والقيادة والحفاظ على الموارد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية حيث تشكل وتهيئ ضمانة لقيادة الأجيال القادمة وبناء مجتمعات منتجة وممكنة بفاعلية. خامسا: بناء مجتمعات داعمة ومؤازرة للتعليم النظامى: كيف ومتى؟ بالمقال القادم. * سهام نجم - خبيرة دولية فى التعليم والتعلم والتنمية المستدامة بالمجتمع المدنى