لم تعد الأزمات تمثل اختبارا لآداء وكفاءة الدول والحكومات، بل تحولت إلى ساحات حرب مفتوحة لتبادل ونشر الشائعات ونظريات المؤامرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليصبح من الهام والضروري الآخذ في الاعتبار أننا بحاجة إلى وضع آليات لإدارة سرديات الجماهير الرقمية المغلوطة التي تحول كل أزمة إلى جائحة معلوماتية يتضاعف حجمها لنصبح في مواجهة أزمتان : أزمة الحدث، وأزمة الوعي الجماهيري. في حادثة حريق سنترال رمسيس، غاب التفسير في الساعات الأولى، وترك ذلك فراغا معلوماتيا بعد أن أقتصر دور الإعلام على نقل مشاهد حية لعمليات السيطرة على الحريق. على الجانب الآخر أنهمرت منشورات الجمهور المليئة بالتساؤلات والسخرية والكثير من المغالطات ونظريات المؤامرة و التي انتشرت بسرعة تفوق سرعة النيران المشتعلة في المبنى لأنها نجحت في مخاطبة المشاعر لا العقل. ومع تأخر الكشف عن المعلومات من الجهات الرسمية، حول طبيعة المبنى وأهميته والخدمات التي تأثرت بسبب الحريق والبدائل المطروحة، زادت مساحة الشك، وأصبح الجمهور صيدًا سهلًا لنظريات المؤامرة. وهنا تحولت الأزمة من مجرد حدث إلى اختبار للوعي الجمعي، وقدرتنا على التمييز بين المعلومة الصحيحة والزائفة.وتحققت نظرية ملء الفراغ المعلوماتي التي تؤكد أنه كلما تأخرت المؤسسة في تقديم المعلومة خلال الأزمة، زاد احتمال أن يملأ الجمهور هذا الفراغ بالشائعات ونظريات المؤامرة. وهنا يجب أن ندرك أنه في العصر الرقمي، لا تدار الأزمات فقط عبر المؤتمرات الصحفية أو التصريحات الرسمية، بل يجب أن تدار معارك الوعي في ساحات "فيسبوك" و"تويتر" و"تيك توك"، حيث تنتشر الروايات والمؤامرات والمغالطات وتعاد صياغتها كل دقيقة محاطة بالكثير من المشاعر وليس المعلومات. وإذا لم تواكب الجهات الرسمية والمؤسسات الإعلامية هذا الانفجار السريع، وتوفر محتوى دقيق يفسر ويوضح الحقائق ، فإنها تخسر المعركة أمام نظريات المؤامرة في لحظات الخوف والقلق والغموض. وهنا علينا أن نفهم جيدا أن الإدراك الجماهيري للأزمة أهم من الحدث نفسه، وأن إدارة الرأي العام جزء أساسي من إدارة الأزمة. لذا فإن إدارة الأزمة في العصر الرقمي تتطلب أدوات جديدة وفهما عميقا لسلوك الجمهور الرقمي. فلا نكتفي بنفي الشائعات، بل يجب استباقها، وتقديم معلومات موثوقة بطريقة جذابة. وعلينا أم ندرك أن الاستثمار في رفع الوعي الرقمي لدى الجماهير بات ضرورة وطنية، وليس مجرد رفاهية أو واجب إعلامي. وجميعنا يعرف طبيعة ما تتعرض له منطقتنا العربية من أزمات وصراعات ومؤامرات حقيقية تجعل معركة الوعي على رأس معارك الوطن. فلا أتصور أن يأتي اليوم الذي نردد فيه كلام العدو ونفسر ونحلل بمنطقه ونروج لسيناريوهاته لأنه نجح في زعزعة ثقتنا في قيادتنا ومسئولينا. وعلينا هنا أن نفرق بين محاسبة مسئول قصر في أداء عمله وهو حق أصيل لنا ، وبين ترويج الأكاذيب و اللعب على أوتار مشاعر الغضب والخوف في وقت الأزمات. كيف نواجه ذلك؟ بعد أن دخلنا في مرحلة ما بعد الأزمة المعنية بالتقييم وتعلم الدروس، علينا أن نعيد النظر في استراتيجيات إدارة الأزمة ونضيف إليها بعد التعامل مع مشاعر الجماهير رقميا.فالجهات الرسمية مطالبة بالتحرك الفوري إعلاميا، وليس فقط ميدانيا، لتوفير المعلومة الصحيحة بلغة بسيطة وشفافة تنشر على المنصات الرقمية على اختلاف طبيعتها وجماهيرها . كما أن الإعلام بحاجة لتبني دور تفسيري، وليس خبريا فقط، يوضح للجمهور كل الحقائق. ويقدم أيضا الحلول. و علينا أن نستعد للأزمات القادمة جيدا عبر إضافة مساقات وتدريبات في المدارس والجامعات تنمي التفكير النقدي وتعلم مهارات التحقق من المعلومات. فنحن لا نواجه فقط أحداثا طارئة، ولكنها حربا على العقول تستباح فيها كل الأسلحة القذرة و مهما بدت الروايات ساذجة وغير منطقية ، قد تصبح وقودا للفوضى إذا تركت دون مواجهة واعية. إن معركتنا الحقيقية في الأزمات المعاصرة هي معركة وعي، والانتصار فيها لا يكون فقط بإطفاء النيران، بل ببناء مناعة فكرية ضد التضليل.ومهمتنا ليست فقط في احتواء النيران، بل في إنقاذ عقول كثيرة من الاحتراق.