انفجارٌ على الهواء، وصمتٌ يملأ شاشات الإيرانيين. في ثوانٍ معدودة، تحوَّل استوديو التلفزيون الرسمي بطهران إلى كومة زجاج محترق بعدما أصابته غارة جوية مركَّزة. لم يكن الهدف مجرَّد مبنى، بل معنوياتُ شعب بأكمله. لكنَّ هذه الصواريخ ليست سوى الستار في مسرحٍ أكبر؛ المسرح الحقيقي يدور داخل عقول ملايين المتابعين الذين تُمطِرهم الخوارزميات بالأخبار العاجلة، وتُعيد صياغة خوفهم وغضبهم كلَّ ثانية. من (أسد النهوض) إلى (الحرب على الوعي) الهجوم الإسرائيلي بدأ باستهداف القدرات النووية والعسكرية، ثم تحوَّل سريعًا إلى مراكز البث، وشبكات الاتصالات، ومخازن الطاقة، في محاولات مدروسة لشلّ الدولة لا الجيش فحسب. قبل أن تُطلَق أول طلقة، كانت البيانات تُجمَع، والمعلومات تُحلَّل، والضربة تُبنى على معلومة لا على مدفع. والمعلومة هنا لم تأتِ من الأقمار الصناعية فقط، بل من داخل إيران نفسها. أحد أخطر المفاجآت في هذه الحرب كان الجاسوس الإيراني الذي سلَّم لإسرائيل إحداثيات مراكز القيادة ومسارات تحركات القادة العسكريين. هذا الجاسوس لم يحمل سلاحًا، لكنه كان أخطر من قاذفة صواريخ؛ لأنه ببساطة كان يملك ما يُسمَّى اليوم: "القنبلة المعلوماتية". عندما تصبح المعلومة هي السلاح في حروب الجيل الرابع، كما صاغها وليام ليند، لم يعد الانتصار مرهونًا بعدد الدبابات، بل بكمّ الشائعات ونوعية الرسائل الموجَّهة. أما الجيل الخامس فقد ذهب أبعد: الحرب الآن تدور في ميدان البيانات. من يعرف أكثر... يربح أكثر. نشر الخوف يبدأ ببوست لا بصاروخ. شلّ القيادة يتمُّ بزرع شكوك لا بزرع ألغام. اغتيال الروح المعنوية قد يحدث بمقطع فيديو مفبرك... قبل أن يسمع الناس صوت الانفجار الحقيقي. هذا تمامًا ما حدث حين بدأت وسائل إعلام عالمية تُسرِّب صورًا وفيديوهات لضربات داخل طهران، قبل أن تعترف الحكومة رسميًا بأيّ شيء. الحرب لا تنتظر الإعلانات الرسمية، بل تُبنى على ما يُقال... لا ما يُفعَل. من أوكرانيا إلى إيران: نسخة مطوَّرة من حرب العقول ما شهدناه في الحرب الأوكرانية كان تمرينًا حيًّا على هذا النوع من الحروب. "ديب فيك" مزوَّر للرئيس الأوكراني يدعو فيه للاستسلام. هجمات سيبرانية تُطفئ الكهرباء عن مدن كاملة في توقيت متزامن مع القصف. حرب معلنة في السماء... وأخرى خفية في الذاكرة والمعلومة والشعور. اليوم، ما يحدث في إيران هو نفس السيناريو لكن بمستوى أعلى: * طائرات بدون طيّار موجَّهة بالمعلومة، لا بالإحداثيات العامة. * منشآت تُستهدَف لأن أحدهم في الداخل أرسل خريطة عبر تطبيق مشفَّر. * قيادة تُربكها الشائعات أكثر من الصواريخ. السلاح الأخطر: الفراغ قصف مبنى التلفزيون الرسمي لم يكن فقط استهدافًا إعلاميًا، بل خلق فراغًا معلوماتيًا ترك المواطنين في مواجهة طوفان من التفسيرات، التحليلات، والتضليل. حين تصمت الدولة، يتكلم الخوف. وهذا هو بيت القصيد في حروب الجيل الخامس. من ينتصر؟ من يعرف أولًا لا جندي يدخل الحرب اليوم دون أن يكون محمَّلًا ب"تطبيقات الحرب". لا قائد يخطط قبل أن يقرأ ما جمعته الطائرات المسيَّرة من بيانات. ولا دولة تبقى واقفة إذا كانت معلوماتها الداخلية مخترقة. فقدان السيطرة على المعلومة، ولو للحظة، قد يُحسَم به مصير معركة... أو سقوط نظام. الختام: حين تصبح الحقيقة هي الضحية الأولى في زمنٍ مضى، كانت الحروب تُخاض في ساحاتٍ معروفة، بين جيوشٍ متقابلة، بزمانٍ يبدأ مع أول طلقة وينتهي عند توقيع الهدنة. أمّا اليوم، فقد انزاحت المعركة إلى فضاءٍ غير مرئي، واختفى العدوُّ خلف الشاشات، وصار ميدان القتال هو وعي البشر وذاكرتهم. التكنولوجيا لم تعد مجرَّد وسيلة، بل باتت القائدَ الخفيَّ لجيوشٍ رقمية تقاتل بلا زيٍّ عسكري. وجواسيسُ العصر الحديث لا يحملون حقائب جلدية ولا كاميرات خفية؛ يكفيهم حفنة دولارات وضمائر مباعة وهاتفٌ ذكيّ، ورسالةٌ مُشفَّرة يودِعون فيها إحداثيّات مركز قيادة، فيسقط الصاروخ قبل أن يسمع أحدٌ طرقات الباب. المعلومة أصبحت الرصاصةَ الأقوى: من يمتلكها أولاً ينتصر أسرع، ومن يُشكِّك خصمه في نفسه يهزمه قبل أن يهزمه في الميدان. هكذا تحوَّلت حرب المعلومات إلى الأصل، وما دونها تفاصيل. بعد أن كانت الحقيقة درع الشعوب، أضحت الضحيةَ الأولى في كلِّ نزاع. هل تُهزَم أمةٌ قبل أن تُطلِق رصاصة؟ نعم... إذا جَهِلت ما يُحاك في داخلها. وما نشهده اليوم بين إسرائيل وإيران يعيد صياغة تعريف الحرب: لم تعد معركةً على الأرض، بل صراعًا على الحقيقة نفسها؛ ومن يُمسك زمام الحقيقة يكتب التاريخ القادم. إذا أردتَ أن تعرف خطَّ دفاعك الأخير، فلا تنظر إلى الحدود... بل إلى شاشتك. فمن لا يُحصِّن عقله سيكون أول ضحايا من يستهدف روحه. واخيراً: احذروا... فالعينُ على مصر. مصر ليست مجرّد وطنٍ نعيش فيه؛ بل قلبُ المنطقة النابض، وموضعُ الحُلم والخوف والرهبة في آنٍ معًا. جميعُ من حولنا يرقبوننا؛ بعضهم يتربّص، وبعضهم يبتسم بخبث، منتظرين لحظةَ ضعفٍ أو شرخٍ في جدار الوعي. الخطر لم يَعُد يرتدي بزّةً عسكرية، ولم يَعُد يأتي محمولًا على جناح طائرة. الخطر بات أقرب إلينا من هواتفنا، يتسلّل في منشور، أو يتخفّى في مقطعٍ قصير، أو يتسلل خلسةً في رسالةٍ عابرة. عدوّك الحقيقي قد لا يُطلق رصاصةً، بل يزرعُ شكًّا... ويتركك تنهار من الداخل. وفي زمنٍ تتغيّر فيه خرائطُ العالم دون أن تُسمَع صفاراتُ الإنذار، تصبحُ كلُّ كلمةٍ مسؤوليّة، وكلُّ مشاركةٍ موقفًا، وكلُّ لحظةِ وعيٍ فرصةً للنجاة. كونوا على وعي... فإنّ الحربَ من حولنا صامتة، لكنّ صداها يهزُّ أوطانًا. لا تستهينوا بتأثير الفوضى، ولا تظنوا أن مصر بعيدة عن مرمى النيران. فكّروا قبل أن تنشروا، تحققوا قبل أن تُصدّقوا، وكونوا درعًا من الوعي لوطنٍ لا يُعوّض.