في صورةٍ رمزية داخل قاعة دراسة عسكرية، تُعرض عبارة «المبادئ العامة للعمليات الهجومية الإسرائيلية» على شاشةٍ أمام ضباطٍ ومتدربين؛ تصبح الحلقة بين التاريخ والاستعداد العملي واضحة. هذه اللقطة ليست عرضاً أكاديمياً فحسب، بل مؤشر على فهم استراتيجي مبني على دروس التاريخ وقراءة للقدرات والقيود الإقليمية. المقال التالي يقدّم قراءة تحليلية تجمع بين المصطلح العسكري، التحليل التاريخي والجيوسياسي، وتقييم لآليات الردع التي تتبنّاها القاهرة اليوم. دروس تاريخية أُعيدت قراءتها الحرب التي فتحت مرحلة جديدة في الشرق الأوسط كانت حرب يونيو 1967، التي انطلقت بهجوم جوي إسرائيلي مباغت وأنتجت تغيّرًا جذريًا في معادلة العمق الاستراتيجي للدول العربية. هذه التجربة فرضت واقعاً جديداً يتمحور حول أهمية السيطرة على السماء والقدرة على المناورة السريعة في الميدان. وبعد ذلك، جاءت حرب أكتوبر 1973 لتؤكّد أنّ استعادة المبادرة الميدانية ممكنة عبر تنسيق بري–بحري–جوي محكم وإدارة مستوى عالٍ من التخطيط والتجمعات اللوجستية. إسرائيل.. دولة بلا عمق استراتيجي منذ حرب يونيو 1967 أدركت إسرائيل أن ضعف عمقها الاستراتيجي يشكل خطراً وجودياً، لذلك تبنت عقيدة تقوم على المبادرة بالهجوم ونقل المعركة خارج حدودها. السيطرة على السماء تحولت إلى مركز الثقل (Center of Gravity) في استراتيجيتها، باعتبار أن فقدان التفوق الجوي يعني عملياً استحالة الدخول في حرب تقليدية طويلة. ولهذا لم تتوقف تل أبيب عن الاستثمار في القوات الجوية والاستخباراتية، إلى جانب توظيف الحرب النفسية والإعلامية لتضخيم صورتها كقوة لا تُقهر. لكن التجارب الميدانية كشفت محدودية هذا الخطاب. فقد عجزت إسرائيل عن تحقيق حسم أمام المقاومة اللبنانية في 2006، ولم تستطع فرض معادلة الردع على إيران أو الحوثيين، وحتى حربها المفتوحة على غزة كشفت حدود قوتها في مواجهة حرب استنزاف طويلة. الحرب النفسية كانت ولا تزال سلاحها الأول، لكنها لا تكفي لفرض معادلة الاستقرار. السلوك الإسرائيلي: الاعتماد على السيطرة الجوية كمركز ثقل العقيدة العملياتية الإسرائيلية تميل إلى تحويل تفوقها الجوي إلى أداة لفرض سيناريوهات قادرة على حسم المعارك بسرعة أو فرض تكاليف عالية على الطرف الآخر. السيطرة الجوية (air superiority / air supremacy) تُستخدم لتأمين الإخلاء، التعزيز، والضربات الدقيقة في العمق، وهي عنصر محوري في أي استراتيجية هجومية إقليمية. هذا التوجّه يجعل من السيطرة على المجال الجوي هدفاً مركزياً لدى أي دولة تواجه تهديداً إسرائيليا. ردّ مصر: تحديث متدرِّج متعدد الأبعاد رد القاهرة لم يكن مجرد تراكم ذخائر أو منصات سلاح؛ بل كان برنامج تحديث يستهدف تأسيس منظومة ردع متعددة الأبعاد تشمل تحديث القوات الجوية، تعزيز منظومات الإنذار المبكر والاستطلاع، تطوير دفاعات جوية متداخلة، وتقوية شبكات القيادة والسيطرة والتشويش الإلكتروني. منذ منتصف العقد الماضي تحوّل ميزان الشراء والتعاقد العسكري نحو تنويع المصادر والأسلحة المتقدّمة، كجزء من استراتيجية بناء قدرة قادرة على تأمين حدود النطاق الحيوي وحماية رأس المال الاستراتيجي مثل قناة السويس والمنشآت الحيوية. الأوكتاجون المصري: قلب القيادة والسيطرة في هذا السياق يبرز "الأوكتاجون" كأحد أهم الإنجازات العسكرية والتنظيمية في العقود الأخيرة. المبنى، بتصميمه الهندسي الفريد، ليس رمزاً معمارياً فحسب، بل مركزاً متكاملاً للقيادة والسيطرة والاتصالات الاستراتيجية. فهو يوفّر منصة متقدمة لأنظمة C4ISR (Command, Control, Communications, Computers, Intelligence, Surveillance, Reconnaissance)، في بنية معمارية واحدة شبكات الدفاع الوطني، والاتصالات الاستراتيجية، ومراكز إدارة العمليات. أهميته تتجاوز الرمزية العمرانية ليصبح قلب منظومة الردع المصرية، فهو يوفّر قدرة على إدارة الأزمات والحروب في آن واحد، عبر أنظمة C4ISR متكاملة (القيادة، السيطرة، الاتصالات، الحوسبة، الاستطلاع). بما يختصر زمن اتخاذ القرار ويعزز التنسيق المشترك بين مختلف الأفرع. الأوكتاجون يُمثل ببساطة عقل الدولة الدفاعي، وأداة تمكين تجعل مصر قادرة على إدارة أزمات إقليمية وحروب نظامية في الوقت ذاته. سيناء والبعد الإقليمي: مثال للتشابك الأمني والسياسي السيناء تمثّل محوراً استراتيجياً يربط بين الأبعاد العسكرية والسياسية والإنسانية. سنوات الصراع مع المنظمات الإرهابية فرضت على الجيش المصري مزيجاً من مهام الأمن الداخلي والدفاع التقليدي، وهو ما أعاد تشكيل قدراته المنظمة. القوى الخارجية كانت تراهن على إنهاك الجيش المصري وحصره في مهام مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود، لكن القاهرة رفضت هذه المعادلة، وحافظت على مسار موازٍ لإعادة بناء القوات المسلحة، بحيث تظل قادرة على خوض معركة شاملة إذا فُرضت عليها. حيث كان لا بدّ من توظيف الموارد في مكافحة التهديدات غير النظامية مع الحفاظ على قدرة القتال في مواجهة دولة ذات إمكانيات تقليدية. هذا التوازن بين مكافحة الإرهاب وإعداد القوات لمواجهة تقليدية يعكس اختياراً استراتيجيًا ذا تأثير إقليمي. عناصر الردع الفعّال: تقنية واستراتيجية ومجتمعية الردع الحقيقي اليوم ليس منظومة سلاح واحدة، بل مزيج من عناصر: منظومات دفاع جوي متداخلة (Layered air defense)، قدرات ISR (استطلاع ومراقبة وإنذار مبكر)، شبكات قيادة وسيطرة مرنة ومحمية، واستراتيجية رد متدرِّج تشمل العقوبات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. إضافة لذلك، يلعب العامل المجتمعي — وعي الجمهور وتماسكه ورابطة الجيش بالمجتمع — دوراً محورياً في صمود الدولة وقدرتها على إدارة أزمات طويلة أو قصيرة المدى. الوعي الجمعي كسلاح ردع إلى جانب السلاح، يمثل الوعي الجمعي المصري الدرع المعنوي الأقوى للدولة. هذا الوعي، المتراكم منذ ثورة يوليو 1952 مروراً بتأميم القناة والعدوان الثلاثي 1956، ثم النكسة 1967 مروراً بانتصار أكتوبر 1973 وصولاً إلى ثورة 30 يونيو 2013، وسنوات مواجهة الإرهاب، يحول دون نجاح الحرب النفسية في اختراق المجتمع. فالجيش المصري لم يعد مجرد مؤسسة عسكرية، بل رمزاً وطنياً يرى فيه الشعب ضمانة للبقاء والاستقلال. هذه المعادلة الاجتماعية–العسكرية تعني أن أي محاولة لزعزعة الجبهة الداخلية محكوم عليها بالفشل. تداعيات جيوسياسية ومستقبل التوازن المشهد الإقليمي يتأثر بعوامل متغيرة: توازنات التحالفات الدولية، سوق السلاح، وتقلبات السياسة الأميركية والإقليمية. لذلك فإنّ بناء قدرة ردع مصريّة متوازنة يحقق هدفين متلازمين: منع اندلاع صراع مفتوح يُكبد البلاد خسائر استراتيجية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على قدرة الدولة على حماية سيادتها ومصالحها الإقليمية. السياسة المصرية هنا تبدو مركّزة على مزج القوة العسكرية بالمواءمة الدبلوماسية والإدارة السياسية للأزمات، ما يتيح لها فضاءً أكبر للحلول السلمية والتفاوضية مع الاحتفاظ بخيارات ردع قابلة للتطبيق.
حماية السيادة كقيمة وممارسة في ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ قراءة الجيش المصري لبيئة التهديدات تستند إلى تاريخ تقوده دروس وممارسات عملية تُترجم إلى سياسات تسليحية وتدريبية مناسبة. من ثوابت العقيدة المصرية رفض أي وصاية خارجية أو استضافة قواعد أجنبية. القاهرة ترى أن وجود قوات أجنبية على أراضيها يقوض استقلال القرار ويكسر معادلة الردع، لذلك حافظت مصر دوماً على استقلالية بنيتها الدفاعية، معتمدة على قدراتها الذاتية وتحالفاتها الإقليمية المرنة دون أن تسمح بتقييد إرادتها، هذا المبدأ لم يكن تكتيكاً عابراً، بل قاعدة تاريخية صاغت علاقة مصر بالقوى الكبرى، وجعلتها تحافظ على مجالها السيادي بعيداً عن أي تبعية أو فرض شروط. كما إنّ المحافظة على توازن بين التنمية الوطنية وبناء القدرة الدفاعية، فضلاً عن ترسيخ الوعي المجتمعي، سيظلّ الضمانة الأفضل لاستقلال القرار وحماية الأرض. الردع هنا ليس تهديداً بلا نهاية، بل قدرة منظَّمة ومدروسة تمنع الحرب قبل أن تبدأ، وتجهز الدولة لضمان انتصارها إن دخلت المعركة.
رفض التهجير ودعم الدول الوطنية الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين لا ينفصل عن رؤيتها الاستراتيجية الأشمل. فالقاهرة تدرك أن تفريغ الأراضي من سكانها وتفكيك الجيوش النظامية يؤدي إلى انهيار الدول وصعود الميليشيات، وهو ما يفتح الباب لمشاريع تقسيم وفوضى تمتد عبر المنطقة. لهذا دعمت مصر باستمرار فكرة بناء الجيوش الوطنية — في ليبيا والسودان والعراق — باعتبارها الضمانة الوحيدة للاستقرار. رفض التهجير إذن ليس مجرد تضامن سياسي أو إنساني، بل دفاع عن معادلة الأمن الإقليمي ومنع تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير القسري. ختاماً، العقيدة المصرية تقوم اليوم على معادلة مركبة: قوة عسكرية متعددة الأبعاد، قيادة استراتيجية متطورة، ووعي مجتمعي صامد. يضاف إلى ذلك رفض قاطع لأي إملاءات خارجية، وتشبث ثابت بدعم الدول الوطنية ضد سيناريوهات التفكيك. هذه المنظومة تجعل من مصر فاعلاً مركزياً في معادلة الردع الإقليمي، قادراً على منع الحرب إن أمكن، وخوضها بكفاءة إذا فُرضت.