منافس الأهلي.. بورتو يسابق الزمن لضم فيجا قبل انطلاق مونديال الأندية    7 لاعبين مهددون بالرحيل عن ريال مدريد    أحمد الفيشاوي يثير الجدل مجددًا بظهوره ب«حلق» في أحدث إطلالة على إنستجرام    من مدريد إلى نيويورك..فى انتظار ولادة صعبة لحل الدولتين    باريس سان جيرمان ينهي عقدة تاريخية لأندية فرنسا أوروبيًا    بعد رحيله عن الأهلي.. هل طلب سامي قمصان ضم ميشيل يانكون لجهاز نادي زد؟    لاعبان سابقان.. الزمالك يفاضل بين ثلاثي الدوري لضم أحدهم (تفاصيل)    معاكسة فتاة ببنها تنتهى بجثة ومصاب والأمن يسيطر ويضبط المتهمين    متحدث الصحة: نضع خطة طوارئ متكاملة خلال إجازة العيد.. جاهزية كل المستشفيات    ديستربتيك: استثمرنا 65% من محفظتنا فى شركات ناشئة.. ونستعد لإطلاق صندوق جديد خلال عامين    مطالب برلمانية للحكومة بسرعة تقديم تعديل تشريعى على قانون مخالفات البناء    البلشي يرفض حبس الصحفيين في قضايا النشر: حماية التعبير لا تعني الإفلات من المحاسبة    القومي لحقوق الإنسان يكرم مسلسل ظلم المصطبة    الحبس والغرامة للمتهمين باقتطاع فيديوهات للإعلامية ريهام سعيد وإعادة نشرها    «سيبتك» أولى مفاجآت ألبوم حسام حبيب لصيف 2025    مدير فرع هيئة الرعاية الصحية بالإسماعيلية يستقبل وفدا من الصحة العالمية    رئيس النحالين العرب: 3 جهات رقابية تشرف على إنتاج عسل النحل المصري    وزير الصحة: تجاوزنا أزمة نقص الدواء باحتياطي 3 أشهر.. وحجم التوسع بالمستشفيات مش موجود في العالم    بحثًا عن الزمن المفقود فى غزة    مصطفى كامل وأنوشكا ونادية مصطفى وتامر عبد المنعم فى عزاء والد رئيس الأوبرا    20 صورة.. مستشار الرئيس السيسي يتفقد دير مارمينا في الإسكندرية    موعد أذان مغرب السبت 4 من ذي الحجة 2025.. وبعض الآداب عشر ذي الحجة    بعد نجاح مسابقته السنويَّة للقرآن الكريم| الأزهر يطلق «مسابقة السنَّة النبويَّة»    ماذا على الحاج إذا فعل محظورًا من محظورات الإحرام؟.. الدكتور يسري جبر يجيب    الهمص يتهم الجيش الإسرائيلي باستهداف المستشفيات بشكل ممنهج في قطاع غزة    الإخوان في فرنسا.. كيف تُؤسِّس الجماعة حياةً يوميةً إسلاميةً؟.. خطة لصبغ حياة المسلم فى مجالات بعيدة عن الشق الدينى    المجلس القومي لحقوق الإنسان يكرم أبطال مسلسل ظلم المصطبة    وزارة الزراعة تنفي ما تردد عن بيع المبنى القديم لمستثمر خليجي    برونو يحير جماهير مانشستر يونايتد برسالة غامضة    القاهرة الإخبارية: القوات الروسية تمكنت من تحقيق اختراقات في المواقع الدفاعية الأوكرانية    "أوبك+": 8 أعضاء سيرفعون إنتاج النفط في يوليو ب411 ألف برميل يوميا    قواعد تنسيق العام الجديد.. اعرف تفاصيل اختبارات القدرات    ما حكم بيع جزء من الأضحية؟    محافظ القليوبية يوجه بسرعة الانتهاء من رصف وتطوير محور مصرف الحصة    ب حملة توقيعات.. «الصحفيين»: 5 توصيات ل تعديل المادة 12 من «تنظيم الصحافة والإعلام» (تفاصيل)    استعدادًا لعيد الأضحى| تفتيش نقاط الذبيح ومحال الجزارة بالإسماعيلية    محافظ أسيوط ووزير الموارد المائية والري يتفقدان قناطر أسيوط الجديدة ومحطتها الكهرومائية    تكشف خطورتها.. «الصحة العالمية» تدعو الحكومات إلى حظر جميع نكهات منتجات التبغ    وزير الخارجية يبحث مع عضو لجنة الخدمات العسكرية ب"الشيوخ الأمريكي" سبل دعم الشراكة الاستراتيجية    مصادرة 37 مكبر صوت من التكاتك المخالفة بحملة بشوارع السنبلاوين في الدقهلية    حظك اليوم السبت 31 مايو 2025 وتوقعات الأبراج    لماذا سيرتدي إنتر القميص الثالث في نهائي دوري أبطال أوروبا؟    تفاصيل ما حدث في أول أيام امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنوفية    "حياة كريمة" تبدأ تنفيذ المسح الميداني في المناطق المتضررة بالإسكندرية    بدر عبد العاطى وزير الخارجية ل"صوت الأمة": مصر تعكف مصر على بذل جهود حثيثة بالشراكة مع قطر أمريكا لوقف الحرب في غزة    وزير التربية والتعليم يبحث مع منظمة "يونيسف" وضع خطط لتدريب المعلمين على المناهج المطورة وطرق التدريس    استخراج حجر بطارية ألعاب من مريء طفل ابتلعه أثناء اللعب.. صور    أفضل الأدعية المستجابة عند العواصف والرعد والأمطار    رئيس الإنجيلية يستهل جولته الرعوية بالمنيا بتنصيب القس ريموند سمعان    ماذا قالت وكالة الطاقة الذرية في تقريرها عن أنشطة إيران؟    مصدر كردي: وفد من الإدارة الذاتية الكردية يتجه لدمشق لبحث تطبيق اتفاق وقّعته الإدارة الذاتية مع الحكومة السورية قبل نحو 3 أشهر    "نفرح بأولادك"..إلهام شاهين توجه رسالة ل أمينة خليل بعد حفل زفافها (صور)    قبل وقفة عرفة.. «اليوم السابع» يرصد تجهيزات مشعر عرفات "فيديو"    عمرو الدجوى يقدم بلاغا للنائب العام يتهم بنات عمته بالاستيلاء على أموال الأسرة    عيد الأضحى 2025.. محافظ الغربية يؤكد توافر السلع واستعداد المستشفيات لاستقبال العيد    سحب 700 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    لمكافحة التلاعب بأسعار الخبز.. ضبط 4 طن دقيق مدعم بالمحافظات    سويلم: الأهلي تسلم الدرع في الملعب وحسم اللقب انتهى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الدولة والميليشيا شمالا وجنوبا.. فتنة القرن الأفريقى ومُداواة الصومال فى القاهرة
نشر في اليوم السابع يوم 23 - 01 - 2024

فروقٌ جوهريّة عدّة بين الدولة والميليشيا؛ أهمها الانضباط بالقانون والاستثمار فى الاستقرار. فى الأُولى تتحكَّم الجغرافيا والمواثيق الدولية والعلاقة بالآخر على شرط الندّية والتكافؤ، وفى الثانية ينفلتُ السلاحُ وتشيع المُغامرة، وقد تصير دولةً فى ظرفٍ سائل؛ وإن ظلَّت مارقةً وخارج الشرعية، أمَّا الدولُ فلا تصير عصابات، ولو تعشَّمت فى مغانم الفوضى؛ فإنها تُقوِّض أُسسَها قبل أن تمسّ أساسات مَن تُعاديهم، وتزرع بذرةً قد لا يتيسَّر حصادها إلّا نارًا ودمًا. والعالم المُؤطَّر بالمرجعيّات والأعراف يكره المارقين، أو هكذا يُفترَض؛ لكنه يحبُّ الازدواجية أحيانًا. هكذا يصمت على سلوكٍ «مافياوى» من إسرائيل فى غزّة، ويقف على أطراف أصابعه ضد حزب الله فى لبنان. وبالمثل؛ يستصدر قرارًا أُمميًّا مُعجَّلاً ويشنّ غاراتٍ حارقةً على حوثيّى اليمن؛ لكنه يلتزم الصمت إزاء تعدٍّ إثيوبى على الصومال.

بادرت مصرُ منذ أوَّل لحظة باتّخاذ موقفٍ صارم؛ انطلاقًا من التزامها فى الدائرتين العربية والأفريقية، واتساقا مع خطابها القيمى الراسخ تجاه «الدولة الوطنية» وتماسُكها، والرفض الصارم لكلِّ ما يمسُّ سيادتها أو يُهدِّد دعائم أمنها. وليس من التفاخُر واصطياد النقاط؛ إن قُلنا بصراحةٍ خالصة إنّ موقف القاهرة من اتفاق أديس أبابا المشبوه مع إقليم «أرض الصومال» كان الأكثر جدّيةً ونزاهة، ولم يُمسك العصا من خاصرتها أو يُناور تحت سقف الدبلوماسية الرمادية. أدانت الدولةُ الورقةَ العدوانية، وأرسلت وفدًا رفيع المستوى إلى مقديشو، واستقبلت مبعوثين صوماليِّين يتقدّمهم رئيسُ الوزراء، ودعمت طلب انعقاد جلسةٍ عاجلة للجامعة العربية، وأخيرًا وجّه السيسى دعوة لنظيره حسن شيخ محمود، وكانت الزيارة التى امتدت ثلاثةَ أيّام، وشهدت رسائل شديدة القوّة والدلالة والإيجاز، لا تخرجُ عن ثوابت الرؤية المصرية، ولا تُغلق الباب أمام منافذ التعقُّل الأفريقى، وتُعلِّق جرسَ الخطيئة فى رقبة الطرف المُغرم بالرهانات الجارحة.

لإقليم «صومالى لاند» وضعيةٌ خاصة؛ إذ أعلن من جانبٍ واحد ولم تعترف به دولةٌ واحدة، ولأنَّ البلد الذى كان اسمه جمهورية الصومال الديمقراطية قد صار فيدراليًّا؛ فإن صيغتَه تسمحُ لشطره المُتمرِّد بأن يُنتج صيغةً للإدارة الذاتية، دون أن يعنى ذلك أنه قُطِع من الجسد الأم، أو اكتسب صفةً اعتباريّة خاصةً يُخاطبه الآخرون بها ويُخاطبهم. وخلاصةُ الاتفاق الشائن، أن إثيوبيا قفزت حدودَ جارتها المُسالمة، وأبرمت صفقةً مُزعجةً تقضى بأن تحوزَ عشرين كيلو مترًا من سواحل المقاطعة الشمالية لأغراضٍ تجارية وعسكرية، مقابلَ حصّةٍ صغيرة من خطوطها الجوية الرسمية، ووعدٍ مُرجَأ بالاعتراف بالانفصال. والمُلاحظات هنا أكبر من مسألة خَرق السيادة، أو تأليب الجيران على بعضهم وتفجير المجتمعات من داخلها؛ فالأخطرُ أنها تُشير لمنهجٍ مُعتلّ فى العلاقات الدولية، وتُبرهن بوضوحٍ على انحرافٍ إثيوبىّ لم يعدم تجلِّياته فى ملفَّاتٍ أُخرى، إلى حدِّ أنه يُمكن أن ينزعها من مصاف البلدان العاقلة، لينقلها إلى كتاب الميليشيا والأنظمة الخارجة على القانون.

فى المؤتمر الصحفى مع ضيفه، قال الرئيس السيسى إن موقفَ القاهرة مُعلَن وصارم، ويرفضُ الاتفاق والعبث فى شؤون الصومال أو المساس بوحدة أراضيه، مُحذِّرًا من تهديد الأشقاء أو اختبار مصر فى ذلك، خصوصًا لو طُلِب منها الدعم أو التدخُّل، وأن التعاون على ركائز توافقيّة عادلةٍ هو الطريق الوحيدة لضمان مصالح الجميع. وكان أهم ما لفت إليه، أن الدولةَ العربية الكبيرة فى القرن الأفريقى لها حقُّ الإسناد بموجب اتفاقية الدفاع المشترك، والقَصد ليس التهديد أو التلويح بالقوّة؛ بقدر تأكيد أن الوضع الصومالى الهشّ، وقد فرضته تداعيات الارتباك ما بعد سقوط نظام سياد برّى فى التسعينيات، لا يعنى أنها عاريةٌ فى مَهبّ العاصفة، أو أن حدودها سهلةٌ ومصالحَها مُستباحة. وبدوره قال «شيخ محمود» إنهم ينظرون لمصر من زاوية الشريك التاريخى، ويسعون لتعاونٍ واسع فى المجالات كافّة، سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.

تضعُ إثيوبيا يدَها على ثُلث مساحة الصومال تقريبًا؛ إذ تحتل إقليم «أوجادين» لقُرابة خمسة عقود. وما يحدث منها شمالاً يُمكن أن يتكرَّر فى نطاقين آخرين: جالمودوج، وأرض بنط. وهما إقليمان تحت الحُكم الذاتى، حاولا الاستقلال من طرفٍ واحد أيضًا، وبينهما نزاعٌ حدودىّ يتجدَّد كلَّ فترةٍ باشتباكاتٍ دامية. أمَّا الحكومة المركزية فتخوض حربًا مريرةً مع بقايا مجموعات «حركة الشباب» الإرهابية فى الجنوب، ولا يخلو المشهدُ من تدخُّلاتٍ بريئة أو مُغرضة لبعض الدول، ومنهم أصدقاء، تحت ستار الاستثمار أو الشراكة الاقتصادية. وخطوةُ الاتفاق الأخير لا تصبُّ الزيتَ على نار الانقسام فى «صومالى لاند» فقط؛ إنما تُشجِّع ذوى النزوات والطامعين، كما تنقلُ الصراع من مسألة تحرير القديم، إلى احتلال ناعمٍ للجديد، ومَوطئ قدمٍ لإحدى الدول مُدمنة الهروب من أزماتها بتصديرها للخارج، أو بتركيب قنابل جيوسياسية وإلقائها فى وجوه المحيطين، بدلاً من الاشتغال على التكامل المُثمر والتنمية الحقيقية الجادة.

السجنُ الذى يُحاول الإثيوبيّون مُغادرتَه ليس طارئًا؛ فقد صاروا بلدًا حبيسًا منذ استقلال إريتريا قبل ثلاثة عقود، وكان «أرض الصومال» قد أعلن كيانَه المزعوم قبلها بعامين. خاضت أديس أبابا معاركَ طاحنًة مع أسمرة، ثمَّ أقرَّت بالواقع، وعوَّضت موانيها القديمة باتّفاقٍ مع جيبوتى شمالاً، وتفاهُماتٍ للاستفادة من مرفأ لامو الكينى جنوبًا. أمَّا مسألةُ الانقسام فلم يُغادرها الصومال يومًا؛ بل كانت أوضاعُه أشدَّ سوءًا وفوضى فى التسعينيات وأوائل الألفية، ولا معنى للتحرُّك ناحية صفقة الهيمنة على ميناء «بربرة» ونطاقٍ عريض بجواره؛ إلَّا أن حكومة «آبى أحمد» تستغلُّ ظرفًا عارضًا كعادتها. والمُتغيّر الوحيد حاليًا أن مصر والعرب مُنشغلون بنزاع السودان وقد أوشك أن يؤولَ لحربٍ أهلية، ثمّ بالعدوان على «غزّة» إذ يُربك جغرافيا الشرق بكاملها، وأخيرًا توتُّرات البحر الأحمر وخليج عدن، على إيقاع النشاط الحوثى وهياج أذرع المحور الشيعى من شطّ العرب إلى شطوط أفريقيا.

النزاعاتُ الهادرةُ قوَّضت الصومال وأقعدته عن الحركة، والنظامُ المارق فى جواره الغربى يطمعُ أن يُقطِّع من لحمِه الضامر. البلدُ الذى يطفو على طبوغرافيا شديدة التنوُّع وغنيّة الموارد، ما تجاوز ناتجُه 7 مليارات دولار تتوزَّع على سبعة عشر مليونًا فى 637 ألف كيلو متر، بأقلّ من 500 دولار للفرد سنويًّا. نسبةُ الفقر تُلامس 73 % وترتيبه 165 فى مُؤشِّر التنمية بحسب أعوامٍ سابقة، وخُمسَا اقتصاده فى الزراعة والثروة الحيوانية مع 8 ملايين هكتار أرضًا خصبةً أغلبها غير مُستغَلّ، ومئاتُ الآلاف مُشرَّدون بالخارج و3 ملايين بالداخل، وتقولُ تقاريرُ أُمميّة إن نحو 5 ملايين يحتاجون إعانات غذائية. ولا تتجاوز مداخيلُ الصيد 2 % من الناتج رغم امتلاكه أطول شواطئ أفريقية بأكثر من 3 آلاف كيلو. وفى القلب من كلِّ تلك المزايا والتحدّيات، فإنه مُطالَبٌ بتأمين 2340 كيلومترًا من الحدود البرّية، ثُلثاها مع إثيوبيا. أى أنه بينما يُناضل لتذويب رواسب الحرب الأهلية، وكَبح غُول الإرهاب، يُطوِّق الخطرُ عُنقَه بأطماعٍ لصيقة، وكلُّ ما فى سيرة الجار يرفعُ منسوبَ القلق ويُوجِب الحيطةَ والحذر.

إثيوبيا بلدٌ فقير، يسبح فى نهرٍ من العنف والدم. نحو 120 مليونًا يسكنون 1.1 مليون كيلو وينتجون بأقل من 100 مليار دولار، وعشراتُ الأعراق والقبائل تتناحر فيما بينها ومع السُّلطة المركزية. وبدلَ أن تتفرَّغ الحكومةُ للمُصالحة وترميم البيت، وإزالة رُكام الفوضى والمعارك الدامية؛ لتعود الأرضُ صالحةً للبناء والحياة، فإنها تُركِّز جهدَها على إنتاج الفِتَن وتصديرها، أو تتلقّف المُتأجِّج حولَها وتنفخ فى ناره. لا فارقَ بين زيناوى وديسالين سابقًا أو آبى أحمد حاليًا. كانت يدها فى إريتريا لوقتٍ قريب، وفى جيبوتى قبلها، وما زالت فى السودان بمُؤازرة ميليشيا الدعم السريع، وتخوضُ جولةً من البلطجة وانتهاك القانون مع القاهرة والخرطوم فى مجرى النيل، وها هى تسعى للخروج بحرائقها إلى خليج عدن، واستكمال حزام النار مع الحوثيِّين على مقربةٍ من باب المندب وحركة التجارة الدولية.

سوابقُ الحبشة تُغنى عن كلِّ قَول، وتفرضُ أن يتصدَّى العالمُ بمرافقه القارّية والأُمميَّة لنزوات الهُواة وأطماع الفاشلين. لكنَّ المُفارقة أنْ حدثَ العكس؛ فالقاهرةُ بادرت بالإدانة، تبعتها الجامعة العربية، ثمّ دول قليلة بينها الولايات المُتحدة وتركيا، بينما تلطَّى آخرون خلف عباراتٍ مُحايدة، وكان موقف الاتحاد الأفريقى شديدَ الرخاوة والمُهادنة، ربما لأنه يتَّخذ من أديس أبابا مقرًّا؛ فتُمارسُ سطوتَها على مُوظّفيه أو ترهبهم، ولم يتجاوز مجلس السلم والأمن التابع له مستوى الإعراب عن القلق والدعوة لاحترام المواثيق. اللغةُ الباهتة تُشجِّع «أحمد» على مُواصلة المراوغة والألاعيب، واختبر الجميعُ ذلك طوال سنوات من مُفاوضات سدّ النهضة. إنَّ بلدًا بعقل ميليشيا يُفسِّر اللينَ ضعفًا، ولا يفهم إلَّا الرسائل الساخنة شريطةَ أن تُطلّ القوَّة من عباراتها. وبعيدًا عن فكرة المُؤامرة وقد يراها البعض مُستهلَكة؛ فإنّ الصمت على تجاوزاتٍ تَرقَى لمرتبة الجرائم ممَّا يستوجبُ النظر؛ إنْ فى تهديد الجيران والتربُّح من أزماتهم، أو فى المذابح العرقية والتطهير بالنار والحصار والتجويع فى الداخل، مع «تيجراى» وغيرهم. ورئيسُ الحكومة الذى جاء محمولاً على كفِّ واشنطن، ومُنِحَ «نوبل للسلام» رغم كلّ ما فجَّره من فوضى ودم، ربما ينوبُ عن آخرين فى أهدافٍ مُخطَّطة للقارّة والقرن الأفريقى، وشمالاً حتى مصر، أو على الأقل تُوافِق مُغامراتُه الطائشةُ هوىً فى نفوسهم، وغرضًا يُضمرونه للمنطقة.

يحدثُ ذلك فى منطقةٍ هشَّة، وحزامٍ تُعبّئه الصراعات المُنذرة بالانفجار بين وقتٍ وآخر. الصومال استعاد شيئًا من أمنه وضبَطَ الانفلات، ومن آثاره أن تراجعت وتيرةُ القرصنة فى مياه المُحيط حتى اختفت. لكنّ السودان ساخن، وكُرةُ اللهب غير بعيدةٍ عن دُوَل مُجاورةٍ تُغلق البابَ بشِقّ الأنفُس على امتحاناتٍ عسيرةٍ وتناقُضاتٍ قاسية. إثيوبيا إذ تُبدِى مَيلاً للانتهازية واستغلال الظروف، تُشِيع مناخًا من الريبة والقلاقل بامتداد الشرق الأفريقى، وتتطلَّع لمُضاعفة فوضاه بالوصول إلى الماء المالح. وأهميةُ التداخُل المصرى العاجل والجاد، أنه يُوصِل رسالةً ضروريةً بأنَّ للمُغامراتِ تكاليف باهظة، ولا يُمكن النفاذ للمصالح من طُرقٍ عدوانية وغير مشروعة. وأن بعض الملفّات قد تحتملُ الدبلوماسية وماراثونات التفاوض الشاقة؛ لكنَّ غيرَها قد تُرسَمُ حدوده بخطوطٍ حُمرٍ ووسائل أكثر حسمًا وشِدّة. ولعلَّ زيارة الرئيس شيخ محمود تُفضى لمسارٍ من التعاون يُلجِم الأطماعَ فى ساحله الطويل، ويُعيد ترتيبَ كثيرٍ من الأوراق المُبعثَرة فى «قرن أفريقيا» الواهن.

المُؤكَّد أن مُراهقَ أديس أبابا ما سَار لاتّفاقه المشبوه؛ إلَّا ظنًّا بأن مصر مُنكفئةٌ على تحدِّيات الجوار القريب، وبين سخونة ليبيا والسودان، ومقتلة غزّة بارتداداتها من لبنان إلى اليمن، وهياج الوحش الصهيونى طَمعًا فى تفريغ فلسطين وتصفية قضيِّتها، ومُناوشات شرق المُتوسِّط ولم يكتمل تصفيرها بعد؛ فقد يتعذَّر على القاهرة أن تلتفت جنوبًا، أو تُعيرَ سمعَها للصومال فى نكبته. هكذا ظنَّ مُشعِلُ الحرائق عند منابع النيل؛ لكنه فُوجئ غالبًا بصرامة الردّ. والمهم فيه تأكيدُ أنَّ الأمنَ القومى لمصر دائرةٌ واحدة، والعينَ ثابتةٌ على مُحيطها الكامل، فلا نقطة تعلو فوق أخرى، ومن حيث كونها البلدَ الأكبر والأعقل والأكثر نزاهة وبأسًا فى مُحيطها؛ فإنها تضعُ مصالح الآخرين وحقوقَهم العادلةَ على قَدم المُساواة مع مصالحها، وتُعلِن مواقفَها بعدما تكونُ جاهزةً لإنفاذها، ولا يهتزُّ ثباتُها أو تتشظَّى قُواها مهما تعدَّدت الجبهات وتكالَب الخصومُ من كلّ جانب.

قال السيسى، فى مُؤتمر الرئيس الصومالى، إنّ فاتورةَ الفوضى كلَّفت البلد الشقيق كثيرًا من أمنه وموارده وفُرصَ أن يصير لحالٍ أفضل. والرسالةُ أن بقاءَ الدولة الوطنية ضمانةٌ واجبة لأنْ تظلَّ دولةً أوَّلاً، وأن تكون وطنًا آمنا لأبنائها، ولمَن يلوذون بحِماها. وقد عاينتْ مصرُ خطرًا وُجوديًّا مَاسًّا بسلامتها قبل أكثر من عقدٍ، وتكلَّفت فيه تجاوُزًا إثيوبيًّا تَقافزَ على أكتاف الفوضى ليُطلقَ مشروعًا غايتُه أن يكتُمَ فورةَ النيل التى لم تنقطع مُنذ فجر التاريخ. وما شجَّع الذين اختصموها فى الماضى، هو ما يُشجِّعهم فى الصومال والسودان، وسيُثيرُ لُعابَهم فى أيّة بيئةٍ تمسُّها الفتنةُ أو تنال منها الصراعات.. فى الغالبِ لن تُثمِرَ نِيَّة إثيوبيا السوداء على شُرفة البحر الأحمر، وسيكونُ لمصر الفضلُ فى إحباط المُؤامرة كما أفشلت مُخطَّط تهجير الفلسطينيِّين من أرضهم؛ لكنَّ ما تفعله إسرائيلُ شمالاً وما تُشعله أديس أبابا جنوبًا؛ يُزرعان الشكَّ فى مناعة النظام الدولى القائم، وصفاء نواياه، ويُذيبان الحدودَ التى كانت صارمةً بين الدُّوَل والميليشيات، ولن أقول إنهما يكشفان عن لُعبةٍ مُغرضةٍ تستهدف مصر؛ إذ ما زال بعضُ السُذّج والأفَّاقين يُركِّزون على مُنافسات الداخل بأكثر ممَّا يهتمون بعداوات الخارج، وبعيدًا منهم ومن الصهاينة والإثيوبيين؛ فإن الصراعات تُحسَمُ بالمواقف الجادّة لا الشعارات، والثابتُ أننا حسمنا واحدًا فى الشرق القريب، وستكشف الأيامُ نجاعةَ ما رفعناه بوجهِ الآخر الفظّ فى الجنوب البعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.