المشاط: تنفيذ 18 تجمعا تنمويا متكاملا لخدمة أهالينا في سيناء وتعظيم ثرواتها    وزير الطيران يعقد لقاءات ثنائية لتعزيز التعاون الدولي على هامش مؤتمر ICAN 2025 بالدومينيكان    كندا: سنواصل الدعوة إلى تدفق المساعدات الإنسانية لغزة دون عوائق    مقتل مهندس الإسكندرية.. النيابة تقرر السماع لشهود العيان تقرير تفريغ كاميرات المراقبة في موقع الحادث    تعليم القاهرة تعلن عن مقترح جداول امتحانات شهر نوفمبر    اليوم.. ضايل عِنا عرض يفتتح عروض الجالا بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي    مدير التعليم الفني بالمنوفية يتابع سير العملية التعليمية بعدد من المدارس    المؤتمر: المشاركة الواسعة في المرحلة الأولى تؤكد وعي المصريين وإيمانهم بالديمقراطية    المشدد 10 سنوات لبائع خضار قتل مُسنة بسبب خلاف على لهو الأطفال بقنا    عون: نرحب بأي مشاركة أوروبية في حفظ الاستقرار بعد انسحاب "اليونيفيل"    الشيخ خالد الجندي: كل لحظة انتظار للصلاة تُكتب في ميزانك وتجعلك من القانتين    «الجمعة ويوم عرفة».. خالد الجندي: «العباد المجتهدين» يباهي الله تعالى بهم ملائكته (تفاصيل)    مصطفى حسني: تجربتي في لجنة تحكيم دولة التلاوة لا تُنسى.. ودوّر على النبي في حياتك    الدكتور خالد عبدالغفار يبحث مع وزير الصحة العراقي سبل تعزيز العمل بمجالات التعاون المشترك    بعد القبض على قاتل مهندس الكيمياء النووية.. مصطفى بكري: وزير الداخلية يعمل في صمت    وزير الأوقاف: بنك المعرفة المصري أداة لتمكين الأئمة ودعم البحث العلمي الدعوي    «مش بتحب الخنقة والكبت».. 3 أبراج الأكثر احتمالًا للانفصال المبكر    قضية زيزو.. تطورات مدافع الزمالك.. بيراميدز أفضل نادٍ.. وصلاح يوزع قميصه| نشرة الرياضة ½ اليوم    الزمالك: لا صحة لمعاقبة النادى أو تغريمه 40 مليون جنيه فى قضية زيزو    بروتوكول بين الهيئة المصرية البترول ومصر الخير عضو التحالف الوطني لدعم القرى بمطروح    بأوامر الرقابة المالية.. حسام هنداوي ملزم بترك رئاسة شركة الأولى بسبب أحكام قضائية    جلسة حوارية حول النموذج التحويلي للرعاية الصحية الأولية في مصر    إعلان موعد خروج الفنان محمد صبحي من المستشفى    بسبب فشل الأجهزة التنفيذية فى كسح تجمعات المياه…الأمطار تغرق شوارع بورسعيد وتعطل مصالح المواطنين    رئيس مجلس الشيوخ: صدور قانون الإجراءات الجنائية خطوة تشريعية تاريخية    حماس: إحراق المستوطنين مسجدا بالضفة يكشف مستوى سادية وعنصرية الاحتلال    إخماد حريق شب في عقار بالفيوم    يسري نصرالله معلقا على تكريم محمد عبدالعزيز في مهرجان القاهرة السينمائي: الناس وقفت له لأنه أستاذ حقيقي    المركز الإعلامي لمجلس الوزراء: أكثر من 700 مادة إعلامية نُشرت حول افتتاح المتحف المصري الكبير في 215 وسيلة إعلامية دولية كبرى    الصحة: مصر حققت تقدما ملحوظا في تقوية نظم الترصد للأوبئة    سر رفض إدارة الكرة بالزمالك لتشكيل اللجنة الفنية    الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار    القسام تستأنف البحث عن جثث جنود الاحتلال    «الكوسة ب10».. أسعار الخضار اليوم الخميس 13 نوفمبر 2025 في أسواق المنيا    محافظ الغربية: كل شكوى تصلنا نتعامل معها فورا.. ومتفاعلون مع مطالب المواطنين    التنسيق بين الكهرباء والبيئة لتعظيم استغلال الموارد الطبيعية وتقليل الانبعاثات الكربونية    ليفاندوفسكي على رادار ميلان وفنربخشة بعد رحلته مع برشلونة    جراديشار يصدم النادي الأهلي.. ما القصة؟    عاجل- أشرف صبحي: عائد الطرح الاستثماري في مجال الشباب والرياضة 34 مليار جنيه بين 2018 و2025    نيويورك تايمز: أوكرانيا تواجه خيارا صعبا فى بوكروفسك    إجراء 1161 عملية جراحية متنوعة خلال شهر أكتوبر بالمنيا    وزير الصحة يُطلق الاستراتيجية الوطنية للأمراض النادرة    في قلب الشارع.. قتل مهندس كيمياء نووية مصري ب13 رصاصة في الإسكندرية    الغنام: إنشاء المخيم ال17 لإيواء الأسر الفلسطينية ضمن الجهود المصرية لدعم غزة    لقاء الشرع بترامب في البيت الأبيض الأول منذ 80 عاما.. وباراك يكشف تفاصيل الاجتماع    رئيس جامعة قناة السويس يكرّم الفائزين بجائزة الأداء المتميز عن أكتوبر 2025    متحدث الأوقاف: مبادرة «صحح مفاهيمك» دعوة لإحياء المودة والرحمة    باريس سان جيرمان يحدد 130 مليون يورو لرحيل فيتينيا    موعد شهر رمضان 2026.. وأول أيامه فلكيًا    «مبروك لحبيبتي الغالية».. فيفي عبده تهنئ مي عز الدين بزواجها    ندب قضاة ومنفعة عامة.. قرارات جديدة لرئيس الوزراء    الداخلية تلاحق مروجى السموم.. مقتل مسجلين وضبط أسلحة ومخدرات بالملايين    ضبط 5 أشخاص أثناء التنقيب عن الآثار داخل عقار بالمطرية    إيطاليا تواجه مولدوفا في اختبار سهل بتصفيات كأس العالم 2026    المصرية للاتصالات: تحسن التدفقات النقدية الحرة يعكس قوة الأداء المالى    الاتحاد الأوروبي يُشيد بالانتخابات البرلمانية العراقية    10 صيغ لطلب الرزق وصلاح الأحوال| فيديو    صاحب السيارة تنازل.. سعد الصغير يعلن انتهاء أزمة حادث إسماعيل الليثي (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دول حبيسة وأنظمة مارقة.. صلابة مصرية تُقاوم تعكير مياه أفريقيا من سواحل الصومال
نشر في اليوم السابع يوم 18 - 01 - 2024

اجتماعٌ طلبَه الصومال طارئًا فى 4 يناير، مع ما يحمله من صفة الاستعجال، فعقده مجلس الجامعة افتراضيًّا أمس، ثمّة مُلاحظة أوَّلية على إيقاع «بيت العرب» فى الاستجابة للمسائل المُلحّة؛ صحيح أن تحدّياتها مُتزامنة فى عدّة بيئات ساخنة؛ لكنها لا تُبرّر أريحيّة التعاطى مع ظرفٍ غير اعتيادى يمسّ سيادة أحد الأعضاء، الباعثُ مُذكّرة تفاهم وقّعتها إثيوبيا مع «أرض الصومال» مطلع الشهر، تُتيح للأولى استغلال ميناء «بربرة» واستئجار 20 كيلو مترًا من الساحل لقاعدةٍ عسكرية. وفى التفاصيل؛ فإن أديس أبابا تقفز للبحر مُقابل الاعتراف بالإقليم الانفصالى دولةً مُستقلّة، مع حصَّةٍ من خطوطها الجوية، قالت واشنطن إن مُمارسات آبى أحمد تُهدِّد الأمن والاستقرار وتُعطِّل القضاء على الميليشيات، أُدين الاتفاق صراحةً من مصر والجامعة العربية، وضمنيًّا من كينيا وبريطانيا وتركيا والاتحاد الأفريقى، وألغاه الرئيس حسن شيخ محمود بقانون، وسيصل القاهرة قريبًا تلبيةً لدعوة السيسى، سبقَه استقبال وزير الخارجية وفدًا صوماليًّا يتقدّمه رئيس الوزراء، وزيارة وفدٍ مصرى رفيع للعاصمة مقديشو، وهو ما لا ينفصل عن العقيدة المصرية الراسخة تجاه احترام سيادة الدول، وصَون المصالح العربية، ورفض كلّ صُور اختصام الشرعية والقانون، لا فارق بين عدوان السياسة فى القرن الأفريقى وعدوان السلاح فى غزّة.

«صومالى لاند» يقع شمالَ غربىّ الصومال، وهو أكبر قليلاً من رُبع مساحة الدولة وأقل قليلاً من ربع السكَّان، أعلنَ استقلاله من طرفٍ واحد بعد الإطاحة بالجنرال سياد برى 1991، ولا جسدَ له فى المجتمع الدولى رغم بنائه سُلطةً ذاتيّة بمؤسَّساتٍ وعُملة وجوازات سفر، والاتفاق الذى تُسوّقه إثيوبيا شراكةً اقتصادية، تنتفى دعايته بالنظر لامتلاكها 19% من ميناء «بربرة» بموجب تفاهمٍ ثلاثى مع موانئ دبى، رفضته الحكومةُ الشرعيّة أيضًا؛ لكن المشروع لم يتوقَّف، أمَّا سُوء النيَّة فدليلُه أن الورقة جاءت بعد أيّامٍ من مُباحثاتٍ بين الإقليم ووطنه الأُمّ لتقريب الرؤى وقَفز الخلافات، والأخطرُ أن التحرُّك ينبنى على تهديدٍ سابق؛ إذ قال آبى أحمد فى أكتوبر إن وصولَهم للبحر قضيّةٌ وجودية، مُلوِّحًا بأنه لا سِلمَ ولا استقرار للمنطقة كلِّها دون ذلك، قَطعًا لن يتطوَّر الصراع لنزاعٍ مُسلَّح، بأثرِ هشاشة الضحية وفارق القوّة لصالح المُعتدى؛ لكن العالم الذى يدّعى تجاوز البدائية وشريعة الغاب، عليه التزامٌ بألَّا يُمرِّر بلطجة الأنظمة المأزومة، أو المُغرمة باصطياد فرائسها بالحديد والنار من حظائر الآمنين، ثمَّة إشارات على أن حكومة أحمد رأسُ حربةٍ لمصالح أطراف أكبر، أو تُترَك لغرورها ونزواتها بغرض إبقاء نطاقٍ عريض من أفريقيا فوق صفيحٍ ساخن، وقد بدا التواطؤ معها واضحًا فى ملفّات عدّة؛ كانت الظالمَ فيها جميعًا، وبينما يتوهَّم الرجلُ نفسه امبراطورًا على عرشٍ راسخ، ينعكس ظلُّه الباهت فوق صفحة «الدولة الفاشلة» من كتاب صعود الأُمَم وانحطاطها.

إثيوبيا بلدٌ حبيس عن البحر؛ لكنه يعوم فوق بحارٍ من الأزمات، بعضها أنشأته الطبيعة أو شكّلته مَواضٍ بعيدة، وكثيرُه نتاج صراعات السياسة وسُوء الإدارة، ثابتها الوحيد ألَّا تتوقّف عن تصدير مُشكلاتها للآخرين، والهروب منها بأشدّ الصور تطرُّفًا وإحراقًا، على هذا الخلل الإدراكى والحركى حاربت الجيران، وأساءت لمُكوّناتها الداخلية، ما كان فى المعارضة وما آل للسلطة أو غادرها، لقد ارتكبت دائرة الحُكم بتبدُّلاتها كلَّ المُوبقات تقريبًا: تسبَّبت فى مجاعات، ومارست ما يُلامس الإبادة العرقية، واحتلَّت أرض الآخرين، ودعمت ميليشياتٍ وحركاتٍ انفصالية، ونقلت أسلحةً للبيئات الساخنة، وسعت لاحتكار الموارد المائية العابرة للحدود، وأخيرًا تستبدُّ بدولةٍ مُسالمة طمعًا فى منفذ على الماء المالح، إنها تُوشِك أن تكون دولةً مارقة؛ أو لعلَّها صارت.. وبينما لا يدَ للشعب المسكين فى أطماع الساسةِ وانحرافاتهم؛ يدفعون الكُلفةَ الباهظة وحدهم، فى واحدة من أكثر مناطق العالم فقرًا ومُعاناة، وأشدّها ارتباكًا فى الإدارة واستشراءً للفساد.

ما حدثَ فى الاتفاق المشبوه يُلخّص فلسفةً إثيوبيّة راسخة، عمودُها انتهازُ اللحظات الساخنة والنفاذ لأهدافها من أكثر الخواصر رخاوةً. سبقَ أن فعلت ذلك فى جيبوتى، وخلال الحرب الأهلية الإريترية، وطوال نزاع الخرطوم مع قوى الجنوب قبل استقلاله، فعلته أيضًا مع موجة «الربيع العربى» وارتباك أوضاع مصر؛ فأطلقت مشروعها المُسمَّى «سدّ النهضة»، وكانت نسخته الأكثر جلاءً وانكشافًا عندما اشتبك جيش السودان وميليشيا الدعم السريع؛ فدفعت عصابات أمهرة، الظهير الأكبر لرئيس الحكومة آبى أحمد، لاقتحام أراضى «الفشقة» التى استنزفتها عقودًا قبل أن يبسط السودانيّون سيطرتهم عليها خريف 2020.

تُسلِّط «الفشقة» ضوءًا فاضحًا على عقل أديس أبابا.. نطاقٌ عريض من السهول الخصبة بثلاثة ملايين فدان، تتبع السودان بوثائق تعود لعامى 1902 و1907، وصارت محلَّ نزاعٍ بعد استقلال الأخيرة عن مصر، وإلى أن أبرم نظام البشير اتفاقًا فى التسعينيات يُقرّ الاعتراف بسودانيّتها مع بقاء الإثيوبيين العاملين فيها، وكالعادة، تبدَّلت المواقف بمجرد أن سنحت الظروف، فأحكمت قبضتها على المنطقة.. كان رئيسُ وُزرائها قد زار الخرطومَ بعد أسابيع من إطاحة نظام الإخوان، والمُعلَن أنها وساطةٌ بين المكوّنين السياسى والعسكرى، وما كشفته التطوُّرات أنها كانت مناورةً لبناء جبهة حليفة، تأكَّدت بوصول التكنوقراطى المُحبَّب لها عبدالله حمدوك لرئاسة الحكومة، وحتى استقبال قائد الدعم السريع «حميدتى» مُؤخّرًا، وإبرام اتفاق مع تنسيقية القوى المدنية «تقدُّم»، ويقودها حمدوك نفسه، فيما يبدو مُقاربةً مدنيّة عسكرية، وهو فى واقع الأمر تنسيقٌ بين حليفين فعليّين.

رواندا وأوغندا والكونغو وبوروندى دولٌ غير ساحلية، وتُحقِّق المنفعة البحرية بتفاهُماتٍ ناعمة مع جارتيها، كينيا وتنزانيا.. إثيوبيا الوحيدةُ التى سعت للماء بالتهديد، وقرَّرت بلوغَه بالعدوان على سيادة الآخر.. وبقدر ما تستفيد طبقةُ حُكمها من نزاعات الصومال، يبدو أنها تُغذّيها؛ لا سيما وانقسامات البلد الفيدرالى المضروب باختلالاتٍ هيكلية عميقة، هى ما تسمحُ لها باستمرار احتلال أوجادين، وسمحت أخيرًا بصفقتها المشبوهة مع انفصاليّى «صومالى لاند»، لقد سبق أن غزت أديس أبابا جارتها قبل قُرابة العقدين، بمزاعم التصدّى للحركات الدينية المُتطرّفة؛ لكنّ اقتطاع الجغرافيا بالسلاح أو الاتفاقات غير القانونية اليوم، لا تُمكن مُقاربته سوى من زاوية الانتهازية والاستثمار فى الفوضى، خصوصًا أن مسألة الميناء لم تُطرَح فى سياق فائدةٍ حقيقية مُتبادَلة؛ بل جاءت مقابل الاعتراف بانفصالٍ من طرفٍ واحد، ولا تُقرّه إلّا تايوان، ربما على طريقة «نُقوط الأفراح»، إذ هى نفسها إقليمٌ مُتنازَع عليه مع الصين، وما زال يُفتّش عن ولادته المستقلة، ويُجابَه بإنكار الجميع؛ حتى حُلفاؤه الأقرب فى واشنطن.

أقلّ من ستّ سنواتٍ قضاها «آبى» فى السلطة، حاز «نوبل للسلام» بعد تصفية نزاعٍ طويل مع إريتريا؛ وكانت أوَّل إسهاماته الإيجابية وآخرها، شهدت ولايته للآن مُحاولةَ انقلابٍ دامية، وحربًا شديدة الوحشية ضد عرقية تيجراى، واحتجاجاتٍ صاخبةً فى العاصمة وأوروميا بعد مقتل المُغنى هاشولو هونديسا، فيما فُسِّر بالجريمة السياسية ربطًا بنشاطه المعارض وأُغنياته الاحتجاجيّة الصاخبة، كما شهدت البلاد صِدامًا بين أكبر عرقيّتين بأمهرة، وقُتِل مئاتُ المدنيين فى هجمات إثنيّة منتصف 2022، واندلعت احتجاجاتٌ عارمة عقب السعى لتقويض قوات الأمن بالأقاليم، كما اشتبك الجيش مع ميليشيا فانو قبل شهورٍ فى أعقد أزمة منذ حرب تيجراى، كلُّ هذا التوتر الداخلى لم يمنع «حكومة أحمد» من النفخ فى جَمر المنطقة، وصولاً لنقل أسلحةٍ للسودان على الخطوط الرسمية، بحسب اتهامات الخرطوم، ولا يبتعدُ من ذلك أنها بدَّدت عقدًا من المُفاوضات المائية مع مصر؛ لا لشىءٍ إلَّا أنها تُفاوض كدولة، وتتهرَّب من التزاماتها كخارجٍ على القانون.
ملفُّ «سد النهضة» أكثر القضايا تعريةً لذهنية المؤسَّسات الإثيوبية العميقة، بدأ التشدُّد مع ميليس زيناوى، واستمر فى ولاية ديسالين، ثم جاء آبى أحمد على العهد، تغيَّر المُعتقَد مرّةً والعِرقُ مرَّتين، من الأرثوذكسية للبروتستانتية، ومن تيجراى إلى ولايتا وأورومو، ولم تتبدَّل مطامع احتكار النيل ولا رغبةُ الإضرار بالشركاء، كان «زيناوى» الصاعد للسلطة بعد انقلابٍ عسكرى مُتطرِّفًا فى عدائه للجيران جميعًا، واستغل ثورة يناير لإطلاق مشروعه، وتلاعب بوفدٍ من الساسة المصريّين زاروه تحت لافتة «الدبلوماسية الشعبية» وأضروا بموقفنا أكثر ممّا أفادوه. أمَّا الحالى فقد انتهج المُماطلة منذ يومه الأول، وقدَّم الوعودَ ثم ابتلعها دون مسؤوليةٍ أو حرج، وطلبَ الوساطةَ الدولية لينسحب منها بخفّة الصغار، وتمسَّك باتفاق إعلان المبادئ وخالفَه، واستهلك جولات الحوار ليسرق الوقتَ لا أكثر، وأخيرًا اتّفق مع الرئيس السيسى، على هامش قمّة جُوار السودان فى يوليو، على ورشةٍ مُدّتها أربعةُ أشهر لإنجاز التوافق، وغادر القاهرة عاقدًا نيّة المُراوغة، أعلنت مصر مُؤخّرًا انتهاء المسار التفاوضى بسبب التعنُّت الإثيوبى، بعد أربعة اجتماعاتٍ تهرَّبت فيها من كُل الحلول القانونية والفنية، وأثبتت أنها تتعاطى الدبلوماسية باعتبارها أداةً للاحتيال، ومدخلاً لفَرض أمرٍ واقع وقَضْم الحقوق الثابتة لدول المصبّ؛ وفق ما رسّخته سوابقُ التاريخ وتشريعات الأنهار العابرة للحدود.

قُتِلَ آلاف الأبرياء فى حرب أوجادين مع الصومال 1977، وحربى الاستقلال وبادمى مع إريتريا منذ أوائل الستينيات للعام 2000، و«تمرّد فود» الجيبوتى الذى اشتعلت شرارته بأسلحةٍ وميليشيات إثيوبية، ومات آلاف الإثيوبيين فى مجاعة الثمانينيات، وفى الحرب الأهلية، واغتيل اثنان من رُؤساء البلاد، وأُعدِم مئات الجنرالات والمدنيِّين، وامتلأت السجون بالباحثين عن حقوقهم، واستفحلت الانقسامات الداخلية بسبب غياب العدالة والتوازن، التنوُّع العرقىّ صار عنصرَ توتُّرٍ لا ثراء، والقوّة البشرية الهائلة استحالت عبئًا وتُرِكَت للمُعاناة وفَقر الخيال، بلدٌ يفوق 1.1 مليون كيلو متر مربع و120 مليون نسمة، لا يتخطّى ناتجُه مائةَ مليار دولار، ونصيبُ الفرد أقل من ألف دولار، وعجز مُؤخّرًا عن سداد فوائد دَين بعدَّة ملايين، بينما يُنفق أضعافها على صراعات الداخل والخارج، وأطماع التمدُّد فى الجغرافيا والأنظمة المُحيطة، ويتطلَّع لحدائق الآخرين بينما يتركُ أرضَه قاحلةً، ويرهن مُقدّراته للرؤى القاصرة حينًا، وللأطماع الطائشة أحيانًا.

التعدّى يُهدِّد بأكبر من تفتيت جارةٍ لصيقة، أو إشعال أطول سواحل القرن الأفريقى، ثمّة تاريخٌ عدوانى يُثير القلق من حضور إثيوبيا على شُرفة البحر الأحمر، وينسفُ احتمال أنّه لرغبةٍ تنمويّة، وليس بحثًا عن موطئ قدمٍ عسكرية؛ تحضيرًا لبناء أسطولٍ يخدمُ الفوضى مثلما تخدمها مرافقُ السياسة وقوّات البرّ، ويُضافُ أن الاتفاق يخصم من مصالح جيبوتى التى تنوب موانيها عن أديس أبابا فى تجارتها، ويُحبِط خططَ التعاون المرتبطة بميناء «لامو» الكينى العملاق، وربما يُثير ضيقَ الصين الداعمة للصومال والمُتمسّكة بتايوان، كما تطال المغامرةُ مصالح واسعةً ومُتداخلة، فى منطقةٍ تُمرِّر نحو 15% من حركة الشحن الدولية ب2.5 تريليون دولار، منها 7 ملايين برميل نفط يوميًّا وآلاف أطنان الغاز المُسال، وقد تُشكِّل فَكَّى كمَّاشة على الحوض المائى مع ميليشيا الحوثى اليمنيّة، وسلوكُهما شبه مُتطابق، ولا ضمانةَ لعدم توظيف الإطلالة فى تظهير أجندة العداء الإثيوبية تجاه جيرانها؛ كأنّ تُوجّه قُدراتها لنقل الصراعات القارية إلى المياه الدولية، لا سيما مع مواقفها المُتطرِّفة تجاه مصر والسودان وغيرهما فى المياه والحدود.. ظاهر المُوقف أنه صفقةٌ خارج القانون والشرعية، وإضرارٌ بالجار حصرًا؛ وجوهره إثارةُ قلاقل أبعد من البلدين، وأعمق من الميناء، وأشدّ خطرًا على الأمن والاستقرار من كلّ سقطات سلسلة الحُكم الحبشية، بتاريخها الطويل مع الرعونة واختراع الأزمات.

المقاربةُ العربية فى الجامعة، وعبر الأُطر الثنائية؛ تنحازُ قطعًا للحقوق الصومالية، وترفضُ تجاوز القانون والسيادة ومبادئ حُسن الجوار. والورقة المُوقّعة بالأحرف الأولى تقول إثيوبيا إنها لم تتّخذ صيغة الاتفاق، وستُستكمَل فى غضون أسابيع. وبعيدًا ممَّا ستؤول إليه مُداولات الطمّاعين والانفصاليين، فالأرجحُ أن تتعطَّل قافلة الماء ماديًّا أو عمليًّا؛ إمَّا بتحرُّك قانونى يُحبطها لدى المنظومة الأُمميّة، أو ببناء مواقف دوليّة رافضةٍ لكَسر القانون؛ فيرتدعُ طرفاها إنْ بتباطؤ الزحف لتفعيلها، أو بتطبيقٍ شكلانىّ غير كامل. وربما عند نُقطةٍ مُعيّنة يستعيد آبى أحمد صوابَه؛ حالَ اكتشاف الفارق بين دولةٍ حبيسة تحترمُ الشرعيّةَ وتُحتَرم، ودولةٍ مارقةٍ بمنفذٍ على البحر ومنافذ على الدم، وما يُرتّبه طموحها غير المسؤول من تكاليف باهظة فى السياسة والدبلوماسية وبرودة حزامها المُباشر. لقد خاض الرجلُ مغامراتٍ طاحنةً لا يحتملها بلد كبير بالجغرافيا والبشر، وصغيرٌ إزاء ضخامة الأعباء والالتزامات، خاضها برشاقة العصابات، وتكبَّدتها إثيوبيا بثِقَل الدُوَل ومرارة المجتمعات النائمة على بطونٍ خاوية. الأنظمةُ العاقلة لا تقود بلدانَها لحافّة الهاوية، والافتتان بالهروب للأمام لا يُريح الضمائرَ من ملامة التقصير، ولا يُثمر حلولاً خارجية لِمَا عجزت عن مُداواته من داخلها، أسوأ صور العلاقات الدولية أن تكون مُثيرًا لرُعب الجيران أو تُحفّظهم، والمُؤسف أن حكومة «حزب الازدهار»، وليس لها من اسمه نصيب، أدمنت الدور، ربما تُشير المطامعُ لحجم الأزمة الصومالية، لكنها بالقدر نفسه تُفصِح عن مُعضلةٍ إثيوبية شديدة الاستفحال، قد تُجدِّد فوضى الأقاليم والأعراق فى أيّة لحظة، وتُشعل جولاتٍ جديدةً لحروبها القديمة، أو الدائمة على معنىً أدقّ، وربما الحلُّ فى تغيير الذهنية الحاكمة، وإعادة ضبط بوصلة عقلها السياسى، واقتناع المُهيمنين عليها أنها بلدٌ كبير عريق، عليه واجبات بحجم تاريخه وحاضره، وأوّلها ألَّا ينجرف لأهواء الهُواة والمقامرين، وألَّا يرهن مستقبلَه للعائشين فى الماضى، يُديرونه بكلّ الوصفات التى تأكَّد فشلُها ألف مرّة؛ فما قدَّمت لهم سوى المِحَن المُتلاحقة، وما جَنوا منها إلَّا الهشاشة والذبول والنزاعات الدامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.