قبل أن نوجه اللوم والاتهامات للإدارة السياسية الحالية للبلاد، نسأل السؤال الذى يهم الناس، ويشغلهم: ماذا يحدث حولهم؟ هناك مساجلات كثيرة، ضجيج بلا طحن، لا أحد يفهم، ملفات تُفتح ثم تُغلق، وقضايا تشغل الرأى العام لأسابيع ثم تموت فجأة بالسكتة القلبية لا أحد يتحدث عنها. ومن فرط تدافع الأحداث يقع الناس فى بلبلة غير مفهومة. ثار حديث عن مبادئ فوق دستورية، ثم مبادئ حاكمة، ثم مبادئ أساسية. وكان نائب رئيس الوزراء طرفا أصيلا فيها د. يحيى الجمل، ثم د. على السلمى. لا أحد يسمع عنها اليوم؟. دار حديث آخر عن قانون موحد لبناء دور العبادة، ووعد رئيس الحكومة شباب الأقباط المتظاهرين فى ماسبيرو بأنه سيصدر خلال شهر، وتداولت وسائل الإعلام مسودة له، لا أحد يسمع عنه الآن؟. طفا على السطح حديث ثالث عن «قانون الغدر»، وانشغل الناس ليعرفوا كيف سيطبق القانون، ثم ما لبث أن خفت الحديث عنه، ووجدنا من كان يعتقد الرأى العام أن القانون المشار إليه يطالهم يشكلون أحزابا، وتستضيفهم محطات التليفزيون؟ خصوم الثورة تحولوا إلى منظرين لها أو على الأقل مستفيدين منها. وبعضهم ممن كانوا يوما أعضاء متنفذين فى الحزب الوطنى المنحل لم يكونوا يستطيعون الاستقلال عنه، أو تشكيل حزب سياسى أو التعبير عن رأى مخالف. سمعنا عندما تحول جهاز أمن الدولة إلى الأمن الوطنى أن هناك قانونا سيصدر لتنظيم عمل هذا الجهاز أو القطاع، ثم غاب الموضوع، ولم نعد نعرف عنه شيئا. وعندما استدعى النائب العام للتحقيق الضابط المتهم بتعذيب الشاب السكندرى السلفى سيد بلال حتى الموت، وتم حبسه فوجئنا بأنه لا يزال يعمل فى الأمن الوطنى ولكن فى مكان آخر. وبالمناسبة فإن هذا الشاب الضحية خضع للتعذيب على خلفية التحقيق معه فى حادث تفجير كنيسة القديسين، الذى لم يظهر الجناة الحقيقيون فيه حتى الآن، رغم وجود اتهامات منشورة منذ عدة شهور عن ضلوع وزير الداخلية الأسبق، وبعض من رجاله فى هذه الجريمة البشعة. قصص الفساد لا تنتهى فى وسائل الإعلام، ولم يخبر أحد من المسؤولين بأن الحكومة استردت شيئا من الأموال المنهوبة، أو حتى عرفت حجمها. من حق الناس أن تشعر بالاضطراب، وتطرح تساؤلات حول طريقة الإدارة السياسية للبلاد فى هذه اللحظة التى تشهد حالة من الغليان، وشعور قطاعات من المواطنين باليأس، وربما السخط على الثورة وفاعليها. ولا أستطيع أن أخطئ القوى السياسية التى تقول إن نظام مبارك يعاد إنتاجه بذات السياسات، ولكن بشخوص مختلفة. اللوم هنا لا يوجه فقط إلى المجلس العسكرى أو حكومة شرف، ولكن يوجه أيضا- وربما فى المقام الأول- إلى القوى السياسية التى أدمنت الانقسام، والتنافس السلبى، والبحث عن اتفاقات «تحتية» تجريها تؤمن لها وضعا متميزا على حساب غيرها، ولم تستطع أن تبلور موقفا تثبت عليه، وتقنع المجتمع به، فلم ير فيها المجتمع سوى حناجر فى الميادين، ومساجلات فى الفضائيات، وخناقات تحفل بها الصحف. من مليونية إلى أخرى، ومن ميدان التحرير إلى ميادين أخرى، المواقف تتبدل، والناس تزداد بلبلة ويأسا. موقف شديد الالتباس، المواطن لم يستدع فيه، لا يزال متفرجا ساخطا حينا ويائسا أحيانا. نخبة تعانى من العرى السياسى، لم تعد تقنع أحدا، تزيد الموقف تعقيدا، وغموضا، وكأنها كهنة السحر المسمى «السياسة»، تفهمه دون غيرها. هل نلوم الناس عندما تطلب أن تفهم ما يجرى حولها أم نلوم من وضعوها فى موقف العجز؟