فى المقهى الشرقى الكائن فوق لسان النهر قال لصاحبه وهو يداعبه ما طعم العُنَّاب الليلة قال: بحق يسوع الحى مذاق مختلف لم أتذوقه قط لكأني أرشف خمرة حلم يتجسد بين يدى بعد زمان أفعى بث بماء النيل سمومه.. فتهاوت أشجار الحكمة فى شطيه وتساقطت الأوراق شظايا تنبئ كيف تعرى جسد الوطن وأضحى عارا.. وخطايا قلَّب صاحبه الشاى وقال: ترى هل تتغير كل الأشياء أم تلك أمانى وشكايات ترى هل جاء زمان تتقيد فيه أشباح الخوف وتكسر أغلال الصمت على الأفواه ويشمخ فوق الرايات الحمراء جلال الكلمة.. .. .. .. لكأن الأسئلة اشتعلت بين يدينا ألسنة تفصح لغة محمومة فاذا الريح تدوى لحناً قدسياً كان أسيراً من زمن: {كنت فى صمتك مرغم كنت فى حبك مكره فتكلم.. وتألم وتعلم كيف تكره غضبة للعرض.. للأرض لنا غضبة تبعث فينا مجدنا وإذا ما هتف الهول بنا فليقل كل فتى.. إنى هنا}(1) وإذا الريح تدوى ثانية بحناجر آلاف المهمومين تعلن: لا صمت.. ولا خوف.. ولا غفوة قال صديقى: الليلةُ خمر.. وغدٌ أمر قلت: بل الليلةُ أمر.. وغدٌ يوم الثأر .. .. .. أسرعنا نلتحم بتلك الآلاف المهمومة ونفيق من الغفلة والأحلام المكلومة كان الليل يمد عباءته السوداء ويثبتها قهرا فى أيدى الجهلاء يدرك أن الشمس إذا جاءت سوف تضن كعادتها بعطاء الدفء فهى ترى بشراً فى التيه سُكارى لا يوقظهم شئ أسرعنا نخلع عن هذا الليل عباءته ننزعها من تلك الأيدى الخائنة وندعو شمس الحلم الهارب أن تشرق ثانية بالعزة والحب صعد صديقى درجاُ.. لوح بصليب يقسم ألا يصمت بعد اليوم ورأيت صديقاً آخر يرفع قرآنا يقسم ألا يصمت بعد اليوم فى لحظات.. هبت عاصفة المأجورين القتلة برصاص.. ودخان.. وهراوات تساءلت: أليسوا مثل الآلاف المهمومين يعانون الخوف ويزدردون الذل وتمطرهم ليل نهار أنواءُ الظلم قالوا: أفلح من يملكهم أن يجعلهم قطعاً فى رقعة شطرنج ودمى خائبة تؤمر فتجيب وتغشَّى أعينهم سحبُ الجهل وأوهام البؤساء لم نهرب من ساحتنا سقط الشهداء وخضب دمهم أشجار النيل.. فأثمرت الجمرات النارية كنا نلقيها فوق الرءوس المأجورين القتلة لكن ضحايا الساحة ظلوا فوق ثراها يبتسمون ويمدون سواعدهم بوصايا الوطن المغزولة من أحلام البسطاء ومن غضب المقهورين {إذن سجل برأس الصفحة الأولى أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكنى إذا ما جعت أكل لحم مغتصبى حذار حذار من جوعى ومن غضبى}(2) قلت: تعال نصوغ الغضب تراتيل وأبواباً مشرقة وخطى زاحفة لا تتوقف قال صديقى: أخشى ألا يسعفنا الوقت فتدهمنا فى الليل طواحين السفهاء وفى الصبح رصاص القتلة قلت له: لا تخشى أعيننا الآن مثبتةٌ فوق الشمس ترصد كل جحور الجرذان وكل دروب الحيتان هذا بدء الطوفان وتلك سفينتُنا الموعودة تحمل من كل زوجين ومن ساحتنا الفرسان هذا صبح الشمس جديداً فى الميدان.. صاح صديقى: {لابد أن نسير ونجرفَ الأقدار فى طريقنا الكبير ونعصرَ الرياح فى تلفت المصير ونصعقَ الهشيم فى احتضاره الأخير فلم يعد لركبنا وقوف ولم يعد لدربنا عكوف}(3) أعرف أن صديقى يحفظ شعراً يجرى فى فمه.. مثل لعابه لا يتلعثم فيه ولا يخطئ موقعه فى أى حوار قلت له: لا خطو هنا يتوقف لا حلم هنا ينهار تلك جموع البشر الزاحفة تحطم أعتى الأسوار تسقط كل طغاة الوطن يذوقون القهر يذوقون الفقر يذوقون الذلة والعار قال صديقى: لا يكفى أن نلقيهم خلف القضبان ونرصد أعينُنا ليل المحنة فى أعينهم لكن الوطن أمام خطانا منتظرٌ.. كى نبنى فيه حصون العزة للأرض وللإنسان لفحتنا ريح الصحوة ما كنا نحلم.. أو نهذى لكن الدنيا صارت فى قبضتنا غنما.. ورهان وغداً فى خطوتنا يعلو فى البنيان وعروس الوطن بزينتها تخطو وتغنى فى الميدان {أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى ما رماني رام وراح سليماً من قديم عناية الله جندى إننى حرة كسرت قيودى رغم رقبى العدا وقطعت قَدى نظر الله لى فأرشد أبنائى فشدوا إلى العلا أعاشد إنما الحق من قوة الديان أمضى من كل أبيض هندى}(4) هامش: 1 كامل الشناوى 2 محمود درويش 3 محمود حسن إسماعيل 4 حافظ إبراهيم