أسعار الأسماك والخضروات والدواجن.. اليوم 8 ديسمبر    ترامب يعرب عن خيبة أمله لأن زيلينسكي لم يطلع على مقترحه للسلام    مقتل جندى تايلاندى وإصابة آخرين فى اشتباكات حدودية مع كمبوديا    نتنياهو: مفاوضات جنوب سوريا تتواصل مع الحفاظ على المصالح الإسرائيلية    ملفات ساخنة وأحداث مُشتعلة فى تغطية خاصة لليوم السابع.. فيديو    ماسك يشبّه الاتحاد الأوروبي بألمانيا النازية    «قد تفكك الجيش».. إعلام إسرائيلي: تصاعد الأزمة بين كاتس وزامير    الحرس الثوري الإيراني: أي عدوان إسرائيلي جديد سيواجه برد أشد وأكثر قسوة    ميلوني تؤكد لزيلينسكي استمرار الدعم قبيل محادثات لندن    "من يريد تصفية حسابات معي فليقبض عليّ أنا" ..لماذا تعتقل "مليشيا السيسى "شقيق مذيعة في قناة تابعة للمخابرات !؟    حبس عاطل لقيامه بسرقة وحدة تكييف خارجية لأحد الأشخاص بالبساتين    لميس الحديدي: قصة اللاعب يوسف لا يجب أن تنتهي بعقاب الصغار فقط.. هناك مسئولية إدارية كبرى    شئون البيئة: سوف نقدم دعمًا ماديًا لمصانع التبريد والتكييف في مصر خلال السنوات القادمة    الرئيس التشيكي: قد يضطر الناتو لإسقاط الطائرات والمسيرات الروسية    "قطرة ندى" للشاعر محمد زناتي يفوز بجائزة أفضل عرض في مهرجان مصر الدولي لمسرح العرائس    بعد رحيله، من هو الفنان سعيد مختار؟    ترتيب الدوري الإسباني.. برشلونة يتفوق على ريال مدريد ب4 نقاط    مجموعة التنمية الصناعية IDG تطلق مجمع صناعي جديد e2 New October بمدينة أكتوبر الجديدة    كأس العرب - بن رمضان: لعبنا المباراة كأنها نهائي.. ونعتذر للشعب التونسي    أوندا ثيرو: ميليتاو قد يغيب 3 أشهر بعد الإصابة ضد سيلتا فيجو    إبراهيم حسن: محمد صلاح سيعود أقوى وسيصنع التاريخ بحصد كأس أمم إفريقيا    أشرف صبحي: قرارات الوزارة النهائية بشأن حالة اللاعب يوسف ستكون مرتبطة بتحقيقات النيابة    لاعب الزمالك السابق: خوان بيزيرا «بتاع لقطة»    هل تقدم أحد المستثمرين بطلب لشراء أرض الزمالك بأكتوبر؟ وزير الإسكان يجيب    وزير الإسكان يعلن موعد انتهاء أزمة أرض الزمالك.. وحقيقة عروض المستثمرين    بدون محصل.. 9 طرق لسداد فاتورة كهرباء شهر ديسمبر 2025    استكمال محاكمة سارة خليفة في قضية المخدرات الكبرى.. اليوم    وزير الزراعة: القطاع الخاص يتولى تشغيل حديقة الحيوان.. وافتتاحها للجمهور قبل نهاية العام    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 8 ديسمبر 2025 في القاهرة والمحافظات    ياهو اليابانية.. والحكومة المصرية    غرفة عقل العويط    «القومية للتوزيع» الشاحن الحصري لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2026    رئيس "قصور الثقافة": السوشيال ميديا قلّلت الإقبال.. وأطلقنا 4 منصات وتطبيقًا لاكتشاف المواهب    كم عدد المصابين بالإنفلونزا الموسمية؟ مستشار الرئيس يجيب (فيديو)    مستشار الرئيس للصحة: نرصد جميع الفيروسات.. وأغلب الحالات إنفلونزا موسمية    كيف يؤثر النوم المتقطع على صحتك يوميًا؟    اليوم.. المصريون بالخارج يصوتون فى ال 30 دائرة المُلغاة    وزير الأوقاف يحيل مجموعة من المخالفات إلى التحقيق العاجل ويوجه بتشديد الرقابة ومضاعفة الحوكمة    أحمد موسى يكشف أزمة 350 أستاذا جامعيا لم يتسلموا وحداتهم السكنية منذ 2018    وائل القبانى ينتقد تصريحات أيمن الرمادى بشأن فيريرا    أمن مطروح يفك لغز العثور على سيارة متفحمة بمنطقة الأندلسية    حاتم صلاح ل صاحبة السعادة: شهر العسل كان أداء عمرة.. وشفنا قرود حرامية فى بالى    الموسيقار حسن شرارة: ثروت عكاشة ووالدي وراء تكويني الموسيقي    أحمد موسى: "مينفعش واحد بتلاتة صاغ يبوظ اقتصاد مصر"    متحدث "الأوقاف" يوضح شروط المسابقة العالمية للقرآن الكريم    تعرف على شروط إعادة تدوير واستخدام العبوات الفارغة وفقاً للقانون    عاشر جثتها.. حبس عاطل أنهى حياة فتاة دافعت عن شرفها بحدائق القبة    تجديد حبس شاب لاتهامه بمعاشرة نجلة زوجته بحلوان    حياة كريمة.. قافلة طبية مجانية لخدمة أهالى قرية السيد خليل بكفر الشيخ    الأوقاف: المسابقة العالمية للقرآن الكريم تشمل فهم المعاني وتفسير الآيات    كشف ملابسات فيديو عن إجبار سائقين على المشاركة في حملة أمنية بكفر الدوار    إضافة 4 أسرة عناية مركزة بمستشفى الصدر بإمبابة    الجامعة البريطانية بمصر تشارك في مؤتمر الطاقة الخضراء والاستدامة بأذربيجان    اختبار 87 متسابقًا بمسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن بحضور الطاروطي.. صور    باحث يرصد 10 معلومات عن التنظيم الدولى للإخوان بعد إدراجه على قوائم الإرهاب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 7-12-2025 في محافظة الأقصر    «صحح مفاهيمك».. أوقاف الوادي الجديد تنظم ندوة بالمدارس حول احترام كبار السن    الطفولة المفقودة والنضج الزائف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معاوية بن أبى سفيان حاكم الشدة واللين.. خرج من رحم الفتنة بدولة هى الأكبر والأكثر اتساعاً فى التاريخ الإسلامى.. حوَّل الصراع المحتدم وهجمات الخطر إلى كيان متماسك استمر قائماً لمدة 88 عاماً كاملة

مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
يجيب التاريخ على كل الأسئلة، قائمة كاملة لكل استفساراتك عن الأسرار الخفية حول نشوب النزاعات بين الدول، اندلاع الثورات التى أطاحت بأنظمة وأرست أخرى، واندثار أمم كاملة تحت أقدام جيوش التوسع وأحلام السيطرة على العالم، يسرد التاريخ بين صفحاته قصص قيام دول بقيت متماسكة لمئات السنوات، ثم انهارت على يد حاكم أقوى، أكثر دهاءً ودراية بمقتضيات المشهد الحالى، ولكل حاكم منهم مجدًا خاصًا يستحق النظر، لذلك كان الرجوع إليهم واجبًا لقراءة الإجابات، والوقوف بين السطور بحثًا عن أسباب بقائهم، ومواطن قوتهم التى سمحت بانضمام أسمائهم لملفات التاريخ.
معاوية.. طموح القيادة ينتصر على الفتنة
لن ينسى التاريخ من ضمن هؤلاء اسم «معاوية بن أبى سفيان» الحاكم الذى وضعه المؤرخون فى موضع المنتصف بين الحلم والشدة، فهو لم يكن رجلًا سهل التصنيف، بدأ حكمه فى فترة سياسية عصيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الدولة على شفا بركان، تناثرت شظاياه وطالت آلاف المسلمين الذين سفكت دماؤهم فى المعارك بينه وبين «على بن أبى طالب».
بدأ تكوين الدولة الأموية التى حملت لقب الأكثر اتساعًا على الإطلاق فى التاريخ الإسلامى، فى صباح اليوم الثامن للمعركة الأكثر احتدامًا منذ استل المسلمون سيوفهم رافعين رايات الشهادة فى سبيل الله ورسوله، لم يكن يقينهم كاملًا هذه المرة، فاليوم انقسم المسلمون لفريقين، يدافع الأول عن أحقية على بن أبى طالب فى الخلافة، بينما يحمل الثانى السلاح لنصرة معاوية بن أبى سفيان الذى رفض قرار عزله من ولاية الشام بعد تولى «علىّ»، فخرج لمقاتلته حاملًا ثأر عثمان بن عفان رضى الله عنه فى مواجهة دوافع القتال.

وقف الجيشان على أهبة الاستعداد بكامل العدد هذه المرة بعد أن فشلت محاولات كلا الطرفين فى إرسال فرق صغيرة للقتال فى محاولات عابثة لحفظ ما يمكن حفظه من الأرواح، فكان لابد من المواجهة المباشرة فى معركة «الصفين» أو المعركة الأشهر فى تاريخ أعوام الفتن، علىّ بن أبى طالب يقود جيشًا عاتيًا قوامه 40 ألفًا من خير أجناد الصحابة وأكثرهم بأسًا فى معارك الصفوف الأمامية، بينما يقف بجانب معاوية بن أبى سفيان «عمرو بن العاص» الداهية الذى فاق جيوش «علىّ» خطورة.

بلغ التوتر مبلغه، وارتفعت السيوف لتحصد سبعين ألف روح من الجيشين، بدأت قوات «علىّ» فى التقدم وسقطت الأرواح بغزارة من جيش معاوية، فلجأ «عمرو بن العاص» لحيلة التحكيم بالقرآن ووقف القتال، اضطر «علىّ» كارهًا القبول بالتحكيم بعد رفع المصاحف على أسنة الرماح، لم يكن أمامه بدًا من احتواء ما أثارته مطالب التحكيم من انقسام فى صفوف جيشه، قبل أن يغير اغتياله المفاجئ مسار الأحداث بالكامل.
معاوية يتولى الخلافة على صفيح ساخن
من زخم هذه الأحداث التى لم تنته بنهايتها، بدأ حكم «معاوية» متوترًا مرتبكًا، نخرت الفتنة بنيان الدولة على مر سنوات الصراع منذ اندلاعها فى عهد عثمان بن عفان، يملأ الغضب النفوس، وتتصاعد المؤامرات الجانبية على أطراف الدولة وحدودها المترامية، الجيوش فى حالة من الإنهاك بعد معارك دامت لسنوات قتل فيها المسلمون بعضهم بعضًا تحت راية الإسلام، أما المجتمع ففى حالة انقسام بين من بايعوا معاوية على الموت، ومن قبلوا خلافته كارهين أنصار «الحسن» وشيعة علىّ، تتصاعد نوايا الثأر الكامنة حتى هدوء الأوضاع، ينتظر «الخوارج» الفرصة للانقضاض، بينما يواجه «معاوية» تحدٍّ هو الأخطر فى احتواء الفرق المنقسمة وحماية ما بقى من الدولة من التفكك، كيف خرج معاوية من رحم هذه الفتنة بدولة وصفها المؤرخون بالأكبر والأكثر اتساعًا فى التاريخ الإسلامى؟، كيف حول هذا الصراع المحتدم وهجمات الخطر المرتقبة إلى كيان متماسك استمر قائمًا لمدة ثمانى وثمانين عامًا كاملة؟، كيف هو الرجل الذى رمم أمة مزقتها الفتنة، ليحولها لإمبراطورية امتدت من حدود الصين شرقًا حتى جنوب فرنسا غربًا ووصلت لأفريقيا والأندلس وحدود السنغال وبلاد ما وراء النهر؟، أى عقل تمكن من احتواء ثقافات نصف شعوب الأرض ليوحدهم تحت لواء الدولة الإسلامية، وكيف كُتب لإمبراطوريته الاستمرار على النهج نفسه لعشرات السنوات بعد رحيله، وارتبط اسمه بالجدل الذى لم تخفت ثورته حتى يومنا هذا فى نقاشات التاريخ الإسلامى.
لماذا لم يكن «معاوية بن أبى سفيان» حاكمًا عاديًا؟
للوقوف على أسرار شخصية بحجم «معاوية بن أبى سفيان» كقائد ومقاتل، يجب الرجوع إلى هذا الفتى الذى نشأ فى أسرة لها ما لها من الشهرة والقوة بين سادة قريش، زرع فيه والداه منذ طفولته أحلام القيادة والتوسع، فمن بين قصص طفولته روى أن أبا سفيان نظر إليه وهو طفل وقال «إن ابنى لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه»، بينما لم تكن والدته «هند بنت ربيعة» ترضى بسيادته لقومه فحسب، بل تطلعت إلى ما هو أبعد عندما ردت على مقولة أبيه قائلة «قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة».

نشأ معاوية فى ظل هذا الحث المحموم على اقتناص عرش الخلافة، ولم يكن بعيدًا عن التطلع هو الآخر بطموحات خاصة، وكانت حياته منذ دخوله الإسلام وانضمامه لصحابة النبى وأحد أهم قادة جيوش المسلمين خير دليل فيما بعد على تلك الطموحات غير المحدودة، كما عكست هذه الحياة أيضًا لجوء معاوية دائمًا للحلم والهدوء والصبر فى الحصول على مبتغاه، وكيف عمل باجتهاد صامتًا للترقى لمنصب بعد آخر، بشكل عام كما تشير السير التى تناولت حياة معاوية، مال نسبه إلى بيت يتمسك بمظاهر العزة والوجاهة ولا يفضل أهله الزهد فى أمور الدنيا مثلما كان الحال بالنسبة للبيت النبوى الذى خرج منه خصم «معاوية» علىّ بن أبى طالب.

فكان لمثل هذه التركيبة القبلية المعقدة دورًا ضخمًا فى خلق شخصية محورية فى التاريخ الإسلامى، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع أسلوب صعوده للحكم، أو سياساته فى التعامل مع الفتنة، فلا يمكن للتاريخ أن ينسى ما قام به معاوية بن أبى سفيان لبناء دولة محكمة أعلى فيها من شأن القضاء الذى اتسم بالعدل والحكمة، ووضع لدولته حكومة قوية اختار لها شخصيات ذات طبائع خاصة بين الشدة والطاعة كلًا حسب أهمية مكانه، أسس أيضًا نظامًا شرطيًا قويًا، وأحاط نفسه بالحراس، واتجه لضبط الأمن مع الاتساعات المتعاقبة لدولته وضمها لولايات أخرى تحمل تنوعات ثقافية أكثر صعوبة من سابقتها.
كيف نهضت الدولة الأموية من بين أنقاض الفتن؟
بعد الصلح بين معاوية بن أبى سفيان «والحسن بن على بن أبى طالب» الذى رفض القتال وتنازل للحكم عن معاوية عام 41، بدأ «معاوية» فى خوض التحدى الأصعب لترميم ما صدعته الفتنة، انتهى عهد الحروب، وجد «معاوية» نفسه أمام هذه التركة الثقيلة، فوضع الأسلحة جانبًا، وخفض الأصوات التى مازالت متأثرة بما حدث مع «علىّ بن أبى طالب»، وبدأ حلقة طويلة من سياسات توازن القوى، وإعادة بناء القيادات وضبط أماكنها، اتجه لتأمين دولة مصر التى كادت أن تضيع أثناء النزاعات بعد أن أعلنت تمردها فى أعقاب تولى علىّ بن أبى طالب الخلافة، ثم اتجه بعدها لسياسة أكثر حكمة بحفظ التوازن بين قيادات القبائل العربية المختلفة، تجنبًا لثوراتهم أو انشقاقهم عن الدولة الأم، كما استغل «معاوية» فى بداية إنشاء دولته كروته الرابحة التى راهن عليها فأثبتت رجاحة وجهة نظره، وأبرزها أهل الشام التى ظل واليًا عليها بالكامل لمدة قاربت العشرين عامًا، فكان يضمن تمامًا ولاء أهلها له، والتفافهم خلفه، وكان دائم اليقين بأن أهل الشام فى عونه إن احتاجهم، وفى الوقت نفسه لم يعط «معاوية» أهل الشام فضلًا وامتيازات عن باقى الولايات، لأنه كان يدرك جيدًا حساسية خصومه ومعارضيه، والمتأثرين باغتيال «علىّ» كرمز من رموز بيت النبى.

بعد تأمين مواطن قوته فى مواجهة الانقسامات، بدأ فى تكوين جبهة داخلية تدين له بالولاء بما لا يقبل المواربة، فاختار «عمرو بن العاص» فى مصر التى اعتبرها واحدة من أهم الولايات المحورية التى تحتاج فئات شعبها المتباينة لقائد لا يقل دهاءً عن معاوية نفسه، ثم نشر أتباعه المخلصين من خير السياسيين المعاونين له وقت الأزمة على رأس باقى الولايات، وكان له فى سياسة التعامل مع أتباعه منهجًا فريدًا جعل التآمر عليه أقرب للمستحيل.
قرارات حاسمة فى الوقت المناسب
بين طيات الصلح الذى عقده معاوية بن أبى سفيان مع الحسن بن علىّ بن أبى طالب، كان هناك ثمة اتفاق على أن يعود الحسن لتولى الخلافة بعد انتهاء عهد معاوية، ما يثبته التاريخ هو أن معاوية كان واعيًا لهذا البند وعيًا كاملًا، وعمد إلى تمريره للوصول إلى الحكم بعد صراع طويل مع «علىّ»، فما كان منه سوى أن اتخذ قرارًا حاسمًا بعد توليه الخلافة يقطع الطريق على المتآمرين على السلطة، أو أصحاب الأطماع من تكوين جبهات تستعد للسيطرة على الخلافة بمجرد انهيار حكم معاوية.

ألغى نظام الشورى المعمول به منذ عهد النبى، وحوَّل الخلافة الإسلامية إلى نظام التوريث، لذلك كان فى كتب التاريخ هو أول ملك حقيقى فى الإسلام، انتقلت السلطة من بعده لولده ثم توالى الولاة ممن يحملون الاسم نفسه، كان قرار توريث الحكم كفيلًا بإثارة موجة أكثر قوة من الفتن، كما كان كفيلًا أيضًا بالكشف عن أهم جانب من جوانب شخصية «معاوية» السياسى المحنك، ففى تحليل شهير لشخصية معاوية القيادية قال عنه المؤرخ الشهير «هنرى لامانس»: إن التحليل لحلم معاوية يبين أنه اتخذ من هذه الظاهرة مبدأ سياسيًا، فقد استطاع بليونته أن يجرد كثيرًا من خصومه من سلاحهم، كذلك استطاع بأفكاره المتطورة أن يحوز على رضى وثقة الآخرين، وبالتالى يستسلمون له».

بهذا التحليل تتجلى سياسة معاوية التى تتكئ كثيرًا على الحوار، والحديث القوى الذى يؤثر فى الجموع ويخاطب عقولهم، وتدل على تمسكه فى معظم المواقف بالحلم قبل الغضب، ولكن مع ممارسة الشدة المطلقة، فلا يمكن أن يصفه أحدهم باللين، وفى الوقت نفسه لا يمكن أن تجد فى أحاديث المؤرخين عنه ما يفيد بكونه حاكمًا عنيفًا أو ظالمًا.

إلى جانب ذلك يتجلى ملمح آخر يمكن استشفافه من هذا القرار الصادم آنذاك، أنه يمتلك من القوة والثقة بنفسه وبتأثيره على محكوميه ما يكفى لمواجهة غضب أهل السنّة والمتربصين من الخوارج من القرار الذى حتمًا يخالف ما قامت عليه الدولة الإسلامية. رأى «معاوية» فى تلك الأثناء أن السيطرة الكاملة لن تأتى مع باب مفتوح على مصراعيه أمام رغبات قتله لانتقال الخلافة بحكم الشورى، لم يعد قوام الدولة يسمح بحرب أخرى تنهى ما اجتهد لبنائه بعد انخماد حرب الفتنة.
كيف أحكم معاوية مفاصل دولته من الداخل؟
انتظمت الدواوين، واستقرت الأوضاع بشكل نسبى، اختار معاوية ولاته بحنكة، وأمن حدود دولته جيدًا، قبل أن ينتقل للقضاء الذى عرف طوال عهده بالعدل والنزاهة، ترك «معاوية» فى حركة سياسية ذكية أخرى القضاء لصحابة النبى وأفاضل التابعين، فلم يكن يرغب أن ينحرف الناس عن تعاليم دينهم، كما اختار أن يضع فى هذه الجبهة ذات الأهمية القصوى، أهل ثقة ينظر إليهم الناس نظرة إجلال، فهم صحابة رسول الله وأجدر الناس على الحكم بالعدل فى عهد حاكم عادل.
لم يكن القضاء وحده هو الشاهد على عبقرية معاوية فى بناء دولة لن تنجح هجمات التمرد فى هزيمتها بسهولة، فاستحدث معاوية دواوين لم تكن موجودة قبله، فهو من أنشأ نظام البريد وأعطاه اهتمامًا كبيرًا، ما يدل على إدراكه لأهمية الربط الدائم بين أتباعه فى الولايات المختلفة، لن يقع «معاوية» فى خطأ «عثمان بن عفان» الذى ترك الأمر للولاة يصرفون الأمور كما يحلو لهم، فتفككت الدولة من بين يديه، كانت الرسالة وما تحمله من أوامر وأخبار بالنسبة لحاكم بذكاء «معاوية» أمرًا لا يمكن التهاون فيه، وهو ما يؤكده إنشاؤه لديوان «الخاتم» الخاص فقط بطباعة مراسلات الملك، والمخاطبات الرسمية وختمها بختم ملكى يمنع التزوير.

بمعنى أدق، أحكم «معاوية» مفاصل دولته على الرغم من اتساعها الشديد، وما لهذه الفترة من طبيعة خاصة جعلت التواصل أمرًا شاقًا، وسببًا أيضًا فى اندلاع الكثير من الفتن التى كان من الممكن إخمادها بخطبة فى وقتها الصحيح، سد أيضًا ثغرات كان يراها جيدًا منذ توليه الخلافة، فسد طريق المتآمرين وأصحاب الأطماع والخطط، سيطر على الشعب بالرضا واللين وكرمه الواسع المعروف عنه، وضع حدًا لتزوير المكاتبات الملكية، أنشأ نظامًا عسكريًا داخليًا قويًا مكونًا من الشرطة وحرس الحاكم، وظلل كل ما سبق بقضاء عادل لم يتمكن أحد المؤرخين من نقاد معاوية بالحديث عنه سوى بالعدل والنزاهة والانتصار للحق.
كيف أكسب «معاوية» دولته مهابة خارجية لا تنكسر؟
يمكن وصف هذا الجزء من حكم معاوية بالفصل الأكثر أهمية وثراء على الرغم من أهمية كل الفصول الأخرى، فكان معاوية فيما يتعلق بسياسة الدولة الخارجية وحشًا شرسًا لا يعرف الرحمة ولا الهوادة، أكسب حكم معاوية على هذه الدولة التى تكونت بالسيف والجهاد على مدار سنوات طويلة، هيبة وجلالًا وقوة تاريخية، فكانت الدولة الأموية تتسع بمرور السنوات، حتى أصبحت الدولة الأكثر اتساعًا فى التاريخ الإسلامى.
بدأ معاوية فى إعادة الفتوحات الإسلامية بعد توقفها أثناء سنوات الفتن منذ عهد عثمان بن عفان، ولم يختر معاركه بصورة عشوائية، بدأ بتأمين حدود دولته الشمالية الغربية من خطر الرومان، كما اتجه للتسليح فبلغ حجم أسطوله 1700 سفينة حربية، انطلقت للاستيلاء على جزر قبرص ودروس، ووصل بها لأسوار القسطنطينية، وأعاد فتح أفريقية ونشر الإسلام بها.

استكمل معاوية ما بدأه من نضال من قبل توليه الخلافة، فلم يتوقف حلم السيطرة على شمال أفريقيا ووسط آسيا عن مراودته، كما رأى معاوية وقتها أن السيطرة على المغرب والزحف الإسلامى تجاه أفريقيا أمر لابد منه لتحقيق التوسعات المطلوبة، ونشر الإسلام فى أكبر رقعة ممكنة، وربما هو الأمر الذى وسع من شعبيته، وعزز بقاءه حاكمًا معتدلًا قويًا، لا ينفصل عن هذا الاستيعاب الطريقة التى عامل بها «معاوية» أصحاب الأديان الأخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.