كثيرة هى نماذج اللامنتمى فى بلادنا، وكثيرة هى أسباب صناعته، هل لى أن أستعير هذا التعبير الذى كانت له صولات جولات؟!، عندما نذكر هذا العنوان؛ يتقافز إلى الذهن فى الحال كولن ولسن، مؤلف كتاب "اللا منتمى"، إننى أشعر بحاجة شديدة إلى إعادة استخدام هذا المسمى فى الوقت الراهن، وفى بلدنا العزيز الذى تفشى فيه اللا انتماء، وصار كل مواطن منكفئا بالكاد على مصالحه الشخصية يراعيها ويحاول بدأب أن يستثمرها؛ ويظل طوال يومه منهمكا فى محاولة اكتساب أساسيات حياته، دون النظر حوله؛ بمعنى دون أن يفكر فى أى عطاء من الممكن أن يقدمه للآخرين، قال لى أحد الصالحين يوما: بلغنى عن حبيبى أنه قبل أن يخرج كل يوم، كان يجهز فى جيبه كل صباح ما سينفقه على المحتاجين أو فى سبل الخير، ويكون من أجود ما يمتلك، وكان الخير وفيرا، عطاء غير منقوص يأتيه من رب العالمين، بينما الواحد منا يخرج الآن من بيته وفى داخله خوف من المستقبل، خوف على مصيره ومصير أبنائه من بعده يدفعه دفعا إلى العمل بدأب ليل نهار ليجمع أقصى ما يستطيع جمعه، لأنه يعرف أن هناك بطالة؛ ويرى الشباب منتشرين على المقاهى وفى الطرقات، يبحثون عن عمل شريف؛ وقلما يجدون؛ أحيانا نراهم واقفين فى طوابير طويلة مملة؛ مبدين الموافقة على العمل؛ أى عمل؛ حتى ولو كان مع الشيطان من أجل أن يحصل الواحد منهم على ما يقيم أوده، أو ليكوّن له أسرة ؛ وينفصل عن أسرته الكبرى، وهذا هو منطق الزمن ومصير الكائنات، عدد من يفلحون من الشباب فى فترة معقولة فى اجتياز هذه العقبة قليل جدا، تعودوا الوقوف صامدين؛ يتحمل الواحد منهم أعباء أسرة جديدة، وإن نجح فى ذلك؛ تراه ينغمس إلى شعر رأسه فى أعمال يومية كثيرة، لكى يسد رمق تلك الأسرة ويستطيع تدبير إيجار شقته وشراء الطعام والصرف على العلاج والكساء؛ بالإضافة طبعا إلى الفواتير؛ فواتير الأقساط والكهرباء والماء والغاز والتليفون؛ كل هذا ولم نذكر ما يستجد من احتياجات الحياة ومتطلباتها، وهكذا. نعم؛ بل يجب أن يطلق علينا هذا الاسم؛ أنفار متجاورون متزاحمون فقط متواجدون سويا على الأرض، لا أمل يجمعنا ولا هدف يضمنا ونسعى إليه، بل ولا نساهم فى معرفة الغد الذى ينتظرنا، صرنا أعداد غفيرة من المتواجدين المتزاحمين، لا أمل ولا جدوى!!، سوى الجرى واللهاث وراء سد الحاجات!!، نعم سد الحاجات أو سد الحنك او سد الرمق، هو أملنا جميعا؛ صار هدفا لمعظمنا وحتى أكون صادقا صار الشغل الشاغل ل 99% من الناس. *** دعونا ننظر؛ كم منا ينتمى إلى فريق أو هيئة؛ أو يعمل من أجل هدف يرقى به وبمن حوله؟ كم منا تشغله تطورات العالم حولنا ويحزن لأننا نستورد كل التكنولوجيا تقريبا، كم منا ينشغل بمحاولة رؤية العالم والتعرف عليه ؟ وهل لنا أن نفكر فى ذلك؟ هيهات!! كيف نفكر فى ذلك وأرجلنا مغروسة فى الطين؟ كيف تطلب من رجل أن ينظر إلى السماء وهو لا يجد قوت عياله إلا بصعوبة بالغة؟ كيف؟. ما رأيك؟ الحل هو أن نقتل هؤلاء الأولاد؟ لا سوف ندخل النار ربنا أمرنا بالعكس، ألا نقتل أولادنا.. ولكن أولادنا سيصبحون أنفارا بهذه الطريقة، ولا يجدون فى هذا العالم لهم أثرا أو فائدة تذكر؟! *** اكتشفت أخيرا أننا نتفق فى مشاعر السخط الدفين وفى علامات الاكتئاب البادية على ملامحنا البائسة. من يخدم هذا البلد؟ هل نأتى له بغرباء يخدمونه ونقف للفرجة فقط كما يحدث أحيانا؟، صرنا نأكل بعضنا بعضا، عندما اقتربت من مبنى المحكمة؛ كان الزحام شديدا، رجال كثيرون من المحامين، أعرفهم ببدلاتهم الكاملة وربطة العنق المميزة، حولهم وبينهم جمهور غفير من الناس، ينتشرون فى أدور المحكمة وقاعاتها المختلفة.. وجدت السياج الحديدى وأفراد الامن المدججين بالسلاح يقفون بأسلحتم وقد منعوا المرور من الشارع الذى توجد به المحكمة، فى انتظار عربة الترحيلات، ابتسم من هول المهزلة التى نعيشها، وقد صرنا مغرمين بجلد الذات، نشعر بالغربة عن هذا الوطن؛ أسأل نفسى: لماذا كل هذه المشاكل والخلافات بين الناس؟ هل فقدنا القدرة على التصالح والرغبة فى السلام والاسلام؟ كنت أتمنى أن يكون مبنى المحكمة بعيدا عن تلك المنطقة الآهلة بالسكان والتى يتم بها يوميا إيذاء مشاعر المواطنين، هل تم عزلنا والاستغناء عنا وعن آراءنا التى يسمح لنا فقط أن نلوكها ليل نهار؟ وهل تم الاستغناء عن خدماتنا التى من المفروض أن نقوم بها خلال منظومة تقوم بها الدولة ؟ هل فقدنا البوصلة التى من الممكن أن تهدينا إلى طريق سليم نحو آفاق المستقبل؟ بمعنى آخر؛ هل صرنا عاجزين عن تحديد نقاط ضعفنا وأولويات الاصلاح وكيف نبدأ؟ مازلت أسأل نفسى دوما؛ ولن يدركنى اليأس حتى أعثرعلى إجابة له: هل صرنا نحن حقا خارج نطاق الخدمة؟ *** ماهر