نقلا عن اليومى.. سيدة سوّاها من سوّى التفاح على أغصان الفردوس، ابتلاء لشهوة آدم، ومن أيقظ النبيذ فى روح الكَرْم، وفى وعى الظمآن المتوضّئ بالطاعة والممسوس بوَجْد المعصية، جدلت القداسة والغواية فى ضفيرة واحدة، وحلّت على هامة الفتنة، فحالت بين الخرقة والزاهد، واستحالت تجسيدًا ميّاسًا، وتحقُّقًا ملموسًا، لآية الخلق الموّار المتجدِّد فى طين المخلوق، ولتجسير الفجوة بين السموات والأرض، ولإتيان الألباب من مكامنها، وإقامة قُدّاس الله على قارعة الشيطان، وتعبئة كؤوس السمَّار بمعصور العُبّاد وقُوّام الليل، وشىء من دمع ملائكة الله وكوكبه الدرىّ. وفق معهود الدراما، ومطروق السبك والتدشين، كلّلت العادية رأس الستّ - تمامًا كما اعتاد الاستثنائيون - فجاءت على مثال أبلاه الاستهلاك، طفلة فقيرة لأسرة ريفية، لم تكن فارعة القامة، ولا منحوتة القوام، ولا بارعة الجمال، فقط فاطمة إبراهيم البلتاجى، ابنة المنشد ومؤذن القرية، ولو أتعب كُتّاب سيناريوهات الحياة أقلامهم، وأجهدوا كشّافات شخصوهم وأبطالهم، ربّما صادفوا ألف نموذج مطابق، بفقر وعوز طَبَعَا آلاف البيوت ووشَّيَا ملامح ناسها، وبتسرية ليلية بالإنشاد والغناء وقصائد التصوُّف، وبقوام وسيط بين الطول والقصر، وبين الامتلاء والاعتدال، وملامح أكرمها النحّات فكانت موفورة التشكُّل، ممتلئة ومتزاحمة، ربما كانت مُتقنة فى أحاديّاتها، ولكنها لا تجيد الائتلاف ونسقَ وحُسنَ الجوار وفق ما استقر فى كتاب الجمال، هى الأنثى العارية من كل عَرَضىّ وطارئ، من كل مظهر ومناط نظر، فبعينين جاحظتين كبلورتين بلاستيكيّتين فى كأسين مترعين بالماء، ومنخار واسع كقربة على أهبّة الانفجار، وبوجنتين بارزتين تنحدران بحدّة إلى وادٍ ذى فم كحافة بئر دارس، تدانيه ذقن بارزة وعنيفة الدوران، خلّص النحات تمثاله - المنذور للفعل فى الروح لا النظر - من كلّ ما يعوق الرسول عن رسالته، ويسرق من بهاء الصوت بأبهاء الصورة، ولعلّه وضع خلاصة طاقته، وخام تعريفه واقتداره على الجمال، فى تشكيل الحنجرة وتندية أحبالها الصوتية، ومسحها بالسحر والموسيقى وماء السماء وعسلها، فجاءت كوكب الشرق كوكبًا دُرّيًّا، ومشكاة فيها حنجرة، الحنجرة فى زجاجة، الزجاجة كأنها منتهى الإعجاز ومآل المقتدرين، والإعجاز والمآل نفساهما كأنهما «أم كلثوم». بين طماى الزهايرة بالدقهلية مولدًا مُختَلَفًا فيه - بتاريخين متباينين: 31 ديسمبر 1898، و4 مايو 1906 - وبين حى الزمالك بالقاهرة وفاة لا خلاف فيها، 3 فبراير 1975، عاشت الفاطمة أم كلثوم سبعًا وسبعين سنة، أو خمسًا وستين، عبرت ما لم يعبره عتاة السيّارين والرُّحّل من صروف وعوارض الأيام، وأتت ما لم يأته الأوائل من أبناء الله الاستثنائيين والمبدعين، وبينما ألقت الستّ محصول أَلَقِها وحصادَ إبداعها فى 6 أفلام سينمائية، و306 أغنيات فقط، متأخرة عن طوابير من آباء وصنّاع الموسيقى والتمثيل والغناء من أسلافها ولاحقيها، ظلّت فى معارج لا تدانيها الحناجر، بصوت فاره وباذخ المقدرة والعطايا، منحوت كأنه مُتَعيّن مادىّ يملأ العين ولا تحيطه، وأثيرى كأنه الهواء، رحم للبدن وجنين فى الصدر، وثرىّ ومُزركش كأنه جوقة من المُغنّين يصدحون لحنًا واحدًا، «بولوفونيًّا» ومتجاور الخطوط والمساحات، فكأنك فى حضرة الحنجرة النورانية الكلثومية، على مرأى ومسمع من جهاز الصوت المعيارى الذى يقيس الله عليه الأصوات، ويوزّع حصص وأرزاق الناس منها. عبرت الستّ فى رحلتها القدسية المقدّسة، على عشاق ومعشوقين، ممّن أحبّوها أو أحبّتهم أو أحبّوا على أغنياتها، رسولاً للحب وسلوانًا للمحبّين ولوعة لهم فى الآن ذاته، عبرت على طوابير من الشعراء، معاصرين وقدامى، لتكون كتابًا مُصطفى لصنعة الشعر، ومرجعًا يؤرّخ به للكلام، وكذلك عبرت على أهم مُلحّنى وموسيقيّى جيلها: رياض السنباطى 103 أغنيات، ومحمد القصبجى 69 أغنية، وزكريا أحمد 63 أغنية، وأحمد صبرى النجريدى 17 أغنية، وبليغ حمدى 11 أغنية، ومحمد عبد الوهاب 10 أغنيات، وأبو العلا محمد 9 أغنيات، وأغنية لكل من عبده الحامولى وأبو العلا محمد وفريد غصن، ولحّنت لنفسها أغنيتين. فى رحلة الستّ ستجد ما لا عين رأت، فهى من آلهة الآذان وربّات الحناجر والأوتار، وإن كانت قد أنشدتنا من روح الصوفىّ القطب عمر الخيام، وبترجمة أحمد رامى: فما أطال النوم عمرًا ولا قصّر فى الأعمار طول السهر، فإنى أكاد الآن - وبعد أربعة عقود على الرحيل - أسمعها تنشد بشموخها المعهود: فما أقال الموت صوتًا ولا نالت من الذكرى عقود السفر.