جلس فى ركن قصى يبكى بعدما ذهبت عنه السكرة وجاءته الحقيقة المرة كالحة بوجهها، فقد رحلت أمه. تذكر كيف كانت تنهض من نومها منتصف الليل بعد يوم طويل شاق من العمل كخادمة فى البيوت لتطمئن عليه، وهو يغط فى نومه يشعر بها حينا، فيطلب أن يشرب، ولا يراها غالبا، فتغطى من تعرى من إخوته. تستيقظ فى برد الصباح والدنيا من حوله ملتفة بالغطاء من لفحة البرد القارص، تتحامل على قدميها اللتين أنهكهما الروماتيزم، كى تسرع للحى الراقى، فتوقظ أهل البيت الذى تعمل به بعدما تعد لهم طعام الإفطار، وتجهز أبناء الأسياد للحاق بمدارسهم، ثم تعود لبيتها، لتوقظ من بقى منهم على فراشه، وتدفعه دفعا للذهاب للمدرسة كى يحصل العلم فى رأسه الفارغة، وكم من مرة حملته على أكتافها ذاهبة به للمدرسة فى الصباح رغم تأخره. تدور الذكريات فى رأسه وقتما ضربته الحمى، فتظل أمه طوال الليل جالسة أسفل قدميه، تدعو الله حينا وترفع بصرها للسماء أحيانا خجلا أن تعاود طلبها من رب توقن بلا أدنى شك أنه رحيم بها، وكلما تقلب فى فراشه نزلت بعض السكينة فى قلبها، حتى شفى بعد أيام طوال فازدادت ثقتها بالله. توارت الشياطين خجلا منه وقتما كان لسان الأم يتدلى وعيناها تجحظان وقلبها يخفق فى لحظاته الأخيرة إشفاقا عليه، بعدما ترحل من يقظة الضمير، وتتساءل فى لحظات الموت، ابن من أنت؟ وأين كانت السماء وقتما كنت أطعمك من جسدى؟ لم يعرف من أى صخر قُدَََ قلبه الذى دفع الدم إلى أجزاء جسده وقتما كانت يداه تشد الإيشارب حول عنقها لا دفعا للأذى عنها وإنما إحكاما للموت من حولها. تضاربت الأقوال فى شأنه ما بين مستنكر للفعلة الشنعاء، ولا يرى لها من علاج سوى القتل، ومن قائل إنه ابن حرام، لكنهم يعودون سريعا لتبرئة الأم، ومن يبرر على خجل فعلته، ويرجع الأسباب للقهر الاجتماعى، أو البطالة، أو لرفقة السوء، أو لخطأ فى التربية، وانحراف فى ميزان القيم، لكن لم يتعاطف معه أحد، ولا حتى نزلاء التخشيبة. جلس فى ركنه القصى بزنزانته، ينتظر الموت الذى يحمله إلى حيث أمه، التى لن تفرح بمجيئه إليها، بعدما خرج علينا كخبر فى صفحات الحوادث، يشير إلى أن مباحث القاهرة، كشفت غموض مقتل ربة منزل داخل مسكنها عقب صلاة العيد، حيث أشارت التحريات الأولية، أن وراء ارتكاب الواقعة ابن المجنى عليها، حيث طعنها بسكين فى رقبتها بعد خنقها لرفضها إعطاءه 400 جنيه، ألقى القبض على المتهم الذى اعترف بتفاصيل جريمته، وبكى 4 مرات أثناء التحقيقات وكرر: "لم أقصد قتلها.. ولكنها هى التى دفعتنى إلى ذلك.. ولكنها هى التى دفعتنى إلى ذلك".