عادةً ما يشْغلُ البعضُ أنفسَهم بالتساؤلِ حولَ الحُدودِ الفاصلةِ الواصلةِ ما بينَ سُلطةِ المُثقف وسُلطة السياسى: مِنْ أينَ تنبعُ سُلطة المثقف فى الواقعِ السياسى؟ وكيف يمكنُ للمعرفةِ أنْ تلعبَ دورًا مُهمًا، إيجابياً كانَ أو سلبياً، فى الحياة العامّةِ ؟ وما الأدوارُ التى تترتَّبُ على وجودِ المُثقف بقربِ السياسى ؟ وللإجابةِ على تساؤلاتٍ كهذهِ يمكنُ القولُ بدايةً بأنّ مَنْ يَملِكُ السُلطة السيّاسيةَ يحتاجُ ضرورةً إلى نوْعٍ مِنَ المَعارفِ يُساعِدهُ فى صراعهِ مع مُنافسيهِ ويُمكّنهُ فى الوقتِ ذاتهِ مِنَ الاحتفاظِ بالسُلطة. وهذه المعارفُ تكونُ مهمَّتُها الرئيسيّةُ مُمثلةً فى إضفاءِ طابعٍ مِنَ الشرعيّةِ على السُلطةِ المُعلنةِ من جهة، وأنْ تُرَسّخَ مِنْ صورتَها الحَسنة - إذا ما كانتْ موجودةً بالفعلِ - لدى العامّة منْ جهةٍ ثانية. وفى المحصلة، لا تنفكُ السلطةُ السياسيةُ بحاجةٍ ماسةٍ إلى السُلطةِ الثقافية، وهو أمرٌ قد وعتهُ جيداً فظلتْ حريصةً على الهيمنةِ شبهِ الكاملةِ على مُمثلى السلطةِ الثقافية، تستمِدُ منها تأكيداً لشرعيةِ وجودها عند الرعيةِ، وتلجأ إليها لتبرير وتمرير قوانينها وأهدافِها التى تخْدمُ مَصالحها. وفى مقابل ذلك كان ممثلو السلطةِ الثقافيةِ على وعْى تامٍّ بطبيعةِ المصالحِ المُشتركةِ التى تقومُ عليها العَلاقة بينهم وبين السلطةِ السياسية. فالمثقفون إمّا أن يكونوا أدواتٍ للهيمنةِ على مستوى المجتمع المدنى، وإما أن يكونوا أداةً من أدواتِ السيطرةِ على مُستوى المجتمع السياسى (مُستوى الحكم الذى يُمارَس عبرَ الدولةِ وقوانينها). ليسَ غريباً، والحالُ هذهِ، أنْ نُصادفَ فى السياق الأخير كلاً منْ: المثقف المرتزق Freelancer، والمثقف الإمعة Yessman Intellectual، فى مقابل كلٍ منْ: المثقف الثورى Revolutionary، والمثقف المُضْطَهَد الذى يشعرُ بافتقاد الهُوّية Identity وتزايد القهْر الأيديولوجى Ideological Coercion الذى تمارسه السلطة تجاهه غالبا. ونتيجةً لذلكَ، يكادُ يكونُ الشعورُ بالاغترابِ Alienation حالةً شبهَ دائمةٍ تعْترى المثقف فى علاقته بالسلطة القائمة، فتارةً يغتربُ عن ذاتِه، وتارةً أخرى يغتربُ عن مُجتمعه، فيما تقِفُ بعضُ العوائقِ حائلاً دون تحقيق فرَصٍ أعلى للحِراكِ الاجتماعىSocial Mobility لهؤلاء المثقفين. والواقعُ أنّ ذلكَ عيْنُ ما تريدهُ السُلطة للمُثقف، أنْ يكونَ غيرَ ذى صلةٍ بقضايا الجمهور - باستثناءِ تلكَ القضايا التى يهُمُّهَا إطلاعُ الجماهير عليها وتزييفِ وعيَها بهَا- ما دامَ المثقفُ يمتلكُ سُلطةَ الهيمنةِ عليها، وما دامَ يسْتقطِبُ مُستمعينَ ومُريدينَ وأتباعًا. وللأسف الشديد لقد نجحَ أصحابُ السلطةِ السياسيةِ من خلال هؤلاء فى تحقيق المكاسبِ التى لم يستطيعوا تحقيقهَا عبرَ اللجوء الدائم إلى استخدام العُنف والاضطهادِ. فإذا كان بوسعِ طاغيةٍ أحْمقَ أنْ يُقيّدَ عبيدَهُ بأغلالٍ من حديد؛ فإنّ السياسى الحقيقى يُقيدهمْ بأغلالِ أفكارهمُ الشخصيّة، وهوَ قيدٌ أقوى بكثيرٍ من أساليبِ التعذيبِ المُختلفةِ، خاصةً وأننا نجْهَلُ نسيجَه ونظنُ أنه مِنْ صُنعنا وأنه محضُ إرادتنا.. وتلك قضية أخرى!! [email protected]